«القرض الحسن»: 117 مليون دولار لأكثر من 72 ألف مقترض


ولدت بعد اجتياح 1982 «لمنع تحول الناس إلى لاجئين في أرضهم».. وبات لها اليوم 18 فرعاً..

أكثر من مرحلة صعبة مرت بها «جمعية مؤسسة القرض الحسن» منذ انطلاقتها عام 1983، وما زالت أبوابها مفتوحة أمام طالبي القروض الصغيرة. ولعل «عدوان تموز» كان «الضربة» الأقسى في سجل الجمعية، حيث انهارت ستة مبان واستحالت ركاماً (مع مخازن الذهب) من أصل عشرة فروع لها آنذاك، بما فيها الإدارة المركزية في بئر العبد. الا أن مقترضاً واحداً لم يفقد حقه في الذهب، الذي يودعه في الجمعية كضمانة للتسديد. كما أن طالبي القروض لم ينتظروا لطلب حاجتهم أكثر من شهرين، كانت كفيلة بتأمين مبان بديلة، وإعادة تحريك العجلة من جديد.

«قطوع» آخر لم يكن أقل إيلاماً في مسار الجمعية، يتمثل بانعكاس قضية إفلاس رجل الأعمال صلاح عز الدين، التي رشح مع انكشافها مقولة تورط الجمعية في مشاريع الرجل الاستثمارية، ما انعكس حذراً وتوجساً من قبل بعض المتعاملين معها. إلا أن غبار المقولة سرعان ما انقشع مخلفاً ثباتاً في وضع الجمعية المادي.

وقد صنّف «البنك الدولي» الجمعية، التي تقدم القروض لأصحاب الحاجات الإجتماعية والإنتاجية ممن يملكون ذهباً مقابل رهن الذهب لديها، في العام 2008، المؤسسة الإقراضية (القروض الصغيرة) الأولى في لبنان. غير أن ثمة علامة استفهام حول آلية تقديمها القروض، وعما يميزها عن بقية المؤسسات الإقراضية، وتحديداً المصارف، وحول طبيعة المستفيدين ودوافع حاجاتهم للقروض. وذلك في موازاة أسئلة حول طبيعة الركائز التي تعتمد عليها خلال الأزمات، بما يشكل وقوداً للصمود.

أنجز فريق العمل للتو الجداول السنوية مع بداية السنة الجديدة، وتبيّن الأرقام حجم أعمال الجمعية، وقيمة القروض الإجمالية لعام 2009، التي تجاوزت 117 مليون دولار. وذلك في مقابل أكثر من 72 الف مقترض، في فروع يربو عددها اليوم على 18 فرعاً. علماً بأن الحد الأقصى لقيمة القرض الواحد يوازي خمسة آلاف دولار، وتصل المدة القصوى للتسديد 30 شهراً.

وما لم تقله الأرقام، قاله بشفافية مدير الجمعية حسين الشامي، الذي لم يتردد في الكشف عن ضغوط كان قد تعرض لها، من قبل قلة من رجال الدين، ممن عاتبوه بسبب تقديم قروض لغير المسلم. فكان جوابه بأن «الله تعالى ينزل خيره من المطر والثمر على كل الناس ، بلا استثناء». وحتى يبقى العمل بمنأى عن تأثير رجال الدين، يخبرنا الشامي كيف توقفت الجمعية عن تلقي الحقوق الشرعية، واعتمادها بشكل رئيسي على مشاريع استثمارية صغيرة، ومساهمات الناس.

وعن نسب توزّع المستفيدين تبعاً للطوائف، يقول: «لا يليق بنا ان نفرز النسب طائفياً. ولكن بشكل عام الشيعة هم النسبة الأكبر، يليهم السنة، ثم المسيحيون». ويتوزعون حسب المناطق كالآتي: 61 في المئة منهم في بيروت وجبل لبنان، 25 في المئة في صيدا والجنوب، و14 في المئة في البقاع. وتفند دوافع الحصول على القروض وفق حاجات المقترضين كالآتي: 50 في المئة لقضاء حاجة، 27 في المئة تسديد ديون، 6 في المئة سكن، 5 في المئة استشفاء ودراسة، و3 في المئة زواج وأثاث منزل.

الذهب وتخمينه واختلاف أسعاره

تنفرد الجمعية بصيغة إقراض خاصة، يشرحها الشامي بقوله: «قد يحتاج شخص الى مبلغ مالي، ويملك قطعة ذهب يرغب بالاحتفاظ بها، باعتبارها عزيزة عليه معنوياً. فنخمّن الذهب، وعلى أساسه نقرضه مبلغاً مقابل حفظ الذهب».

تخمنون الذهب على طريقتكم، وليس تبعاً لسعر السوق؟ يرد الشامي: «نحن نحتاط بموضوع التخمين كي لا ينخفض سعر الذهب فتتضرر المؤسسة. علماً بأننا نحتفظ بالذهب كأمانة ترد الى صاحبها لدى تسديده القرض».

وفي حال لم يتمكن المقترض من تسديد المبلغ، هل تشترون الذهب منه بناء على تسعيرتكم الخاصة، أم تعيدون تثمينه بناء على سعر السوق؟ يرد بقوله: «نعيد تثمينه وفق تسعيرة السوق. ولا مصلحة لنا بأخذ درهم واحد إضافي الى رسوم التخزين والرسوم الإدارية».

يقال أن هذه الرسوم هي وجه آخر «للفائدة» التي تتجنبونها على المستوى الشرعي. يعلق الشامي على هذا القول: «غير صحيح. التخزين ليس وهمياً. هناك كلفة لتخزين الذهب وتأمينه ونقله. نحن ندفع بدل إيجارات وبدل حراسة. وخلال «عدوان تموز»، لم يفقد المقترضون أياً من إيداعاتهم من الذهب. حافظنا على كل شيء. أليس لكل ذلك كلفة؟ علماً بأن الذهب تضرر في مخازنه وخسر من قيمته، ولكننا بعيد العدوان افتتحنا محلاً لبيع الذهب، من أجل أن نعيد للناس حقوقها، وعدم تحميلهم أي أعباء إضافية».

بماذا تتميز المؤسسة عن المصارف؟ يرد الشامي بقوله: «كما قلنا، هناك كلفة غير عادية لتخزين كميات الذهب وحفظه، إضافة الى أتعاب الموظفين، ونتقاضى رسوماً رمزية، لأننا نعتمد أساساً على الاستثمارات والمساهمات. أما المصارف فلا تخزّن الذهب وهي معفيّة من هذه الكلفة، وتفرض فوائد على القروض ليست بصغيرة. بل إنها تتقاضى بدلات مستقلة عن استثمار خزنات حديدية لديها لحفظ الذهب الخاص بالزبائن، وهي بدلات «حرزانة». ولو كان هناك أمان في المجتمع، لما كنت مضطراً لأخذ الذهب كرهن. في الماضي، كان الناس يقرضون بعضهم من دون كتابة ورقة أو تحرير إيصالات في ما بينهم، اما اليوم فإن المقترض «يجرجر» المدين لسنوات عدة من أجل أن يعيد له حقه. وفي الماضي حاول البعض في لبنان افتتاح مؤسسة إقراضية مماثلة من دون اخذ أي رهن مقابل القروض، الا أنها لم تستمر طويلاً».

«لا نتعاطى البورصة»

كيف تصمد المؤسسة خلال الأزمات، وهل تأثرت بالأزمة المالية؟ يجيب بقوله: « نعتمد سياسة مالية متحفظة، لا نتعاطى البورصة، ونتجنب المغامرة، خصوصاً في ظل الوضع الراهن في لبنان، وفي ظل التهديدات الدائمة للبلد. فبسبب»عدوان تموز» على سبيل المثال كنا عرضة للتهجير، لذلك نأخذ احتياطاتنا دائماً على الصعيدين البنيوي والمالي، والا كيف نجونا من «قطوع» العدوان؟ وكل أزمة تعرضنا لها منذ التأسيس ضمن إطار البلد، ومنها أزمة التلاعب بقيمة العملة الوطنية، تمكنا من تجاوزها. فنحن لا ندخل في صفقات غير مدروسة خارج البلد. وكذلك فعلنا بالنسبة الى قضية المفلس صلاح عز الدين، الذي لم نستثمر أموالنا في مشاريعه (ومعظمها في الخارج)، بالرغم من عرضه علينا ذلك ذات مرة. غير أن شيوع خبر إفلاسه انعكس حذراً لدى الناس، الا أننا تعاملنا معهم بحكمة ومرونة، وبما يطمئنهم الى عدم وجود أي علاقة مع الرجل، ومرت الأمور على خير».

وكانت الجمعية قد انطلقت عام 1983، عقب الاجتياح الاسرائيلي للبنان، حيث برزت الحاجة الى إيجاد مؤسسة إقراضية لسببين، يعيدهما الشامي «من جهة الى انتشار ظاهرة تلقي بعض الناس للمساعدات خصوصاً في السبعينيات، ما جعلنا نخشى أن نتحول الى لاجئين في أرضنا، وأن يعتاد الناس على ما يشبه التسول. ومن جهة أخرى، الى عدم إمكانية إيجاد مقاومة من دون العمل على تغطية حاجات المجتمع، وبشكل لائق وكريم. فكان مشروع «القرض الحسن» عملاً بالآية القرآنية: «من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم». كما أن الأحاديث النبوية تشير الى أفضلية القرض على الصدقة».

أنواع القروض.. والتبرّع

لا يغفل الشامي عن ذكر الصعوبات التي واكبت انطلاق المؤسسة، إذ أن الناس لم يكونوا معتادين على ثقافة هذا النوع من القروض. فبدأت حملة لنشر هذه الثقافة على مستوى الناس والعلماء والمعنيين بالشأن الاجتماعي. تضاف اليها صعوبات مادية نظراً لوضع الناس الاقتصادي آنذاك. فلجأنا آنذاك الى الحقوق الشرعية بإجازة من قبل بعض المراجع الدينية، كما خضنا مجال المشاريع الاستثمارية الصغيرة. ثم توقفنا عن تلقي هذه الحقوق ليتم تحويلها الى مؤسسات إنسانية كانت أوْلى منا بها. وركزنا، الى جانب المشاريع الاستثمارية، على مساهمات الناس، من خلال مبالغ يودعونها لدينا، ويستردونها بعد فترة من دون الحصول على أرباح. وكان الانطلاق في مبنى على طريق المطار (يشغله اليوم مستشفى الرسول الاعظم)، ثم انتقلنا منه الى آخر في حارة حريك، حيث كانت الانطلاقة الأساسية. وبدأنا بالتوسع الى أن وصل عدد الفروع الى 18 فرعاً في كافة المحافظات اللبنانية. ويضم فريق العمل الاجمالي 150 موظفاً، اضافة الى بعض المتطوعين، وجلهم من أهل الاختصاص وحملة الشهادات. وثمة امكانية لافتتاح فروع جديدة، لا سيما أن أصحاب بعض المصارف يطلبون منا نقل التجربة الى مناطق أخرى في نطاق جبل لبنان والشمال».

ولكن، ليس من يملك ذهباً بإمكانه وحده الاستحصال على قرض. فالجمعية أطلقت منذ عام 1998 «مشروع الاشتراك الشهري»، الذي يقضي بضرورة أن يكون المستفيد من قروض الجمعية مشتركاً بمبلغ شهري لا يقل عن عشرة آلاف ليرة. ويحق له كفالة مقترضين آخرين من حساب اشتراكه، عملاً بما يسمى «بقروض بضمانة مشتركين». كما اطلقت «مشروع المساهمة» لحث الميسورين على المساهمة المالية في الجمعية، لمساعدتها على إعطاء القروض لمستحقيها، بحسب الشروط التي يحددها المساهمون، ومن دون تحملهم أي مسؤولية، وفق مبدأ «قروض بضمانة مساهمين».

كما أن هناك «قروضاً عينية»، وهي عبارة عن كفالة تقدمها الجمعية الى مؤسسات تجارية وخدماتية متعاقدة معها، لصالح المقترض، بما يمكنه من شراء السلع والخدمات منها بالتقسيط لآجال مختلفة وبأسعار تشجيعية.

وبموازاة القروض، تبادر الجمعية الى تشجيع أهالي القرية الواحدة على تأسيس «صندوق القرى»، بما يمكّنهم من الاستفادة عبره من قروض ميسرة، «لتعزيز روح التعاون في ما بينهم». كما تهتم بإنشاء «صندوق الجمعيات والمؤسسات الأهلية» بما يتيح لموظفيها أو المستفيدين منها عبر تقديمات ثابتة، الحصول على قروض ميسرة. أضف الى ذلك، «صندوق التكافل الاجتماعي» الذي يؤسسه أشخاص تجمع بينهم روابط معينة (أقارب، جيران، زملاء عمل)، يستفيدون بدورهم من قروض ميسرة بشكل دوري.

تعليقات: