لبنان يواجه فقاعتين: مالية وعقارية


ارتفاع أسعار الشقق ناجم عن مضاربات تتغذى من تدفقات خارجية

ترتبط أسعار الشقق، جذرياً، بالتدفقات المالية الخارجية، ما يحوّلها إلى مضاربات عقارية تتغذى من السياسات النقدية المتّبَعة. فالإحصاءات تؤكد أن تضاعف الأسعار بنحو 2.5 مرات خلال 4 سنوات ليس متولّداً من طلب محلّي، وهذا ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني وفرزاً اجتماعياً، ما يؤكد أن لبنان يشهد انتفاخ فقاعتين متزامنتين: الأولى عقارية والثانية مالية، وهذا يستدعي تدخل الدولة في العرض وإقرار ضرائب عقارية وتنشيط سوق الإيجارات

يرى الوزير شربل نحاس أن إدارة التدفقات النقدية، وهي من أكثر المفاصل ضبطاً في لبنان، تُسهم في ارتفاع أسعار الأصول الثابتة، وبينها العقارات، وتجعل السوق هجينة، وفقاً لحاجات القطاع المالي وتحقيق أرباح ريعية الطابع، بعيداً من حاجات السكان. إذ إن ارتفاع أسعار الشقق السكنية في ظل شبه استقرار في عدد السكان، وفي ظل الأزمات السياسية والأمنية المحلية والأزمة الاقتصادية العالمية، ليس مبرراً إلا من زاوية المضاربات العقارية المعلنة والمستترة.

انتقاد نحاس للسياسات النقدية، جاء في خلال الطاولة المستديرة التي عُقدت أول من أمس في فندق «لو غبريال» بعنوان: «كيف يمكن الشباب اللبناني أن يشتري منزلاً؟»، بدعوة من اللجنة الاقتصادية في التيار الوطني الحر، وشارك فيها مسؤولون في مؤسسات الإقراض السكني وباحثون وخبراء اقتصاديون.

واقع سوق العقارات

من أبرز المعطيات الثابتة في لبنان، وفقاً لنحاس، غياب إحصاءات ذات موثوقية عن هذا الموضوع، فالمعطيات العقارية المتاحة مرتبطة برسم تسجيل العقار، ما يجعل صدقيتها معلّقة على وجود مصلحة مشتركة لإخفاء السعر الحقيقي بين البائع والمشتري والموظف المعني. ومن الثابت أيضاً، أن أسعار العقارات السكنية «تضاعفت بين عامي 2004 و2008 بما لا يقل عن 2.5 مرات على عكس اتجاهات هذا القطاع عالمياً، رغم انخفاض عدد السكان بنسبة 0.4% على نحو متفاوت مناطقياً، ومرور أزمات سياسية وأمنية، وأخيراً الأزمة المالية العالمية، وازدياد معدلات الهجرة، وتقلّص متسارع في حجم الأسر مقابل زيادة بطيئة في عددها».

وبالتالي، فإن مقوّمات الطلب لم تكن متأتية عن تطور ديموغرافي، واللافت أن وتيرة الطلب والعرض في سوق العقارات غير مرتبطة بحركية الاقتصاد، لأنه لا ينعكس زيادة في الطلب على المساحات غير السكنية... ويستنتج نحاس أن الطلب متولّد من غير المقيمين في لبنان، ولا سيما أن نسبة المساكن الثانوية والمساكن الشاغرة ارتفعت، أي إنه طلب موضعي لا يتصل بحركة السكان الداخلية. ويردّ على الذين يسوّقون تضخم أسعار العقارات بأنه «طبيعي» مقارنة مع الأسعار في دول المحيط، فيشير إلى أن أسعار الأراضي الزراعية في لبنان، أعلى بنحو 4 مرات أو 5 مرات مقارنة مع بعض الدول الأوروبية، لكن مستوى إنتاج أراضي هذه الدول يفوق الإنتاج المحلي بين مرتين و3 مرات!

عمليات مضاربة

في الواقع، يؤكد نحاس أن الطلب على تملّك السكن هدفه تنويع محفظة الاستثمارات التي تستفيد من آليات الدعم من المال العام، أي إن تضخم الأسعار ناجم عن مضاربات عقارية. فالملاحظ أن هوامش أرباح المطورين العقاريين لم تزدَد، فيما كانت الحصة الأكبر من زيادة أسعار العقارات من نصيب أسعار الأراضي، وهو ما أكّده ايضاً رئيس مجلس إدارة مصرف الإسكان جوزف ساسين، إذ قال إن إحصاءات المصرف تشير إلى أن حصة سعر الأرض ارتفعت لتمثّل نصف سعر الشقّة.

ويُكمل رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، رسم مشهد المضاربات، لافتاً إلى وجود اختلال بنيوي بين العرض والطلب، فالمساكن التي تُبنى لا تلبي الحاجات السكانية للمقيمين، والعرض لا يوفّر المساكن الصغيرة والمتوسطة مقابل أكثر من إشباع في المساكن الكبيرة، ما يشير بوضوح إلى أن شراء المنازل هو عبارة عن تنويع استثمارات المغتربين. ويأتي هذا الأمر في ظل احتقان مالي يبحث عن مخارج لأزمته، فتتدخل الدولة لتحفيز شراء المساكن عبر دعم الفوائد، أي لزيادة الطلب، فيما تنأى بنفسها عن أي تدخل في جانب العرض، ما يعمّق الأزمة.

في السياق نفسه، يذكر ساسين، أن إحصاءات المصرف تظهر أن 40% من مجمل التسليفات السكنية حصل عليها غير المقيمين، مقابل 60% للمقيمين. وفي رأيه، إن من أسباب «تهافت المغتربين على شراء العقارات المحلية، ولا سيما العاملون في دول الخليج، أنهم يعملون ويعيشون ضمن سوق عقارية متأثرة جداً بتبييض الأموال، وبالتالي فإن أسعار العقارات في المناطق التي يعملون فيها أعلى من أسعار العقارات في لبنان»! وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من مصدر الطلب يعود إلى توظيف خارجي (من مغتربين وأجانب) يسمح باستيراد تضخم الأسعار من الخارج. ويقول إن ظاهرة تضخّم أسعار العقارات في لبنان ليست مسبوقة، إذ يتضاعف سعر الشقة بعد خمس سنوات، أي إن عائدات توظيف الأموال في المتاجرة بالشقق أفضل من عائدات السوق المالية، علماً بأنّ التوظيف العقاري يستفيد من «تسهيلات» قانون تملك الأجانب وقصر السياسات الضريبية، وارتفاع معدلات استثمار البناء في بيروت إلى 5.5 بلا أي مقابل، وهو من أعلى المعدلات.

أما المبررات السائدة عن نُدرة الأراضي في كونها سبباً رئيسياً في ارتفاع الأسعار، فلا يمكن الركون إليها، إذ يؤكّد نحاس أن «لبنان قد يكون حالة نادرة، باعتبار أن كل الأراضي يمكن استخدامها للبناء»، علماً بأن هذا الأمر يزيد الأعباء على البنية التحتية وعلى نوعية الخدمات المقدمة، ما يستدعي أن يكون مخطط ترتيب الأراضي إلزامياً. ويؤكّد نحّاس أنّ معدّلات الكثافة السكانية في لبنان ليست أعلى من مناطق أخرى في العالم لا تعاني صغر المساحة، وبحسب إحصاءات الدولية للمعلومات، تمثّل المساحات المبنية في لبنان 7% فقط من مجمل مساحة لبنان.

والملاحظ، بحسب نحاس، أنّ سوق العقارات المحليّة لا تُشبه السوق الخليجية التي شهدت فقاعة عقارية انفجرت في الفترة الأخيرة، فيما تشهد السوق المحليّة فقاعتين متوازيتين زمنياً: مالية وعقارية. بدليل استمرار الاتجاه التصاعدي الثابت في المؤشرات المالية والعقارية، وارتباطهما ارتباطاً وثيقاً.

آثار سلبية

إذاً، ماذا تحمل هذه المضاربات من ترددات وآثار سلبية؟ يقول نحاس إن ارتفاع أسعار الأراضي يؤثّر على كيفية استخدامها ويرفع أسعار السلع، ويمثّل آلية توزيع سلبية للدخل تتزامن مع ارتفاع المؤشر العام للريع، إذ إن التدفقات النقدية إلى لبنان ينجم عنها ارتفاع الأسعار الداخلية، وأكثر ما يرتفع هو أسعار الأصول الثابتة، لأنها ليست خارجية، علماً بأن توظيف هذه الأموال في الأدوات المالية والعقارية غير خاضع للضريبة.

ويرى الأمين العام لجمعية مصارف لبنان، مكرم صادر، أنّ الوضع الذي نشهده ناجم عن كلفة السياسات النقدية المتبعة، فقد لا تتلاءم الطروحات بشأن ارتفاع حجم الودائع، واستعمالها، ومعدلات الفوائد... مع سياسة الدولة النقدية، التي لا تزال مركّزة على تدفق الأموال وتوظيفها في شهادات الإيداع وسندات الخزينة.

من جهة ثانية، لا يزال تدخل الدولة مقتصراً على اتجاه واحد، بحسب فضل الله، والهدف «تكييف الأوضاع مع السوق، لا تكييف السوق مع حاجات السكان المقيمين»، مشيراً إلى أن مسألة خفض معدلات الفوائد هي أمر ضروري بوصفها جزءاً من أي معالجة، فضلاً عن ضرورة معرفة النتائج الحقيقية للاحتقان المالي على القطاع العقاري، باتجاه زيادة مرونة العرض باتجاه المساكن الشاغرة.

اجتماعياً، يقول نحاس إن هذا الوضع أدى إلى نشوء ظاهرة تراكمية على صعيد الهجرة، وحصول فرز ديموغرافي بين المناطق. فيما يذكر رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للإسكان، عبد الله حيدر، أنّ ظاهرة تتصل بالطائفية والمذهبية انفجرت أخيراً، فقد بات مجلس إدارة المؤسسة يدرس بين 30 و40 طلباً، كلما عُقد، موضوعها نقل الرهن من منزل إلى آخر في منطقة مختلفة. ويرى رئيس الدولية للمعلومات، جواد عدرا، أنّ السلطة لا ترى «أولوية وطنية» في السياسات الإسكانية، فعندما حزمت أمرها، «مكّنت سوليدير من فعل العجائب». واللافت أن أراضي بيروت لم تعد مشغولة من أبنائها الذين نزحوا باتجاه عرمون وبشامون وغيرهما من المناطق خارج بيروت، وهي حركة سنوية تعدّ بالآلاف. ويؤكد رئيس اللجنة الاقتصادية في التيار الوطني الحر، نقولا صحناوي، أن ثلث ناخبي الأشرفية يعيشون خارجها، وهناك ثلث مهاجر، فيما يعيش في بيروت الثلث الأخير فقط، وحجمه يتدنى بنسبة تصل إلى 10% سنوياً.

الحلول: ضرائب وإيجارات

في المقابل، لا يزال سوق الإيجارات مقفلاً بانتظار انتهاء أزمة المستأجرين والمالكين، لكن الأخطر بحسب الزميل محمد زبيب هو تسويق ثقافة «مجتمع الملكية» حلّاً لمشكلة السكن، فيما الواقع يشير إلى أنّ الآليات المتّبعة للتمويل تُسهم في زيادة الأسعار بالتوازي مع انخفاض القدرة الشرائية للمقيمين، ما يزيد تهميش الفئات ذات الدخل الأدنى في المجتمع، التي لا يستطيع دخلها أن يلبي شروط تمويل شراء المسكن، فيما يتدهور مستوى معيشة الفئات المتوسطة، باعتبار أن النشاط الاقتصادي يتركّز في كذا كيلومتراً في بيروت ومحيطها حيث بات مستحيلاً على هذه الفئات السكن والعمل هنا، وهذا ما يفرض نقاشاً مختلفاً لا ينطلق من مسلّمتين يجري تسويقهما: حق كل مواطن بتملّك مسكن، وحق كل مالك في أن يفعل بملكه ما يشاء. وطرح زبيب فكرة القبول بأن ارتفاع الأسعار يرتّب كلفة عامّة على المجتمع، وهذا يستدعي، برايه، تغييرات جذرية في السياسات، ولا سيما الضريبية منها!

واستحوذ موضوع فرض الضريبة على الريوع والعقارات كجزء أساسي من الحل، إذ دعا فضل الله، إلى إعادة النظر بمستوى تدخل الدولة في العرض والطلب العقاري، لإعادة توجيه القطاع باتجاه دعم القروض لنوع معين من الإسكان وفي أماكن محددة، ومعالجة موضوع المضاربات العقارية عبر زيادة الضرائب على الريوع، فيما رأى زبيب أنه يجب اعتماد النظام الضريبي أداةً لتحقيق توازنات اجتماعية، لا لجباية الإيرادات. ورأى الخبير الاقتصادي، سمير نصر، إمكان تمويل صندوق دعم خاص بالإسكاني عبر الضرائب.

لكن نحاس أوضح أن المسألة الضريبية تُطرح في لبنان من وجهة نظر مختلفة، «فهناك توجّه لدى الحكومة بأن تزيد الضريبة على الاستهلاك لتغطية عجوزات الموازنة، وهذا الأمر سيكون له ارتدادات سلبية. وبما أن عجز ميزاننا التجاري وسياستنا النقدية المستقرّة التي تؤكد أن الدولار هو عملتنا، هما أمران مستمران، سينجم عن اقتطاع الضريبة من الدخل رفع أسعار الاستهلاك، فيما يجب الذهاب مباشرة إلى خفض أسعار العقارات مباشرة وفرض ضريبة على قيمة الأرض.

60 ألف قرض

هو عدد القروض السكنية التي تحملها المصارف في محفظة تسليفاتها بمتوسط 72 مليون ليرة للقرض الواحد، بحسب الأمين العام لجمعية المصارف، مكرم صادر. علماً بأن المؤسسة العامة للإسكان موّلت منها 32450 قرضاً مركّزة بنسبة 80% في جبل لبنان.

للأثرياء فقط!

يقول رئيس «الدولية للمعلومات»، جواد عدره، إن بيروت أصبحت مدينة للأثرياء، «حتى ضمن أحيائها الفقيرة والشعبية، إذ إن سعر المتر المربّع السكني لا يقلّ عن 1500 دولار في المناطق الشعبية والمباني القديمة أو المتوسطة، ويرتفع إلى ما بين 3000 دولار و8000 دولار، أي إن سعر الشقة بمساحة 100 متر مربع سكني لا يقلّ عن 120 ألف دولار، وهذا الرقم كبير جداً قياساً على دخل العائلات، ولا سيما الشابة منها، إذ إن نحو 55% من الأسر يقل دخلها الشهري عن 1000 دولار شهرياً.

 السلطة لا ترى «أولوية وطنية» في السياسات الإسكانية
السلطة لا ترى «أولوية وطنية» في السياسات الإسكانية


تعليقات: