أزمة النظام: تحوّلات وحلول

برّي ماضٍ في طرحه بشأن الطائفية السياسية
برّي ماضٍ في طرحه بشأن الطائفية السياسية


أزمة النظام السياسي اللبناني هي ما يدفع ببعض أطرافه إلى التحرّك من أجل التغيير فيه، أو في بعض آليات عمله، أو حتى، من أجل تغييره تغييراً محدوداً. أسباب هذه الأزمة عديدة ومتنوّعة، بعضها اجتماعي وبعضها سياسي، وبعضها الثالث ديموغرافي، ورابعها خارجي متفاعل مع معطيات الداخل.

ولقد أدّت هذه الأسباب، ما ذكرنا منها وما لم نذكر، إلى متغيّرات وتحوّلات في المعطيات وفي التوازنات. وتطفو الآن على سطح السجال الدائر، سواء كان للتبرير أو النقد أو الرفض أو الإصرار، عناوين ليست بعيدة من الحقيقة. هذه العناوين التي تُقال أو لا تُقال بما يكفي من الصراحة والوضوح، لا تشمل كلّ الأسباب والمبرّرات وخاصة ما يتناول الشق الاجتماعي، أي خصوصًا ذلك المتصل بتحوّلات البنية الطبقية للبورجوازية (أو حتى للبورجوازيات) اللبنانية وبحركة وتفاعلات ومتغيّرات ناشطة على مستوى المنطقة.

هذا لا يعني البتّة أنّ أسبابًا أقل أهمية ليست ماثلة في المشهد الحالي الذي يمرّ به الصراع في لبنان. من ذلك السعي لمقايضة أمر بآخر، أو تحقيق مكاسب سلبية أو إيجابية في هذا الحقل أو ذاك، أو تحسين دور ونفوذ وحصة في اللعبة التقليدية اللبنانية...

ويتصل ذلك حكمًا بأنّ الإصلاحات والتغييرات التي طرأت في مجرى التحوّلات التي عرفتها تجارب بلدان أخرى، لم تكن في أسبابها أكثر فعلاً أو أهمية مما يعيش لبنان. في هذا المعنى فإنّ صيغة النظام ليست هي المقدسة أو الغاية، بل هي الدور والوظيفة اللذان يؤدّيهما في خدمة القوى الاجتماعية ــــ السياسية المقرّرة التي هي، كما ذكرنا، في حالة تحوّل في التوازنات وفي العلاقات وفي ما يجري اعتماده من الأدوات والأساليب.

ويجب القول في امتداد ما تقدّم، إنّ التغيير يصبح عملية موضوعية سواء تأخّر تبلوره أم لم يتأخّر. ففي عملية التأجيل أو التسريع فقط، تلعب العوامل الذاتية والإرادية دورًا مؤثّرًا. ولهذا، فإنّ ميل البعض إلى اعتبار ما يحصل مجرّد مناورة من هنا أو محاولة تحسين موقع أو الدفاع عنه، من هناك، هذا الميل، يخفي عدم ثقة بوجود أزمات في النظام الطوائفي اللبناني. وهو يخفي، بالتالي، عدم ثقة بصحة التحليل الذي يقول إنّ التناقضات القائمة والمتفاقمة في بنية اجتماعية ــــ سياسية ما، لا بدّ من أن تصل في مرحلة ما، إلى كسر هذه البنية من أجل خلق تحوّل يكون، بالضرورة، في مصلحة الطرف الأقوى.

ولو دخلنا قليلاً في البنية الطبقية ــــ الاجتماعية ــــ السياسية الديموغرافية اللبنانية، لوقعنا على الكثير من المتغيّرات. ونكتفي هنا بمثلين فحسب. الأوّل واضح وبسيط ومتداول وهو ديموغرافي: نسبة المسلمين إلى المسيحيين في تعداد المقيمين تقترب من الثلثين لمصلحة المسلمين في مقابل الثلث الباقي للمسيحيين (بالتحديد 65% و35%). وفي مرحلة ليست بعيدة، تنبّه بعض المتنوّرين المسيحيين لهذا الأمر. وكان من أبرزهم المطران غريغوار حداد. فهذا الرجل الذي تمتّع عامة، بحساسية كبيرة حيال شؤون العدالة والحرية والمساواة، طالب بدون مساومة، بضرورة إلغاء الطائفية، وخصوصًا السياسية منها. وذهب في تبرير هذا الأمر إلى حدّ القول بأنّ المساواة في الحصص بعد انهيار التوازن الديموغرافي هي ضرب من الافتئات على حقوق الآخرين: وبسبب هذا الطرح تعرّض لما تعرّض له من الحصار، وصولاً إلى العقاب على يد «مختلّ»، أي متشدّد متعصّب مندفع ومدفوع!

أما المثل الثاني، فمن تحوّلات البنية الاجتماعية. وهي تحوّلات تنعكس فيها جملة أمور ومؤشرات. فلو أخذنا مثلاً ما طرأ بسبب سياسة اليد المرفوعة والحدود المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات وسطوة الشركات العابرة للحدود والقارات... وكذلك بسبب التحالفات والاستقطابات وتبدّل التوازنات بشأنهما، وكذلك أيضًا بسبب جني الثروات وتراكم رؤوس الأموال وشمول ذلك مختلف القطاعات والحقول... وكذلك أيضًا وأيضًا، بسبب ترابط حركة الصراعات السياسية مع نشوء المحاور المذهبية من هنا وهناك، إلى عمليات الفرز والضمّ والإلحاق والتهجير... كلّ هذه الأمور لم يعد يمكن الصمود في مواجهتها، لأن أكثرية الوكالات الحصرية، ما زالت ولو بنسبة أقل، لمصلحة الفريق من البورجوازية الذي ينتمي إلى الطوائف المسيحية!

طبعًا، لا ينفع في مواجهة هذا الأمر إخضاع كلّ التحوّلات التي ذكرناها أو التي لم نذكرها، إلى منطق المحاصصة بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين. ويصبح هذا المنطق أكثر ابتذالاً وهزالاً وعدم مشروعية عندما توضع هذه المناصفة في مواجهة قيم المقاومة والتحرّر، ولو بشعارات تصبح فئوية وأحيانًا فارغة ومتناقضة في مجرى التطبيق من نوع: الدفاع عن السيادة والهوية والاستقلال. وفق هذا المنطق الفئوي يصبح تحرير الأرض وطرد المحتل ومواجهة العدوان الخارجي على الوطن والأمّة والحقوق، مسألة لا علاقة لها بسيادة الأوطان وبحريّتها وباستقلالها!

في مجرى تمجيد دور إحدى المؤسسات الدينية، يُنسب إليها أنّها كانت الرائدة والمتقدّمة في عملية التصدّي عام 1925 لقرار صدر عن المفوّض السامي الفرنسي ساراي الذي أمر يومها (تحت تأخير أكثرية يسارية حملتها الانتخابات الفرنسية) بإجراء انتخابات وتعيينات متجاهلاً العامل الطائفي والمذهبي. في حينه كانت مصالح طبقية بورجوازية ناشئة وصاعدة تأتلف تمامًا مع هذه الوجهة. جرى في ظروف ملائمة بناء الإدارة السياسية اللبنانية على هذا الأساس. يومها تنبّه متنوّرون إلى أنّ هذا الواقع مؤقت. جرت الإشارة إلى هذا الأمر في الدستور اللبناني لعام 1926. تكرّس «المؤقت» مجدّدًا في المادة 95 من دستور الاستقلال، وصار المؤقت هو الدائم حتى بعد تعديلات «الطائف» عام 1989!

موضوع السجال اليوم يشبه في مآله المتوخى ما صارت إليه حركات تغيير اتّسمت بهذا القدر من الجذرية أو ذاك في غير بلد من العالم. لا بدّ من أن تُرفع وصاية المؤسسات التقليدية المحافظة والرجعية والمعادية لعملية التغيير، عن الحياة السياسية في لبنان.

بناء إدارة مدنية للبلاد، في نطاق نظام مساواة وحريات، هو الحلّ، وهو أيضًا الضمانة للجميع. في مثل هذا النظام، يجد اللبنانيون حلاً أو بداية حلّ لأزمات متعدّدة ومتراكمة ومتفاقمة، تكاد تذهب بوجود بلدهم وليس فقط بوحدته وتماسكه وعافيته

واستقراره.

هذا بعض الحقيقة على مستوى أطراف السلطة اللبنانية وتحوّلات الوضع في بنية النظام السياسي اللبناني. أما بعض الحقيقة الآخر فيقع في مكان مختلف. ذلك أنّ حلّ أزمات الوضع في لبنان، لا ينبغي أن تتفرّد في صياغته أطراف المعادلة التقليدية اللبنانية. في هذه الحالة، لن يأتي الحلّ كاملاً بل جزئيًا، ولن يكون وطنيًا بل فئويًا. سيكون بالتأكيد متعارضًا مع مصلحة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وسيكون بالضرورة، ملبّيًا لمصلحة قوى رأس المال والبورجوازية الكبرى بكلّ سلبياتها الداخلية وارتهاناتها الخارجية.

من هنا تأتي أهمية بلورة مشروع وطني يجب أن تنهض به وتنهض معه قوى التغيير الجذري في لبنان.

* كاتب وسياسي لبناني

تعليقات: