الطلاق في لبنان: تراجع الخيار العائلي لدى الشباب لصالح الخيار الفردي

خاتم الزواج الذي يرمز في الأساس إلى «العلاقة اللانهائية» بين الشريكين
خاتم الزواج الذي يرمز في الأساس إلى «العلاقة اللانهائية» بين الشريكين


400 حالة طلاق سنوياً مقابل 1500 عقد زواج..

ترتفع نسبة الطلاق في لبنان، نعم. لكن ليست تلك هي الظاهرة الرئيسية، على أهميتها. فوجود نسبة كبرى من جيل الشباب، تطلب الطلاق، بعد الزواج بقليل، أو قبله، أي خلال فترة الخطوبة، هو الظاهرة. ويقول الباحث في علم الاجتماع العائلي الدكتور زهير حطب إن عدد عقود الزواج في لبنان يبلغ سنوياً ما يقارب الألف وخمسمئة عقد زواج، بينما تبلغ أحكام الطلاق ما يقارب الأربعمئة حكم سنوياً، أي بنسبة اثنين وثلاثين في المئة، بينها نسبة اثني عشر في المئة أحكام طلاق بين أزواج أسسوا عائلة، ثم قرروا الانفصال. أما الباقون فانفصلوا في عمر الشباب، خلال مرحلة الخطوبة، أو بعد الزواج بقليل.

ويعتبر حطب أن الانفصال في مرحلة الخطوبة، ليس طلاقاً، والأصح فيه القول: إنهاء عقد الزواج. بينما يعتبر الدكتور في علم النفس العيادي، عباس مكي، أن الانفصال في تلك المرحلة، يشكل دليلاً على وجود مشكلة أكثر تعقيداً من أسباب الطلاق بعد الزواج، وهي عدم قدرة الشاب والفتاة، على خوض تجربة العيش المشترك في البيت الزوجي.

الميزة الثانية في الظاهرة هي عدم وجود مرجعية واحدة في لبنان لتحديد نسب الطلاق، لأن لبنان مجتمع تعددي دينياً، وما يسري على جماعة من طائفة معينة لا يسري على جماعة من طائفة أخرى. وهنا، يشرح حطب أنه توجد لدى كل طائفة من الطوائف خصائص معينة في مسألتي الزواج والطلاق: «هناك مثلاً الزواج المبكر المعروف عند الشيعة، والزواج المتأخر المعروف عند الموارنة، والزواج في العقد الثالث من العمر المعروف عند الجماعات المدينية، وبالتالي، فإن كل جماعة هي إبنة معطياتها الدينية والتاريخية».

كذلك، فإن مصطلح «الطلاق» نفسه غير موحد وغير واضح المضمون بالنسبة إلى الناس، لأن الطلاق مصطلح إسلامي، جرى تحديد شروط استخدامه، وهو قرار يتخذه الرجل منفرداً (قبل الخوض في اجتهاد «العصمة» وتوزيعها بين الطرفين)، بعد أن يكون قد دخل في علاقة زوجية فعلية، وأمضى حياة مشتركة مع زوجته. هنا، يكون استخدام مصطلح «الطلاق» استخداماً صحيحاً بالمعنى الإسلامي. أما حين يتعرف شاب إلى صبية، ويذهبان إلى المحكمة ويعقدان قرانهما، لأن والد الفتاة مثلاً لا يقبل بعلاقة بين الجنسين علنية من دون وجود رابط شرعي، ثم، بعد انقضاء فترة قصيرة، وتبادل الشابين لحوار ساخن ينتهي بإنهاء العلاقة، فذلك ليس «طلاقا»، وإنما «إنهاء عقد زواج».

وبذلك المعنى، يصل عدد حالات إنهاء عقود الزواج إلى خمسين في المئة من عقود الزواج في لبنان.

أما بالنسبة إلى الطوائف المسيحية فلا يوجد مصطلح «طلاق»، وإنما «بطلان زواج»، أي عدم توافر الشروط لعقده من الأساس، بوصف الزواج سراً من أسرار الكنيسة لا يمكن فسخه.

تبين الإحصاءات في المحاكم الشرعية والروحية أن نسب الطلاق ارتفعت خلال السنوات الأربع الماضية، مع التذكير بوجود فارق كبير في النسب بين المحاكم الإسلامية (السنية والجعفرية)، وبين المحاكم المسيحية، حيث يشكل الطلاق لدى الأخيرة أصعب الحلول التي يلجأ اليها الرجل والمرأة.

تعتبر معاملات الطلاق في المحاكم الجعفرية، الأكبر عدداً، مقارنة بالمحاكم الاسلامية الأخرى.

وتفيد معلومات وفرتها المحكمة الجعفرية الرئيسية بأن عدد معاملات الطلاق في بيروت بلغ 435 معاملة، مقابل 1427 معاملة زواج في العام 2006، و399 معاملة طلاق مقابل 1289 معاملة زواج في العام 2007، و451 معاملة طلاق مقابل 1220 معاملة زواج في العام 2008. تضاف إليها 227 معاملة طلاق أبرمت حتى تاريخ الرابع والعشرين من حزيران الجاري، مقابل 365 معاملة زواج.

بناء على ما تقدّم، أبرمت 1512 معاملة طلاق خلال السنوات الأربع الماضية، مقابل 4517 معاملة زواج، مع التذكير بأن المحكمة الجعفرية تعلن تلك الأرقام للمرة الأولى بطلب من «السفير»، لأنها لم تعتمد قبلها إصدار أرقام تفصيلية، وإنما نسب عامة تقريبية.

أما في المحكمة الشرعية السنية في بيروت، فقد بلغ عدد معاملات الطلاق 512 معاملة في العام 2007، و620 معاملة في العام 2008، و122 معاملة حتى الخامس والعشرين من حزيران العام الجاري.

في محكمة بعقلين الدرزية، وهي المحكمة التي تتولى قضايا الزواج والطلاق في الشوف، بلغ عدد معاملات الطلاق 76 معاملة مقابل 451 معاملة زواج في العام 2007، بينها أربع حالات جرت فيها مصالحة، وتمت العودة إلى الحياة الزوجية. أما في العام 2008 فقد بلغ عدد معاملات الطلاق 67 مقابل 574 زواجاً، بينها عشر حالات جرت فيها مصالحة، وتمت العودة إلى الحياة الزوجية.

تعتبر المحكمة المارونية، في ذوق مصبح، المحكمة الوحيدة للموارنة في لبنان، وقد بلغ عدد دعاوى بطلان الزواج فيها 179 دعوى في العام 2006، فيما بلغ عدد دعاوى الهجر 48 دعوى. وفي العام 2007، بلغ عدد دعاوى البطلان 245 دعوى، والهجر 47 دعوى. وفي العام 2008، بلغ عدد دعاوى بطلان الزواج 261 دعوى، ودعاوى الهجر 29 دعوى.

تعتبر محكمة جبل لبنان الأرثوذكسية، الواقعة في برمانا، هي الأكبر بين المحاكم الأرثوذكسية، لأنها تشمل نسبة ما يقارب الخمسين في المئة من المواطنين الأرثوذكس. ويقول رئيس المحكمة، الأب إبراهيم سعد، إن عدد الدعاوى خلال السنوات الخمس الماضية كان متساوياً تقريباً، ويتراوح بين مئة وثلاثة وعشرين وبين مئة وخمسة وعشرين دعوى سنوياً، «بينما كان قبل هذه السنوات أقل بكثير»، بحسب الأب سعد. وقد بلغ عدد الدعاوى الخاصة بفسخ الزواج وبطلانه ما يقارب الخمسين دعوى سنوياً.

وفي حال استئناف الحكم، يجري تحويل الملف إلى محكمة الاستئناف للبت به مجدداً. ويوضح سعد أن الدعاوى تختلف عن الخلافات الزوجية، مشيراً إلى ارتفاع نسبة الشكوى من الخلافات، من دون أن يكون كل خلاف موضع دعوى.

أسباب الطلاق ومتغيّراته

يحدد مستشار المحكمة الجعفرية الرئيسية، الشيخ عبد الحليم شرارة، استناداً إلى تجربته، مجموعة من الأسباب التي تؤدي إلى الخلافات الزوجية، أبرزها: الاختلاف بين الخصائص الشخصية لكل من الزوج والزوجة على المستوى الفكري أو الاجتماعي أو الأخلاقي، «أي، ما يتعلق بالقيم التي تحيط بنا أو نسير على أساسها، وينعكس ذلك تفاوتاً في سلوكيات الزوجين، ويحدث اختلافاً بينهما». السبب الثاني الذي يحدده شرارة هو وجود أو ظهور مشكلة نفسية لدى أحد الزوجين، «وتلك الظاهرة منتشرة كثيراً، مع العلم أنه لا يجري الالتفات إليها. وتنعكس تلك المشكلة على العلاقة الزوجية المباشرة، أي العلاقة الجنسية، كما تنعكس اضطراباً في السلوك داخل المنزل، ويؤدي تراكمها إلى الطلاق».

في الدرجة الثالثة، يأتي دور العلاقة خارج الزواج في إحداث طلاق، ويوضح شرارة أن «المرأة تشعر بتهديد كياني في حال تزوج زوجها من إمرأة أخرى، فتطلب الانفصال».

ووصف الحاجة المادية بأنها ليست من أصول المشكلة، وإنما من الأسباب الطارئة على المجتمع، والتي تؤدي إلى الخلافات الزوجية.

وقال إن تغير موقع المرأة الاجتماعي، بعد خروجها للعلم والعمل، «ينتج رفضها لصيغ معينة لا ترضيها في العلاقة الزوجية، مثل أعطاء الزوج حق السلطة لنفسه، أو تعنيفه لزوجته أو ما شابه. لكن المشكلة هنا ليست في موقع المرأة، وإنما في صيغ العلاقة غير الصحيحة التي تشملها المؤسسة الزوجية».

ويرى شرارة أن المؤسسة الزوجية تمر حالياً بمرحلة اضطراب، تمهيداً للوصول إلى صيغة مستقرة: «وتلك المرحلة ناتجة عن وجود خلل تاريخي في تربية المرأة وتصنيفها بأنها مخلوق من الدرجة الثانية». ويعتبر أن المجتمعات الإسلامية لم تطبق الإسلام، «وإنما طبقت قيما وتقاليد قبلية وعشائرية تجاه المرأة والرجل».

بدوره، يتحدث المستشار في المحكمة السنية الشرعية في بيروت، القاضي محمد عساف، عن «ظاهرة تسرع كل من الشاب والفتاة في الزواج، وفي عقد الزواج، بعد تعرفهما إلى بعضهما في الجامعة أو الحي، من دون إعطاء الوقت الكافي لمزيد من التعارف». ويقول إن معظم تلك الحالات ينتهي سريعاً بطلب الطلاق.

ويورد مثالاً عن آثار الوضع الاقتصادي المتردي على الزواج: «إحدى الزوجات طلبت الانفصال عن زوجها لأن دخله لا يسمح له بالإنفاق على عائلته، مع العلم أنهما راغبان في البقاء سوية. وعادت الزوجة إلى منزل أهلها مع أولادها، في انتظار تحسن مدخول الزوج».

يرى أن عمل المرأة ليس هو المشكلة، «لكنه يصبح كذلك عندما يؤثر على الحياة الزوجية، وتروح تردد المرأة أمام زوجها: أنا متعبة لست قادرة على القيام بواجباتي المنزلية أو اتجاهك».

إلا أن أبرز ما أشار إليه عساف هو تغير وضعية المرأة المطلقة في مجتمعها: «كانت وضعيتها صعبة، وأصبح حالياً الطلاق مثل الزواج. فقد سجلت في المحكمة التي أعمل فيها، نساء مطلقات يتزوجن للمرة الثانية... كما تلقت امرأة أخرى التهاني من عائلتها بعد طلاقها، لأنها كانت مظلومة في زواجها».

ويعتبر أن قبول المجتمع بوضعية المرأة المطلقة، ناتج عن نضوج فكري في النظر إليها، وإلى حقها بأن تعيش حياتها براحة.

في المحاكم المسيحية، تعتبر إجراءات الطلاق من أصعب الإجراءات في لبنان، ولا يجري بت الدعاوى فيها سنوياً. فقد تستغرق مدة الدعوى الواحدة ما يقارب الثلاث سنوات، وأحياناً أكثر من ذلك، في حال كانت أسباب الخصومة قوية. وإذا استؤنفت، يجري تحويل الملف إلى محكمة الاستئناف.

تقوم الكنائس المسيحية بإعداد الزوجين لمرحلة الزواج، وتوجد لدى الكنيسة الأرثوذكسية مراكز يخضع فيها الزوجان لأربع محاضرات، تشمل النواحي اللاهوتية وكيفية حل النزاعات وإرساء أسس التواصل والحوار.

تعتبر المحاكم الأرثوذكسية من أكثر المحاكم المسيحية التي تتيح انفصال الزوجين، وتصنّف الأحكام فيها ضمن ثلاث فئات: فسخ الزواج، وبطلانه، والطلاق.

يقول رئيس محكمة جبل لبنان، الأب سعد، إن أبرز الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الخلافات الزوجية، كذب الزوجين على بعضهما البعض في أمور خاصة بالوضعين المالي والاجتماعي، والعلاقات خارج الزواج. بينما يعتبر الزواج في المسيحية سراً مقدساً، يعتمد بالدرجة الأولى على كشف كل من الزوجين ذاته أمام الآخر. ويضيف أنه «لا توجد في الدين المسيحي عصمة عن الخطأ، لكن الزواج هو وعد وانطلاق إلى ما بعد».

وفي تراتبية أسباب الخلاف، يأتي تالياً انتشار الأمراض النفسية التي تؤثر على حياة الزوج والزوجة والأولاد، وتأثير الأهل على الرجل أو المرأة في بعض الحالات، وخاصة الأم: «فهناك رجال يتأثرون بكلام أمهاتهم عن الزوجة، فيما يتبين أن غالبية الحالات التي تتأثر فيها المرأة بكلام أمها تنتج عن الوضعية المسيطرة للأم داخل عائلتها».

ومن الأسباب أيضاً، الفتور في العلاقة الزوجية نتيجة تعلّم المرأة وشعورها بالاستقلالية، وأحياناً، التفاوت في المستوى المهني بين الزوجين، لصالح المرأة.

أما ضرب الرجل لزوجته فيعتبر الأب سعد أنه من أسباب الخلاف التي لا تخضع للمستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، «وقد أصبح لدى المحكمة قناعة من خلال التجربة بأن تكرار ضرب الزوجة ناتج عن مشكلة نفسية».

كذلك، يورد «وجود انحرافات جنسية لدى الرجال يجري كشفها خلال الدعاوى، ويعيش هؤلاء حياتهم الزوجية في حالة كبت للمشاعر، لأن القوانين الاجتماعية والدينية تفرض على الرجل الزواج من امرأة وإنجاب الأولاد، ليعلن بعدها أنه لم يعد راغباً بزوجته».

أما ما تبقى من أسباب فتتعلق بالفقر وغياب فرص العمل وتعاطي المخدرات والكحول والقمار والخيانات الزوجية المتبادلة، «وقد أصبحت أكثر قابلية للكشف».

المحكمة المارونية: توسع الأحكام

لا يوجد لدى المحكمة المارونية في ذوق مصبح طلاق وإنما بطلان زواج، ويقول الدكتور حطب إنه درس خمسمئة ملف بطلان زواج لدى المحكمة، جرى الحكم ببطلان الزواج في أربعمئة وخمسين منها.

ويوضح رئيس القلم في المحكمة، الأب بطرس عطا الله، إن المحكمة تعتمد ثلاثة أسباب رئيسية تؤدي إلى البطلان، وهي: موانع الزواج، الرضى الزوجي، وصيغة الزواج.

تطال الموانع، الفوارق الكبرى في العمر والعجز الجنسي أو النفسي أو المرضي، واختلاف الدين والخطف القسري وقتل الزوج أو الزوجة وقرابة الدم أو القرابة الروحية والشرعية، ومانع الوفاق هو ألا يكون متزوجاً في الكنيسة.

وتندرج تحت عنوان الرضى الزوجي، المشاكل النفسية وعدم إدراك جوهر الزواج والغلط في الشخص وفي الصفة وفي الغش والتلجئة، أي إضمار أمر لغايات منافية لطبيعة العلاقة الزوجية، مثل رغبة أحد الزوجين بعدم إنجاب الأولاد من دون الإعلان عن تلك الرغبة قبل حصول الزواج.

وفي صيغة عقد الزواج، يشرح عن وجود نواقص في شروط العقد الصحيحة، مثل عدم إقامة رتبة مقدسة أمام رئيس أو كاهن ذي صلاحية بحضور إشبينين، والزيجات المختلطة أمام كاهن غير كاثوليكي.

المحكمة الدرزية: تفاوت بين المناطق

لإجراءات الطلاق في المحاكم الدرزية، صيغة خاصة هي مزيج من العادات والتقاليد التي جرى توارثها منذ بدء الدعوة، ومن أحكام خاصة بالطوائف الإسلامية جرى تكريسها في قانون الأحوال الشخصية. وفي حال غياب نص خاص بمشكلة محددة في القانون، تستند المحكمة إلى المذهب الحنفي.

وتعتبر أحكام الزواج والطلاق في النتيجة مشابهة للأحكام لدى بقية الطوائف الإسلامية، حسبما يؤكد رئيس محكمة الاستئناف الدرزية العليا في بيروت، القاضي نهاد حريز، ما عدا إمكانية إتمام الزواج أمام القاضي وليس الشيخ فقط، وحق الزوج أو الزوجة بطلب الطلاق بشكل متساو، وإلغاء إمكانية إعادة الزواج بين الثنائي ذاته بعد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات، وتحديد مدة العدة للمرأة بأربعة أشهر.

يضع حريز الضائقة الاقتصادية في مقدمة أسباب الطلاق لدى الطائفة الدرزية، ويعتبر أن «الانتقال الحاصل في وضعية المرأة يأتي غير مناسب أحياناً للتقاليد التي تربى عليها الرجل، فيظهر الخلاف نتيجة تشبث المرأة بما حصلت عليه من استقلال مادي ومعنوي». يروي هنا أن «الزوجة من ذي قبل كانت تخاف من غضب زوجها. وإذا أخبرت أهلها بأنها لم تعد تريده زوجاً لها، يكون الجواب: منزلك هو بيت زوجك فاذهبي إليه. لم تكن توجد نساء يتجرأن على طلب الطلاق، أما اليوم فإن المرأة تطلب الطلاق بنفسها. وعلى الرغم من وجود مادة صريحة في قانون الزواج والطلاق تنص على مساواة الرجل للمرأة بنفسه، إلا أن الرجل لا يتقبل استقلالية المرأة، ولا يقدّر في العديد من الأحيان مساعدتها المادية له».

يكشف حريز أن أكبر موجة طلاق حصلت في الطائفة الدرزية إثر انتهاء الحرب الأهلية: «جرت خلال الحرب عقود زواج مبكر كثيرة، وكان معظمها محكوم بالفشل لأن الرجل والمرأة وجدا نفسيهما أمام مسؤوليات عائلية، ثم اكتشفا أنهما حرما من أمور كثيرة تتطلبها الأعمار الفتية».

ويرى أنه من النادر أن يسجّل طلب طلاق في الطائفة نتيجة خيانة زوجية، لكنه يلفت إلى وجود تفاوت في نسب الطلاق بين منطقة وبين أخرى: «ترتفع النسب في المتن حيث المجتمع أكثر انفتاحا، وتنخفض في الجنوب، حاصبيا وراشيا، حيث يزيد التمسك بالتقاليد. وتعتبر النسبة الوسطية في الشوف، حيث يوجد مزيج من الانفتاح والتمسك بالتقاليد».

حطب: المرأة بين اكتساب الحقوق وسلبها

يوضح الباحث في علم الاجتماع العائلي، زهير حطب، أن أسـباب الطـلاق تعكس التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه الناس، والخصائص الفردية لكل من الزوجين.

في التطور الاقتصادي والاجتماعي، انتشرت المتطلبات الإضافية والحريات الفردية والحقوق الشخصية، وتراجعت حالات القمع الفردي والاجتماعي، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام ممارسة زواج حر، يستمر ويتوقف برضى الطرفين.

مع ذلك، فإن بعض الحالات التي اكتسبت فيها المرأة خصائص تعليمية أهّلتها لممارسة مهنة وكسب دخل، لم تترافق مع حصول المرأة على حرية الحركة والقرار وحقها في الاختيار والتفكير. فهي، في هذه الحالة، تعيش في عالمين: عالم العمل وتحظى فيه بحقوقها الشخصية، وعالم الأسرة وتكون فيه تحت سلطة الزوج، وتتلقى إلحاحه على استتباعها واستملاكها، مع ما تكسبه من دخل. لذلك، فإن استقلالية المرأة المادية لم تكن شرطاً للدلالة على تحررها الاجتماعي أو اكتسابها حقوقها الذهنية والفكرية.

وعلى الرغم من تراجع وضعية المرأة القديمة، أي الخاضعة كلياً لسيطرة زوجها، تبقى لتلك الوضعية حضور ينحصر تقريباً في الفئات الشعبية التي تتمسك بدوافع دينية، وتجد في أقوال منقولة عن الأئمة والفقهاء ورجال الدين، مبرراً لفرض هيمنة الرجل وقوّامته كشرط لكسب رضا الله ورضا الأئمة، «فتتحول المرأة في تلك الحالة إلى جائزة ترضية للرجل يمنحها له الدين».

ويتحدث حطب عن بروز حالة جديدة في دعاوى الطلاق، هي مجاهرة أحد الطرفين بعدم حصوله على الإشباع الجنسي من شريكه، وبالتالي، يجد المبرر لرفض استمرار الزواج، لا سيما إذا كان من مؤيدي نظرية الشريك الواحد في العلاقة الجنسية.

كما تحدث عن وجود ظاهرة لدى الكنائس المسيحية، هي تزايد الحكم ببطلان الزواج: كان الزواج ولا يزال سراً من أسرار الكنيسة. لكن، أصبحت هناك مبررات تلجأ فيها الكنيسة لفسخ الزواج وإعلان بطلانه، هي في معظمها مبررات نفسية، مع العلم أنها تحتاج إلى إثباتات طبية.

ويوضح أن سبعين في المئة من أحكام الإبطال في أربعمئة وخمسين طلباً كانت لأسباب نفسية.

ويضيف: «بما أن الرغبات الفردية هي التي تكوّن الإرادة الفردية، فإن الزواج كمؤسسة يساهم في إلغاء جزء من الحريات الفردية، والدليل يكمن في تراجع عقود الزواج لدى الحضارات الانغلوساكسونية والفرنسية وصولاً إلى آسيا الشرقية، بينما تتقدم الاسرة في المجتمعات التي تعتبرها إطاراً لحماية اجتماعية وأداة دفاع دموية في التقاتل والحروب. وما دام دورها كذلك، فلن نتوقع تراجعها في تلك المجتمعات.

زيبارة: سبب معلن يخفي آخر مضمراً

يوضح المحامي ضياء الدين زيبارة، الموكل بقضايا طلاق متعددة لدى المسلمين، أن الأسباب الشرعية المعترف بها لطلب المرأة الطلاق هي: عدم تأمين نفقة العائلة، أو سوء معاملة الزوجة، أو سوء المعاشرة الزوجية.

لكن، استنادا إلى التجربة، يؤكد زيبارة: «لا تكون النفقة هي السبب في غالبية الدعاوى، ولا سوء المعاملة، وإنما يخفي كل من الأمرين خلفه سببا آخر هو التقصير في العلاقة الجنسية، ويكون التقصير ناتجا إما عن كره أو فتور في الرغبة، أو لأسباب صحية، أو إقامة علاقة خارج الزواج».

ويتحدث عن ظاهرة الطلاق لدى الشبان المهاجرين: «يكون الشاب مهاجراً، يأتي إلى بلده ويتزوج صبية تعجبه، ثم يكتشف كل منهما بعد فترة قصيرة غياب الانسجام الفكري والعاطفي بينهما». ويشير إلى وجود حالات كثيرة «تسافر فيها المرأة مع زوجها، خاصة إلى دول الخليج، فتتنعم برفاهية الحياة المادية، سواء من خلال عملها أو العلاقات الخاصة، فتطلب الطلاق».

ويعيد زيبارة التذكير بأن النساء هن اللواتي يرفعن دعاوى الطلاق لأن الرجل قادر على تطليق زوجته من دون موافقتها. ويقول إنه لدى المحاكم الجعفرية، لا تستطيع المرأة الحصول على الطلاق، إلا بقرار من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، في حال رفض زوجها تطليقها.

ويمكن للمرأة الحصول من الرجل على وكالة بتطليق نفسها بنفسها، لكن ضمن شروط: «إذا تزوج عليها ولم يقدم لها نفقة، إذا ضربها وأهانها، إذا سافر ولم يخبرها، أو قصّر في عشرتها».

أما لدى المحاكم الشرعية السنية فيمكن للمرأة أن تطلب وضع العصمة في يدها، فإذا وافق الزوج على ذلك، تستطيع الحصول على الطلاق لاحقاً.

ويؤكد على معادلة في قضايا الطلاق أصبحت معروفة: «تطالب الزوجة بالنفقة، فيقابلها الزوج بطلب المساكنة، عندها تضطر للتنازل عن النفقة، إذا كانت تريد الحصول على الحكم لصالحها».

مكي: زواج لتلبية الحاجات العاطفية والجنسية

يرى الدكتور في علم النفس العيادي، عباس مكي، أن إنهاء عقود الزواج، قبل الدخول إلى المؤسسة الزوجية، «يدل على أكثر من تفكك في العلاقات الزوجية، ويشكل دليلاً على عدم القدرة على بناء أسرة».

يقول الدكتور مكي أنه لاحظ، من خلال زوار عيادته من الثنائيات طالبي الاستشارة، أنهم، بعد الزواج، يكون السبب في الخلاف بينهم غالبا هو عدم القدرة على التوافق على العيش المشترك، وعدم وجود لغة تخاطب مشتركة، وعدم قبول للمواصفات الشخصية للشريك، «كيف يتصرف مثلاً داخل المنزل؟ كيف يتعامل مع الأمور اليومية؟».

أما السبب الثاني الأكثر عمقا فهو اكتشاف الشريكين بعد الزواج لعدم وجود توافق عاطفي وجنسي بينهما: «تكتشف الزوجة مثلاً أن زوجها ليس هو الشخص الذي تعرفت إليه، ويكتشف الزوج أنها ليست المرأة التي تعرف إليها».

السبب الثالث يبنى على الأول والثاني، وهو الشك بوجود علاقة خارج العلاقات الزوجية، «وتكون هنا القاعدة الأساسية وجود شخص قوي في العلاقة وآخر ضعيف، بينما يفترض وجود توازن بين الطرفين».

كذلك، كثيراً ما يتبين للطرفين أن ما حملهما على عقد الزواج، هو الانجذاب العاطفي لأن المؤسسة الزوجية تعطي شرعية للحميمية وما ينتج عنها.

ويقول مكي إن الخطوبة والتعارف يشكلان إشعارا بالتوافق أو الاختلاف، مع ذلك، يتبين بعد المساكنة، أن ذاك التوافق كان عابراً، «والذي سهل الوصول إليه هو الحاجة إلى شريك عاطفي».

ويوضح أن غالبية الحالات التي تأتي إلى عيادته هي من فئات الشباب، تتراوح أعمارهم بين العشرين وبين الثلاثين عاماً، ومعظمهم من الفتيات: «كثيراً ما تكون الفتاة في فترة بناء علاقة مع شاب تبحث فيها عن التوافق، من أجل الزواج. لكن أولئك الفتيات يتحدثن عن إقامة علاقات متعددة، تنتهي تقريبا بالفشل».

يضيف أنه يوجد سبب مشترك في فشل العلاقة، وهو عدم رغبة الشباب في إقامة علاقات جدية تؤدي إلى الزواج، وإنما يبحثون غالباً عن الحاجة العاطفية والجنسية، من دون وجود النية في بناء عائلة. وأحياناً، لا يقتصر الأمر على الشاب، وإنما على الشاب والفتاة اللذين يبحثان عن قضاء وقت ممتع.

وهناك فئة ثانية خاضت تجربة الزواج، تتراوح أعمار أصحابها بين الثلاثين وبين الأربعين عاماً، يشكون من إشكالات مع أهل الزوجين، أو من مشاكل اقتصادية واجتماعية.

تعليقات: