شوقي بزيع: الشاعر «الدونجوان» اختار رهان الحداثة

شوقي بزيع
شوقي بزيع


عندما تحوّل مقهى «دبيبو» عند شاطئ الروشة إلى مطعم، كان على شوقي بزيع أن يتخلى عن طقوس خاصة جداً، دأب عليها طوال عشرين سنة في كتابة الشعر والنثر. في ركن محدَّد من ذاك المقهى، كتب أغلب دواوينه. منذ ست سنوات وجد ضالته في «عروس البحر».

ملاحم الحب والمرثيات والأمكنة تلازم قصائد شوقي بزيع وسرده. هو الشاعر «الدونجوان» الذي لم يطلِّق العزوبية قبل الخمسين، بعدما تفرغ للكتابة عن الحب والنساء. كان يبحث في وجوه النساء وأجسادهن عن وجه مريم وساقيها. ومريم هي التي «أحببتها وأنا في السادسة من عمري، لكنّها تزوجت بشخص آخر. كنت أمشي وراء الحصان حين كانت تُزَفّ. أطلق أحدهم النار فأجفل الحصان ووقف على قائمتيه الخلفيتين، فوقعت مريم عن ظهره وانحسر الثوب، عن جسد أبيض مرمري، مذهل في جماله. ذلك اللمعان الذي أغشى عينيّ في ذلك اليوم، أحاول عبثاً أن أستعيده عبر آلاف النساء».

أما سير الشهداء ومرثياتهم في قصائده، فقد جعل منها مرسيل خليفة تحيات إلى كمال جنبلاط عبر قصيدة «جبل الباروك»؛ وإلى حسن الحايك ــ ذاك المزارع الذي سقط عام 1973 خلال تظاهرة مزارعي التبغ أمام «الريجي» في النبطية ـــــ وإلى أيمن ـــــ الطفل الذي استُشهد عام 1977 عندما دمر الطيران الإسرائيلي قرية العزّية بأكملها، واستشهد فيها عشرات الناس.

في بلدة زبقين (قضاء صور ـــــ لبنان)، المحاطة بكم هائل من الثروة الحرجية وينابيع المياه، ولد بزيع في عام 1951. هذه البيئة الجغرافية أغنت مخيلته وعززت ذاكرته البصرية، ورفدتها بجملة من الطقوس التي كانت تقام في تلك القرية الفقيرة. كان صوت شوقي شجياً و«كنت متابعاً لمجلس العزاء الحسيني، هذا الينبوع الآخر الذي رفد شعري، كنت أبكي من دون أن أعلم السبب، على شهداء علمت أنهم قضوا قبل أكثر من ألف عام».

بعد دراسته الأولى في ابتدائية البلدة المجانية التابعة لـ«جمعية المقاصد الخيرية»، وكانت تدرِّس الإنكليزية، تعلم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في صور، في المدرسة الجعفرية، ثم المرحلة الثانوية في «مدرسة الاتحاد الثانوية» في صور. في أوائل 1968، توجه إلى «كلية التربية» في «الجامعة اللبنانية»، بعدما علَّم شهرين في مدرسة علما الشعب الحدودية.

خمس سنوات في كلية التربية، يراها شاعرنا فردوسه الشخصي. «في هذه السنوات الخمس بين عامي 1968 و1973، كانت بيروت تشهد عصرها الذهبي، ولبنان يغلي ويموج بالحياة، بإرادة العيش والبحث عن وطن أفضل بعيد عن الطائفية والمذهبية والإقطاع وما سوى ذلك، تحت سقف الماركسية. كنا نبحث عن الوطن البديل، ولم نكن نعلم ونحن نخرج إلى التظاهرات بمئات الآلاف أننا نؤسس للحرب الأهلية التي كانت مقبلة. حين نزلت من القرية، أحسستُ بأنني أعرّض نفسي لليباس والتلف تماماً كما تقتلع الشجرة من مكانها». يضيف: «أحببت بيروت كثيراً، ألفتها، وأحسست بأنها الملاذ بعدما كانت قلعة الإسمنت الصماء. لكن جذر الكتابة وينبوعها بالنسبة إليّ هو الريف. من أصل 13 مجموعة شعرية كتبتها حتى اليوم، تحتل القرية والمكان والطبيعة بأطيافها وتشكيلاتها المختلفة معظم ما كتبته من شعر. طبعاً يمكن أن تضيف إليه، بعض كتابات الحب. بعض القصائد التي لها طابع الأسئلة الوجودية المتعلقة بالكينونة والزمن والحياة والموت».

انتسب إلى «منظمة العمل الشيوعي» (بين عامي 1968 و1972) وغادرها لأسباب يقول إنّها «إبداعية، نتيجة البعد الشوفيني الستاليني عند بعض المنظمات الماركسية والأحزاب. كان نموذجهم في الشعر أحمد فؤاد نجم ولا يرون سواه. كنت متأثراً بشعر الحداثة بأدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي ونزار قباني... وكانوا يهزأون بما أكتب، ويريدون مني شعارات فقط. طبعاً أنا كنت أكتب شعارات خلال التظاهرات مثل الشعار الشهير: يا حرية».

في كلية التربية، كان يُعقد مهرجان سنوي للشعر، ويُنتخب إثره شاعر الجامعة من خلال لجان تحكيمية تتألف من شعراء ونقاد كبار مثل أدونيس وخليل حاوي ويمنى العيد وأنسي الحاج وأنطوان (غطاس) كرم. وفي السنة الثالثة في كلية التربية (1970)، حصل شوقي على الجائزة الأولى، وكانت انطلاقته الفعلية باتجاه طريق الشعر الشائك.

بعد تخرجه من كلّية التربية، عيّن مدرساً في صُور حتّى عام 1982. عندما بدأ الاجتياح، كان شوقي بزيع في بيروت، فاضطر للبقاء فيها والالتحاق بثانوية وطى المصيطبة. لقد أحدثت فترة اندلاع المقاومة ووجوده في بيروت هزة بالنسبة إليه. «الجنوب كان يتحول بالنسبة إليّ إلى ملحمة كونية كبرى: الحنين إلى مسقط الرأس. قصيدة «العائد» التي كتبتُها إلى علي بزيع، ابن عمي ورفيق طفولتي الذي استشهد على يد القوات الإسرائيلية ولم أستطع أن أشيّعه إلى مثواه. تحولت القصيدة إلى كمٍّ لا يحصى من الأصوات، من طقوس الندب الجماعي». ترك التعليم في عام 1989، وحينها نقله الرئيس سليم الحصّ الذي كان رئيساً للوزراء ووزيراً للتربية إلى وزارة الإعلام، وما زال ملحقاً في الوزارة حتى تاريخ اليوم.

بدأ بزيع بنشر قصائده أوائل السبعينيات، في مجلة «مواقف» مع مجموعة «شعراء الجنوب»، وفي «السفير» و«النهار» و«الآداب». صدرت باكورته «عناوين سريعة لوطن مقتول» عام 1978. يقول: «حاولت أن أتلافى ما فعله الشعراء الرواد حين نشروا بواكيرهم ولم تكن ذات سويّة عالية في الكتابة، نشروا التمرينات الشعرية الأولى؛ ولذلك جمعت ما كنت راضياً عنه من قصائدي المنشورة في تلك الفترة».

بعد ذلك كرّت الإصدارات: «الرحيل إلى شمس يثرب» (1982) «أغنيات حب على نهر الليطاني» (1985)، «وردة الندم» (1990) «مرثية الغبار» (1992) وهو الديوان الذي حمل انعطافاً هاماً في شعره، لأنه قرر بعد صمت خمس سنوات عن الكتابة أن يغادر أماكن قصيدته الأولى. «شعرت بأنّ عليّ أن أذهب إلى مناطق جديدة مصغياً إلى أصوات أخرى وهموم أخرى، حتى لا أكرر نفسي. وكانت نقلة حقيقية فيها تصفية حساب مع الماضي، مع الطفل الذي كنته». أصدر عام 2007 «صراخ الأشجار» (الآداب) و«كل مجدي أنني حاولت» (الدار العربية للعلوم ــــ ناشرون) وأصدر مجموعة نثرية أيضاً عام 2008 بعنوان «هجرة الكلمات» (الآداب).

عن تجربة «شعراء الجنوب»، يقول: «لا ظهير للشاعر سوى نصه. وهو الذي سيبقى وهو الذي سيواجه به الزمن لاحقاً. لقد أسهمت تجربة الشاعر الصديق حبيب صادق في تسمية «شعراء الجنوب» من خلال «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، إذ أطلق «مهرجان الشعر الجنوبي» منذ أوائل السبعينيات في بعض المدن الجنوبية مثل النبطية وصور وفي بعض الأحيان في بيروت. قد يكون هذا ما أسهم في بلورة التسمية، لكنّها تسمية لم تدم طويلاً. ما يبقى في النهاية هو الشاعر، لذلك ترى الآن أن كلّ شاعر جنوبي تميز وتفرد وأخذ خطاً مستقلاً».

5 تواريخ

1951

الولادة في زبقين، جنوب لبنان.

1968

انتسب إلى «منظمة العمل الشيوعي» وبقي فيها أربع سنوات

1978

أصدر ديوانه الأول «عناوين سريعة لوطن مقتول» عن «دار الآداب»

2005

صدرت مجموعته الشعرية الكاملة في مجلدين عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».

2009

أصدر مجموعة نثرية بعنوان «هجرة الكلمات»، ويشتغل على مشروع كتاب بعنوان «بيروت في قصائد الشعراء»

تعليقات: