غداً، حين تنتصرون...

مركز  الإقتراع في مدرسة البركة في الخيام
مركز الإقتراع في مدرسة البركة في الخيام


غداً يوم آخر. غداً حين تنتصرون، فتغيّرون وتُصلحون، وتلفحون لون الشمس بلحظات الشفق، وترسمون سماءنا بألق الغسق...

غداً، حين تخرج وجوه شابّاتكم وشبّانكم ناصعة كالحق، ستدفنون مع نصركم مأساة يوم يتّهمني بالجهل، ويوم أتهمه بالعهر: 13 تشرين الأول 1990 يوم ما زال يتّهمني. و14 شباط 2005 يوم سأظل أتهمه، وأنتم وحدكم معبر الخلاص من الاثنين.

يوم 13 تشرين الأول 1990، لحظة تتّهمني بالجهل، في أقل تقدير. ذاك اليوم كنت واحداً من الذين فرحوا.

بعد نحو تسعة عشر عاماً، لا تزال تحضرني تلك اللحظة المتِّهِمة. لحظة ابتهجت باستباحة الوصاية لما بقي من حريتنا. لحظة صدقت أن «كابوساً» قد أزيح، وأن أخي وحده ذبح، وأنني سأنتصر من بعد ذبحه.

ومضت الأيام، ولم يخفَّ إحساسي بالندم. لا بل صار الندم مأزقاً يستولد مآزق: كيف أقنع إخوة هنا بأن ما حصل كان كارثة، وأقنعهم في الوقت نفسه بأنني باقٍ واحداً منهم، لا مرتدّاً ولا منشقّاً. وكيف أقنع إخوة في الجهة الأخرى، بأن نُقرَّ جميعاً بأخطائنا، وأن نغفر ونستغفر. وأقنعهم أيضاً بأنني لن أصير واحداً منهم، لا مبشَّراً ولا مستوعَباً. وكيف أقنع «الأخوين»، بأن مسؤولية كارثة ذلك النهار كانت مشتركة، وأن السبيل الوحيد لخلاصنا، لن يكون إلا مساحة مشتركة.

بعد نحو تسعة عشر عاماً على هذه المآزق، يأتيني يومي ليذكّرني بأنني فشلت، وتأتي كل الظروف المحيطة لتؤكد أننا فشلنا. ويأتي غدكم، لأحتفظ بكل الأمل وكل الرجاء.

أمل في نصر لا يعيد 13 تشرين، ولا وصاية 13 تشرين، ولا عملاء 13 تشرين، ولا عداءهم ولا استعداءهم ولا الاستقواء...

ورجاء بنصر، لا يعيد يوم 14 شباط 2005. هذا النهار الذي أتهمه.

إنني أتهم 14 شباط 2005 بتضييع الحقيقة، وتنسيب النضال، وسرقة حق المقاومين، وتزوير هويات الأبطال، واختلاس عذابات المعتقلين، ومصادرة تضحيات المنفيين، والعربدة فوق قبور من ماتوا، ذاك اليوم وقبله، والفجور بحق عقول من لا يزالون أحياءً، إن لم ينفجروا جنوناً حيال كذب ذاك النهار.

عقود من الاحتلالات، ومثلها من العمالات، من كل المواقع والمناطق والطوائف، زُوِّرت في 14 شباط 2005 وما تلاه. اغتيل رفيق الحريري، فانقلب الوضع الدولي، ولاقته ثورتكم وحدكم، فبدأ التحرير. فجأةً أطلّوا برؤوسهم الوسخة، هم أنفسهم، رؤوس ذل الأعوام الماضية، حملوا لونين وشالاً، كما ألوان وجوههم في فترة الوصاية. لفّوا أعناقهم بها، أعناق الخنوع نفسها طيلة عقدين، وجاؤوا مندسّين بينكم في مخيم الحرية، متسلّلين، «مهربجيي»، أملاً بغسّالة 14 شباط. ونجحوا.

إنني أتهم 14 شباط بارتكاب أكبر عملية تزوير في تاريخ لبنان، على حساب جراحنا، وعلى حساب دماء أكثر من 6 آلاف معتقل منكم وحدكم، بين 13 تشرين و 14 شباط، وعلى حساب زنازين رفاقي ومنافي أهلي، وعلى حساب دم رفيق الحريري نفسه.

إنني أتهم، وفي يدي كل حقائقهم قرينة ووثيقة ودليلاً. قارنوا بين اقتناعاتهم طيلة 15 عاماً، وبين اعتناقاتهم الأخيرة. مقارنة، إن ننسَ لا ننسَها، ولن....

في فرنسا، حيث كان منفى أبطال السيادة الأصيلين، زمن سلطة أبطال تحرير آخر زمان، كان ثمة احتلال أيضاً قبل عقود. بعد زواله، صار المقاومون يأتون بعاهرات الضباط الألمان من الفرنسيات، فيحلقون رؤوسهن تدليلاً على عارهن في مخادع المحتل، وإشهاراً لموبقاتهن أمام الناس.

أنا لا أحلم اليوم بحلق رأس أيّ من مرتكبي عهر الأعوام الماضية. مع الاعتذار عن المقارنة، من كل محترفات أقدم مهن التاريخ البشري. فأنا أدرك أن عهر الجسد طهر، مقارنةً بعهر السياسات والرئاسات فوق سيادات الأوطان وكرامات الشعوب. غير أن أقصى ما أطمح إليه، هو ألّا أراهم كما هم اليوم، يحلقون ذقونهم ويمشطونها، تمهيداً لاستمرارهم في الحكم والظلم، خيارهم في الاحتلال، خيارهم في الاستقلال.

غداً يوم آخر، يحرّرني من يوم يتهمني، ومن يوم أتهمه. غداً، حين يخرج صوتكم من صناديق الاقتراع، سأتأكد أن «اليومين» لن يعودا أبداً. وأن صوتكم والحق... أكثرية.

مندوبي المرشحين في أحد أقلام الإقتراع في مدرسة البركة في الخيام
مندوبي المرشحين في أحد أقلام الإقتراع في مدرسة البركة في الخيام


تعليقات: