جورج جرداق المرجعيوني: تلك الليلة على مشارف وادي لامارتين

جورج جرداق
جورج جرداق


يختار جورج جرداق إذاعة «صوت لبنان» مكاناً للّقاء، إذ يعتبرها بيته الثاني، في جوار بيته الحقيقي. تجده منهمكاً في تسجيل برنامجه «على طريقتي» المستمر منذ 15 عاماً. لن تجدَهُ حتماً إلّا هناك، بسبب «ثقل الهمّة التي لا تسمح له بالابتعاد عن «الوكر»». يغرق في حنين واضح، أقرب إلى الشجن، عندما يصف نشأته في جديدة مرجعيون تحت جناح شقيقه الشاعر والعالم اللغوي فؤاد جرداق. هناك ولد جورج سجعان جرداق عام 1931، من والد يعمل مهندس بناء، في بقعة «سكانها عرب حقيقيون، يتحدّرون من أسر عربية عريقة»، أما البيئة البيتية فكانت «من جماعة الفكر والعلم والأدب والشعر، وتأثري الشديد كان بـ«أخوي» فؤاد».

كان جورج الصغير يهرب من المدرسة، بحثاً عن عين ماء من عيون السهل الشرقي ـــــ تلك التي سمّي المرج باسمها «مرج عيون» ـــــ فينتقي صخرة تحت شجرة تظلِّله، ليحفظ شعر المتنبي، وفقه اللغة العربيّة في مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي. وعندما اشتكت المدرسة من تسرّبه الدائم، حاول ذووه معاقبته، فتدخل شقيقه فؤاد معلّلاً: «إن ما يفعله جورج يفيده أكثر من المدرسة». وتشجيعاً له أهداه «نهج البلاغة» للإمام علي بن أبي طالب، قائلاً: «إقرأه واحفظه». هذه الكتب الثلاثة شكلت مخزوناً معرفياً وثقافياً لجرداق ما زال يعشّش في ذاكرته حتى اليوم.

بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق بـ«الكلية البطريركية» عام 1949. منذ ذلك الحين، سكن بيروت وسكنته، من دون أن ينفي ذلك حنينه إلى الجذور وتواصله مع الأهل والأصحاب في «الجديدة». يردّ خصوبة فكره وذاكرته إلى اختياره «الكلية البطريركية» الذائعة الصيت بتخريج أقدر الطلاب في اللغة العربية وآدابها. «كانت مهمة جداً بحاضرها وقديمها، فالشيخ إبراهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق، كان أحد أساتذتها في القرن التاسع عشر، ومن تلامذته خليل مطران شاعر القطرين. درست على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وعلّامة عصره فؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ اللغة والأدب الفرنسي الشاعر ميشال فريد غريب الذي كتب شعره بالفرنسيّة». في هذه الأجواء، كان من البديهي أن يؤلّف جرداق كتاباً في سنّ مبكرة. في الثامنة عشرة من عمره، كتب باكورته «فاغنر والمرأة» عن الموسيقي والفيلسوف الألماني. نظراً إلى أهمية الكتاب، قرّر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي إدراجه ضمن لائحة الكتب التي يجب على طلّاب الدكتوراه في الأدب قراءتها بإمعان، كذلك أصرّ أحد المستشرقين الألمان على مقابلة جرداق وأخذ إذنه في ترجمة كتابه إلى اللغة الألمانية.

في عام 1953 بعد تخرّجه من «الكلية البطريركية»، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية من جهة، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت من جهة أخرى. استهل عمله الصحافي في مجلة «الحرية»، ويقول عنها: «كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرّر مقالات وأوقّعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف، حتّى إنّ أحدهم طلب مني أن أعمل عنده، فرفضت». عمل أيضاً في مجلّة «الجمهور الجديد» وانتقل إلى «دار الصيّاد» عام 1965، وعمل في مجلة «الشبكة» وفي صحيفة «الأنوار»، ولا يزال أحد أركان الكتابة في منشورات «الصياد».

في عام 1960، أطلق سلسلته الفكرية الشهيرة «موسوعة الإمام علي»، فصدر منها تباعاً خمسة مجلّدات، أتبعها بمجلد سادس وهي: «علي وحقوق الإنسان»، «علي والثورة الفرنسية»، «علي وسقراط»، «علي وعصره»، «علي والقومية العربية»، وحمل الملحق عنوان «روائع النهج». في موسوعته يستشهد جرداق بقول لميخائيل نعيمة: «يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلا أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي». طبعت الموسوعة أربع مرات، في ثلاث دور نشر مختلفة خلال سنة واحدة، وتشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من خمسة ملايين نسخة طبعت منها حتى اليوم. «بالطبع لا أجني قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التي ترجمت إلى الفارسية والأوردية ـــــ لغة مسلمي القارة الهندية ـــــ والإسبانية والفرنسية. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربية أو أجنبية أشتريها، فيما لم تكلّف دار نشر واحدة نفسها أن ترسل لي نسخة هديّة من باب رفع العتب».

موهبته الأدبية والصحافية صاحبها نجم، وتحلَّق حوله المشاهير من العالم العربي، وتحديداً مشاهير الطرب في مصر. فمنأمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وغيرهم، إلى «الأخوين رحباني» وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين ووديع الصافي، بنى جرداق شبكة صداقات تخطّت العلاقة المهنية.

في صيف 1967، أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب عاماً كاملاً في لبنان، وسكن في جوار جورج جرداق. كانت السهرات لا تحلو للموسيقار إلا في فندق «لامباسادور» في بحمدون، نظراً لإطلالته على وادي «لامارتين». ذات يوم، قال له صاحب «يا جارة الوادي»: «تحدثت اليوم مع أمّ كلثوم عبر الهاتف، وسألتني عنك وعن إطالة غيابك عن مصر. تهديك تحياتها وتريد منك أغنية للموسم الجديد». يخبرنا جرداق: «صار كل ليلة يسألني أين أضحت القصيدة؟ وفي إحدى الليالي، وكان معنا يوسف وهبي وإحسان عبد القدوس ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش، وشوشني عبد الوهاب بأن نخرج إلى الشرفة المطلّة على الوادي. وهناك رحت أدندن بعض أبيات الشعر، فطلب إليّ أن أعيدها على مسمعه، وصاح هذه القصيدة التي نبحث عنها». وكان أن غنّت كوكب الشرق «هذه ليلتي» على المسرح القومي في السودان، بتاريخ 30 كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1968، بعد عام على كتابتها، إذ أخّرت إطلاقها بسبب النكسة. قال عبد الوهاب عن صاحب القصيدة: «إن في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه».

ولأنه صاحب مزاج طريف، شديد الميل إلى الأهاجي والفكاهة، تهاجى مع «الأخوين رحباني» اللذين يتميزان بمثل مزاجه، مدة ستة أشهر كاملة، على صفحات «الشبكة» في أطرف معركة هجاء تابع الجمهور فصولها فصلاً فصلاً. «اتفقنا عليها بالمصادفة، صدّقها الجميع إلا عبد الوهاب. عندما قرّرنا إيقافها، صرخ بنا سعيد فريحة: بتخربولي بيتي، إنني أطبع 250 ألف عدد إضافي». ويُتوقع أن تصدر هذه المهاجاة الطريفة في كتاب خاص يعمل على تنقيحه. صديق المرأة وحبيبها، ظلّت الصحافة الأقرب إلى قلبه، بعيداً عن «زواريبها اللبنانية التي هي مرآة المنافع الشخصية». مثلما أحبّ الصحافة، أحبَّ الاشتراكية، ويقول: «تأثرت بأستاذي رئيف خوري، وببيئتي وبالناس من حولي، ورحت أقارن بينها وبين السياسة، فإذا بها قائمة عندنا على مبدأ «الفاجر يأكل مال التاجر»».

5 تواريخ:

1931 الولادة في جديدة مرجعيون (جنوب لبنان)

1950 أصدر كتابه الأول «فاغنر والمرأة»

1960 بدأ إصدار سلسلة «الإمام علي» من ستة أجزاء

1968 غنّت له أمّ كلثوم «هذه ليلتي» من ألحان عبد الوهاب

2009 يعمل على تنقيح 20 مؤلفاً، غالبيتها من المذكّرات تمهيداً لطبعها

تعليقات: