«الدليفري»: لذة وإكراه وعشوائية وانتقاء.. و77 ألف مادة كيماوية!

وجبات جاهزة على مد النظر
وجبات جاهزة على مد النظر


«مـن لا يحـب الاسـكالوب؟ أتحـدى أحـداً أن يقـول أنـه يكـره الهامبرغـر»!

«الجوع بيعمل وجع راس، بس الدليفري بيعمل وجع قلب»، بهذه الخلاصة خرجت زينب قصير بعد اعتيادها على الطعام الجاهز لسنوات عدة. ولكن، هذا التعليق لا يعني أن زينب مكرهة على فعلتها اليومية نتيجة دوام عملها المكثف، بل المفارقة هي أنها سعيدة بما تشكو منه.

تعمل زينب في مؤسسة صحية بدوام يومي لغاية الثالثة بعد الظهر. تطلب عادةً وجبة الغداء «دليفري» (يتم ايصالها من دون تكلفة إضافية) إلى مركز عملها من المطاعم. ولا تشعر بالغبن، لأنها أساساً تفضل الوجبات السريعة («الفاست فود») على الطبخ المنزلي: «لو قضيت حياتي آكل فلافل أفضل ما قول لأمي اطبخي لي مجدرة»، تقول.

وابنة الأربعة والعشرين سنة تعلم كل العلم أن الطعام الجاهز «بيوجع القلب» من الناحية الصحية. تقول: «بيصير الواحد ينصح من دون أن يشعر، وتتجمع الدهون مع الوقت في أمكنة معينة في الجسم. صحيح أنني غير سمينة، ولكني أشعر أنني على طريق السمنة التي تتسلل تدريجياً إلى جسدي».

وبالرغم من أنها تدرك أن «صحن فول أفضل بكثير من رغيفين محشيين باللحوم والمواد الدهنية»، إلا أنها لا تفكر بتاتاً في الإقلاع عن الطعام الجاهز. اعتادت عليه منذ كانت طالبة جامعية، وقد تعذر عليها الانتقال وقت الغداء من جامعتها في الأونيسكو الى منزلها في الضاحية الجنوبية، خصوصاً انها كانت مرتبطة مساء بإعطاء حصص دروس خصوصية لبعض الطلاب. الأمر الذي كان يدفع بها احياناً الى طلب وجبة العشاء ايضاً من المطاعم.

من هنا، اذاً، بدأت قصة زينب مع «الدليفري»، وهي البكر بين أربعة أخوة. وهي لا تحسد بطبيعة الحال أخوتها على تناولهم الطعام المنزلي، إذ تقول: «نادرة جداً هي الطبخات التي أحبها. أما الطعام السريع فلا يمكن أن أملّ منه». وتغمض عينيها متلذذة كمن يسترجع طعم الأكلات وتتساءل: «من لا يحب الاسكالوب مثلاً؟ أتحدى أحداً أن يقول بأنه لا يحب الهامبرغر!».

«وجع القلب» تتسبب به أيضاً الكلفة المادية للطعام الجاهز. تشير زينب إلى انها في أوقات الضيق الاقتصادي تعمد الى تناول غداء خفيف، يكون عبارة عن سندويشات بدلاً من الوجبات، ومع ذلك، لا تقل الكلفة في مثل هذه الحالات عن سبعة آلاف ليرة يومياً. وعندما تراجع ميزانية «الدليفري» الشهرية، تكتشف أنها توازي ثلث راتبها، الذي لا تتعدى قيمته 500 ألف ليرة.

ولمساعدتها على حصر نفقاتها، عمدت والدتها خلال فترة معينة إلى تزويدها بسندويش منزلي. إلا أن ذلك لم يمكّن زينب من مقاومة الإغراء: «كنت أطلب الطعام الجاهز، «وأتحلّى» بالسندويش، فأختم به طعامي»، تقول ثم تضيف مزهوة: «أحنّ دائماً الى الاسكالوب.. ماذا أفعل؟».

الحالة الوحيدة التي يمكن أن تدفع بزينب إلى الإقلاع عن عادتها هي إصابتها بالسمنة: «وبالرغم من أنني معرّضة لها اليوم، لكنني لا أتراجع عادة الا قبيل وصولي الى حافة الهاوية!»، تعلق مبتسمة.

توفير 200 دولار شهرياً

مثلما هي الحال مع زينب، يشكّل الطعام الجاهز نمطاً اعتيادياً في حياة كارلوس مروان الذي يعمل في مجال الأعمال الحرة. يمضي الكثير من وقته على الطرقات متنقلاً بين مكان وآخر، ليقصد ليلاً حانته الليلية في الجميزة، حيث يقوم بمهمة الإشراف.

«السرعة» هي شعار المرحلة المهنية التي يعيشها منذ أربع سنوات. والطعام السريع بطبيعة الحال هو جزء من هذه المرحلة.

تعرّف الشاب العشريني إلى الكثير من مطاعم البلد. وليست قلة منها، المطاعم التي باتت تحفظ عنوانه عن ظهر قلب لكثافة ما يطلب منها «دليفري». والمفارقة هي أنه يعدد أسماء بعض المطاعم التي يصنفها بأنها من فئة المطاعم التي لا تهمها النظافة كأولوية، «وما منعرف أساساً كيف بيطبخوا، ولكن تعودنا عليها»، يقول، ويضيف: «إذا بدي فكّر بالمطاعم المنيحة، يمكن اضطر على مقاطعتها كلها، ما لا يتناسب مع وتيرة عملي».

ولا يتخطى كارلوس موضوع النظافة وحده رغم أهميته، وإنما يحاول أيضاً تجاوز موضوع آخر يتعلق بالضرر الصحي الناتج عن طبيعة المواد المستخدمة في الطعام وكيفية طهوه، وذلك عبر أمرين: اعتماد خرق للائحة «الفاست فود» الأسبوعية تشكّله وجبة واحدة من مطعم متخصص بالطبخ البيتي، وثانياً، ممارسة الرياضة لتخفيف نسبة الشحوم والدهون الناتجة عن تناول الطعام الجاهز.

أمر ثالث يحاول كارلوس تجاوزه أيضاً للإبقاء على عادته الغذائية، هو الكلفة المادية. يقول: «أتحدث دائماً مع أصحابي بهذا الموضوع، فميزانية «الدليفري» بتخرب البيوت. وكل وجبة تكلف حوالى 20 دولاراً. وذات مرة، قررنا جميعاً الاقتصاد في هذا المجال، من خلال الأكل لدى الأهل أو تناول السندويشات السريعة، وكانت نسبة التوفير الشهرية لكل منا 200 دولار. ولكن تعذّر علينا الاستمرار بهذه الوتيرة في ظل زحمة السير، خاصةً أن مكان سكن الأهل لا يتناسب وجغرافية عملنا».

كارلوس، الذي يصف والدته بأنها «طبيخة رقم واحد»، محروم من تذوق طعامها إلا في أوقات الفراغ الاستثنائية. لكنه اعتاد تماماً النمط الغذائي المستجد، ولم يعد متشوقاً إلى الطبخ المنزلي، ولا يأمل بتغييره بعد الزواج: «لا يهمني أن أتزوج من امرأة تجيد الطبخ.. كل يوم عندي الف شغلة. وتعودت على الأكل السريع»، يقول.

وحده احتمال إصابته بضرر صحي مباشر يمكن أن يدفع به إلى إعادة النظر بعادته الغذائية، حسب قوله. ولكنه سرعان ما يستدرك قائلاً: «ولكن ليس من خلال الإقلاع عن هذه العادة، بل عبر تغيير نوعية الأطباق فقط.. فبدل «دليفري» هامبرغر، أطلب «دليفري» سلطات».

«دليفري.. ولكن صحي»

بالنسبة إلى رلى علم الدين، القاعدة من أصلها تختلف. سكنها المنفرد في بيروت بعيداً عن أهلها في الجبل، ودوام عملها المكثف (يصل الى 12 ساعة يومياً)، يفرضان عليها «الدليفري»، إلا إنها تلجأ إلى تسوية غذائية ما، لضرورات صحية، وهي: الطبخ بديلاً عن الأكل السريع.

وتقول رلى: «يكفي اننا نتنازل عن لذة الطبخ المنزلي، الذي يراعي ذوقنا ورغباتنا وحاجة جسدنا، وفوق ذلك نطلب «فاست فود»؟ لا يمكن.. لا أطيقه».

من هنا، أصبحت رلى مع الوقت مرجعية بالنسبة إلى زملائها في العمل ممن يحتاجون إلى دليل المطاعم المتخصصة بالطبخ الشرقي. وهي مصنفة في ذاكرتها تبعاً لدرجات الذوق والنظافة وخدمة الإيصال السريع. وتقول: «أحياناً، أختار المطعم بدقة، تبعاً لدرجات الشك، ولنوعية الطبق المطلوب. فالتبولة على سبيل المثال لا أطلبها من حيثما كان، لأن الخضار صنف حساس. وبما أن لحمة الشاورما مثيرة للظن، أطلب أحياناً منها الجزء الأكثر عرضة للنار».

قلة هي الأوقات التي تشعر فيها بالاختلال الصحي، نتيجة تناولها المعجنات والنشويات. وهي الأوقات المرتبطة بإحساسها بالملل والإحباط، اللذين لا يتيحان لها التفكير بالأولويات الصحية. غير انها سرعان ما تعود الى بوصلتها الغذائية التي تحافظ عبرها على جسد خالٍ من الكوليسترول والدهون، تبعاً لفحوصات دورية.

هذه التسوية الغذائية تجعل رلى راضية عن فكرة «الدليفري» في ظل ظروفها الحالية، بل ومقتنعة بها لسببين: الأول يعود الى خبرتها في التمييز بين الغث والسمين من الطعام ومن المطاعم بحد ذاتها، والثاني مرتبط باستنتاجها أن كلفة «الدليفري» اقل بالنسبة اليها من الكلفة التي تتكبدها في حال قررت الطبخ في منزلها. تقول: «أحياناً أشعر برغبة في الطبخ، فأحضر مكونات الطبخة، ونظراً لضيق الوقت، يكون مصيرها بعد أيام الرمي في سلة المهملات. وحتى لو كنت أملك الوقت، فالكلفة لن تكون متدنية إذا ما قيس الأمر بكون الاستهلاك مرتبط بي وحدي».

تنتج محاولات الطبخ المنزلي المتكررة التي تبوء بالفشل، أساساً، من رغبة رلى بهذه الحرفة: «حلم حياتي أن أعمل بدوام اقل، و«أتحوج» أغراضي لأطبخ بنفسي»، وتضيف: «إذا صرت مليونيرة ولم اعد أحتاج للعمل.. اكيد بصير طبّاخة».

عيراني: «الفاست فود» يضرب الدماغ

من وجهة نظر طبية، يقول الدكتور رالف عيراني المتخصص في التغذية والتصنيع الغذائي، إن معظم المطاعم الأجنبية في لبنان تعمد الى سلق الدجاجة أو البقرة مع عظمها ودمها، لتحضيرها كوجبات، وتستخدم فيها المواد الحافظة المضرة «النيترات»، بينما قلة هي المطاعم التي لا تشتري اللحوم جاهزة ومثلجة، وتعتمد مواد من الخل المجفف بديلاً عن المواد الحافظة.

ويشير الى ان معظم المطاعم التي تقدم الوجبات السريعة، تستخدم مقوي النكهات في الطعام. وهي مادة تضرب الدماغ من حيث مركز الذاكرة والذكاء والتركيز، وتؤدي على المدى البعيد الى قتل الخلايا الدماغية، ما يسبب الإحباط للبنات والنساء، لأنه يستهدف مركز الشعور لديهن.

وأكد أن «كل هذه المأكولات تنزع من الجسم معادن الكروميوم والمانيزيوم والسيلنيوم، ما يؤدي الى ارهاق الكبد والغدة الدرقية. لذلك، نجد أن من يعتاد على تناولها يصل حتماً الى البدانة».

وعن الطبخات الجاهزة التي يلجأ اليها البعض في عدد من المطاعم، يلفت عيراني الى انها افضل من الوجبات السريعة. ويشجع اعتمادها باعتبارها تخفف من نسبة الإصابة بالدهون والسكريات، وتمنح الجسد الالياف والمعادن والغذاء المناسب. أما الطعام السريع فيعرّض متناوله الى التالي: السرطان، ألم في المصران، الإمساك، تساقط الشعر، جفاف الجلد، بروز بثور في الوجه، والإحباط. كما يعرض الإناث لانقطاع العادة الشهرية.

ويتطرق الى نقطة هامة جداً تتعلق بالخبز الأبيض الذي يتناوله الكثير من اللبنانيين، ويعتبر أنه «من أسوأ أنواع الخبز على الاطلاق، لأنه يحتوي على مادة «بولي اكريلاميد» السرطانية. وهي المادة الموجودة في رقاقات البطاطا (تشيبس)». ويتساءل: «لماذا بتنا نعتاد على وجود مصاب بالسرطان في كل عائلة، أو في كل حي؟ وثمة اطفال كثر في المستشفيات مصابون بالسرطان، نتيجة تناول رقاقات البطاطا، والمرتديلا التي تحتوي على النيترات، والتي تتحول الى مادة «نيتروزاجين»، المسببة لسرطانات الكلى والعظم والدم والنخاع الشوكي».

ونصح إما بتناول عشبة إكليل الجبل مع الخبز لتفادي الاحتمال السرطاني، او باختيار الخبز المكون من القمح الكامل، أو من الحبوب الكاملة كالقمح والشعير والشوفان وبذر الكتان.

ويلفت النظر إلى أن تقريراً «لمنظمة الصحة العالمية» يفيد بأن «77 الف مادة كيماوية تدخل يومياً الى جسد الإنسان، إذا ما قارناه بالإنسان من مئة سنة مضت»، وذلك نتيجة الطعام، الى جانب عوامل اخرى كالمناخ والمعامل الصناعية.

تعليقات: