مشاركة المغتربين في الانتخابات


... هذا يعني أن منح المغتربين حق الاقتراع قد يفضي إلى واقع تكون فيه كفة الترجيح في انتخاب نواب لبنان لأصوات المغتربين على وجه حاسم، فهل هذا مستساغ ديموقراطياً؟!

تصاعدت الدعوة إلى منح المغتربين اللبنانيين المقيمين خارج لبنان حقّ الاقتراع في الانتخابات النيابية. الدعوة مشروعة ظاهراً، لكنها تستدعي المزيد من التبصّر والدراسة للتعرف إلى تداعيات ممارسة هذا الحقّ والتِزام الشروط التي يفترض أن تتوافر كي تتحقق الأهداف المرجوّة من هذه الخطوة.

من البديهي أن يكون للمغترب الذي يحتفظ بجنسيته اللبنانية حقّ الاقتراع في لبنان، أسوة بأي مواطن لبناني آخر. لكن هل يجب أن يُعطى المغترب حقّ الاقتراع حيث يُقيم في الخارج عبر السفارة أو القنصلية اللبنانية في محل إقامته مثلاً؟ الإجابة عن هذا التساؤل ترسم أكثر من علامة استفهام، خصوصاً في حال كان المغترب مُقيماً في الخارج إقامة دائمة. قد يُقال إن المواطنين الأميركان إن وُجدوا في بلد آخر يوم الانتخاب في أميركا، يستطيعون ممارسة حقهم في الاقتراع في سفارة بلدهم أو قنصليته. وهذا ينطبق على مواطني كثير من البلدان الغربية الأخرى. فلماذا لا يكون للمسافر اللبناني مثل هذا الحقّ؟

ثمة اعتبارات وخصوصيات لا بُد من أن تؤخذ في الاعتبار في الإجابة عن هذا التساؤل. أولها أن الوجود الاغترابي اللبناني في الخارج واسِع جداً. فالواقع أنّ عدد المغتربين اللبنانيين يبلغ أضعاف عدد اللبنانيين المقيمين داخل لبنان. فبحسب بعض التقديرات يبلغ عدد المغتربين المقيمين في الخارج ثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد المقيمين في لبنان. لكن الذين يحتفظون بجنسيتهم اللبنانية من هؤلاء قد يكونون أقل كثيراً من ذلك.

هذا يعني أن منح المغتربين حقّ الاقتراع قد يفضي إلى واقِع تكون فيه كفّة الترجيح في انتخاب نواب لبنان لأصوات المغتربين على وجه حاسِم، فهل هذا مستساغ ديموقراطياً؟

من المسلّمات أن من مهمات النائب التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، أي الحكومة. فهل يستطيع أو يجوز للمُقيم في الخارج إقامة دائمة ممارسة هذا الحق؟

هل يستطيع المغترب أن يتابع عمل الحكومة اللبنانية ويراقبه وهو في طرف آخر من العالم؟ وهل يجوز للمقيم في قارة أخرى، تفصلها عن لبنان بِحار ومحيطات، أن يسنّ تشريعات تطبّق في لبنان؟ هل يجوز للمغتربين أن يسنّوا قوانين ويفرضوا ضرائب على المقيمين في لبنان وهم، أي المغتربون، لا يخضعون لها؟ فلنتصوّر حالة يقرّ فيها مجلس النواب بأكثرية من المغتربين المقيمين في الخارج قانوناً يفرض ضريبة جديدة أو رسماً جديداً يخضع له اللبناني المُقيم ولا يخضع له اللبناني المغترب.

هل هذا من العدالة في شيء؟ من الطبيعي أن يكون المشترع خاضِعاً لمفعول التشريع الذي يصدر عنه، فيذوق طعمه ويتحمّل وطأته وتبعاته كسائر المواطنين. ثم إن المواطن، بصفته ناخِباً، يحاسب نائبه على أدائه يوم الانتخاب، فلا يقترع له إن لم يكن راضِياً عنه. فكيف ستكون مثل هذه المحاسبة من جانب ناخِب مقيم في الخارج ليس بإمكانه بطبيعة الحال رصد أداء النائب في لبنان يومياً؟

المشكلة تكمن، من جهة، في أرجحية عدد المغتربين اللبنانيين في الخارج، الأمر الذي يجعل زمام القرار التشريعي في لبنان إلى حدٍ ما في الخارج. ومن جهة ثانية، أن المقيم إقامة دائمة في الخارج لا يخضع لمفعول القرار الذي يصدر عنه. وهاتان الخصوصيتان لا تنطبقان على المسافرين الأميركان أو البريطانيين أو الألمان . . . في الخارج.

ليس هناك عملياً ما يمنع المغترب اللبناني الذي يحتفظ بهويته اللبنانية من أن يدلي بصوته يوم الانتخاب في صندوق الاقتراع إذا ما قدم إلى لبنان وتوجه إلى مدينته أو بلدته أو قريته. هذا الأمر طبيعي ومشروع ومحسوم. إلاّ أن ما يحصل فِعلياً هذه الأيام، في مرحلة الإعداد للجولة الانتخابية المقبلة، يشكّل ظاهِرة غير مشروعة وغير مستساغة.

بعض المرشحين الذين يتصرفون بثروات ضخمة، أكثرها مستورد من الخارج، أخذوا يستقدمون المغتربين على نفقتهم الخاصة بالإضافة إلى إمدادهم بمنحة مالية من قبيل المزيد من الإغراء. هكذا بات الصوت الاغترابي في تلك الحال يقترن بتكلِفة عالية قد تبلغ في حالات كثيرة ربما ثلاثة آلاف دولار أميركي. هذا من جهة بمثابة الرشوة، ومن جهة اخرى، هذا يعني أن من يمتلك المال يقبض على القوّة الانتخابية الراجِحة.

فهل هذا من الديموقراطية في شيء؟ عندما تغدو الثروة مدخلاً إلى النيابة، وبخاصة عندما يكون المال نابعاً من مصادر خارجية معروفة، فإن النيابة تفقد صِفة التمثيل الديموقراطي الصحيح ولا يعود لها أدنى قيمة في الميزان السياسي أو الوطني.

إننا نردّد القول إن الانتخابات النيابية في لبنان ليست من الديموقراطية في شيء ما دامت نتائجها يتحكّم بها عاملان، كلاهما لا يمتّ إلى الديموقراطية بصِلة: المال السياسي والعصبيات الفئوية، المذهبية والطائفية. وكلا العاملين يفعل فعله في صوت الاغتراب. فالمال السياسي شقّ طريقه في استجلاب بعض المغتربين من الخارج بمغريات فاضحة.

والعصبيات الفئوية التي تعتمل داخل المجتمع اللبناني المقيم لم تبرأ منها كثرة من الاغتراب اللبناني على ما يبدو واضحاً.

موجز القول أنّ منح المغتربين اللبنانيين حقّ الاقتراع في الانتخابات اللبنانية في أماكن إقامتهم في الخارج، يبدو في الظاهِر طبيعياً. إلاّ أنّ الأمر ينبغي ألاّ يؤخذ بهذه البساطة. فالأمر يستثير مسائل وقضايا جديرة بالتبصّر والتفكير والمناقشة قبل بتّ الموضوع نهائياً.

فالإيجابيات يقابلها بعض السلبيات التي لا يمكن تجاهلها. لعل هذا ينبغي أن يكون حافِزاً على الحدّ من التوسّع في منح حقّ الاقتراع للمقيمين في الخارج.

تعليقات: