ميشال عون يتذكّر: هذه طفولتي في الضاحية. كان بيتنا قريباً من تمثال ميشال زكور

العماد ميشال عون
العماد ميشال عون


في 6 شباط 2006، احتضنت كنيسة مار مخايل في الشياح حفل توقيع وثيقة التفاهم بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات بين الحزبين الأكثر شعبية في الشارعين الإسلامي والمسيحي. منذ ذلك الحين، بدأ كثيرون يتناقلون الأخبار عن زيارات يقوم بها الجنرال ميشال عون ليلاً إلى الضاحية ويعقد خلالها لقاءات مع السيد حسن نصر الله. خلال هذه الزيارات، كان عون يغتنم الفرصة أحياناً ليتجوّل في الضاحية وحده ويحاول اكتشاف معالمها الجديدة. أو قل، يحاول استعادة المعالم التي عرفها طفلاً وشاباً، والتي سنحاول أن نتعرّف إليها في هذا اللقاء الذي نعود فيه عقوداً إلى الوراء، لنستعيد صورة الضاحية كما سجّلتها ذاكرة ميشال عون.

النص:

في غرفة الاجتماعات في منزل العماد ميشال عون في الرابية صورة لضيعة هدّمها الزلزال كان اسمها خلخيا، المعروفة باسم المكنونية اليوم. هذه القرية الواقعة في قضاء جزين، هي التي ولد فيها نعيم عون، والد الجنرال. أما أمه فقد ولدت في أميركا. رغم ذلك، يجيب الجنرال، عندما نسأله عن تاريخ قدوم عائلة عون إلى الضاحية بالعبارة التالية: "من زمان. قبل الإحصاء الأول".

ففي العام 1932 ولد شقيقه الكبير الياس في الضاحية، ولدت بعده شقيقة له لكنها توفيت، وكان هو الولد الثالث الذي رأى النور في الشياح في 18 شباط 1935. وتتألف عائلته من ستة أولاد وفق الترتيب التالي: الياس، ميشال، جانيت، انطوانيت، رينيه روبير.

يقول الجنرال محاولاً إرشادنا إلى البيت الأول: "ما حدا منكن بيتذكر المحل هلق، لأن كل المعالم تغيرت. كان بيتنا قريباً من تمثال ميشال زكور". يلتفت إلى القيادي في التيار الوطني الحر رمزي كنج، الذي كان حاضراً اللقاء ويسأله: "بعدو محلو التمثال أو زاحوه؟"، فيجيبه كنج أن التمثال لا يزال موجوداً "لكن ربما يكون مكانه قد تغير".

يحاول عندها أن يدلنا من خلال معالم نعرفها. لكنه عندما يفعل ذلك يكتشف أن عليه إعادة رسم طرقات الضاحية من جديد. يجعل من كنيسة مار مخايل نقطة الارتكاز، خصوصاً أنه سُميّ ميشال تيمناً بها. يصف لنا طريق صيدا القديمة التي كانت تشكل خط سير واحدا، تتفرّع منها طريق مؤدية إلى المشرفية. لا ينسى أن يذكر صيدلية عبدو دكاش والد النائب بيار دكاش. أما من الجهة الثانية لطريق صيدا، أي باتجاه بيروت، فيذكر عون بيت عباس القارح. قربه كانت توجد أشجار صنوبر "وكان بيتنا في الطبقة الأرضية".

لا نخبر الجنرال أننا على الرغم من هذا الشرح المفصّل لم نستطع معرفة مكان البيت. فجغرافيا الضاحية كما يذكرها عون بدقة، تختلف عن التي نعرفها نحن اليوم. هذا ما يعترف به عون، حين يقول إنه عندما زار الضاحية عام 2005 للاقتراع في الانتخابات، تفاجأ بها. كانت تلك الزيارة الأولى له بعد عودته من فرنسا في 7 أيار 2005. "فكّرت حالي فايت على حيّ جديد، ما عدت عرفت شي".

جغرافياً، كان عون قادراً على تحديد مكان وجوده "وفقاً لأسماء البساتين التي كانت منتشرة آنذاك، لكن ما كان في ولا بستان باقي على حاله. ولا شجرة فالتة من القص. كنت أقول لنفسي هذا بستان المشنوق. هوني كانوا بيت صوما. هذا جلّ البلح اللي لبيت كنعان". طبعاً هذه البساتين والبيوت لم تعد موجودة اليوم وتحولت كلها إلى مبان سكنية. يقول عون إنه حتى العام 1982، كان التعرّف إلى المعالم القديمة للضاحية التي كبر فيها لا يزال ممكناً. بعد هذا التاريخ، الذي شهد الاجتياح الاسرائيلي للبنان، تغير كلّ شيء.

لكن قبل التوسع في الحديث عن الضاحية في بداية الثمانينيات، نعود مع الجنرال إلى طفولته في الشياح أولاً، ثم في طريق صيدا القديمة، حيث انتقلت العائلة إلى بيت "قرب بستان لناس من بيت غصن، مقابل معامل تامر، وبقينا فيه حتى العام 1941". في هذه المرحلة، يذكر عون أنه صار لديه ذاكرة تسجّل الأحداث. "هونيك فقت" يقول، لأنه "قبل العام 1941 لم أكن أحفظ إلا أشياء بسيطة". أما أبرز ما يذكره عون من تلك المرحلة "جيش حكومة فيشي الفرنسية الذي كان يضم مغاربة، تونسيين، سنغاليين. كانوا يمرّون قرب بيتنا على طريق صيدا باتجاه الجنوب مشياً على الأقدام". كما يتذكر احتراق الكازخانة (أو مستودعات البترول): "إجت طيارة وضربتهم".

آنذاك، كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مندلعة ولم يكن لبنان بمنأى عن نيرانها. يذكر عون وجود رشاشات مضادة للطائرات قرب كنيسة مار مخايل، وأنه كان يصعد إلى سطح المنزل ليراقب الطائرات وهي تقصف: "لكن أمي كانت تجي بقضيب الرمان وتنزلنا ع البيت" يستطرد ضاحكاً.

ازدادت قساوة الحرب مع اقتراب نهايتها، وهذا ما دفع عائلة عون إلى اللجوء إلى خندق حفر في الأرض للاحتماء فيه في كل مرة كان يشتد فيها القصف. ثم انتقلت العائلة إلى بيت آخر "عند بيت حنا واكد ع البساتين لجوا"، ومنه إلى بيت في الرويس، قبل أن تستقر العائلة حتى العام 1976 في البيت الأخير الكائن في حي كنيسة مار يوسف في حارة حريك.

مشاهد مخزية

هذا السرد السريع لا يمنع عون من التوقف عند ثلاثة مشاهد اختزنتها ذاكرته ولم يستطع محوها على الرغم من كلّ الحروب والأحداث التي عاشها لاحقاً. الحادثة الأولى كانت بعد انتصار الحلفاء في الحرب ودخول جنود فيتنامنيين واستراليين إلى الضاحية. "ذات ليلة دخلوا إلى بيتنا، وطردونا من غرفنا بعد منتصف الليل ليناموا هم على فرشنا. نحن قعدنا بالليل تحت الشجرة". يتابع ساخراً: "ساعتها، بلشت حب الجيوش الأجنبية".

مشهد مخز ثان يتذكره: "جندي سنغالي يلحق امرأة ويحاول أن يغتصبها. صارت تصرخ وصرت أنا، ابن الست سنوات، أصرخ أيضاً. هذا المشهد لم يعجبني وخلق عندي ردود فعل". أما الحادثة الثالثة التي يرويها لنا، فقد سمعها ولم يرها بعينيه: "قالوا إن شاحنة عسكرية للحلفاء دهست لبنانيين وقتلتهما. وعندما سئل الجنود الانكليز عن الأمر كانت إجابتهم لا مبالية: روحوا شوفو أديش عم يموت بالحرب".

هذه هي الصور التي اختزنتها ذاكرة الطفل ميشال، الذي كبر في الضاحية وعاش فيها "حياة بسيطة خالية من التكلف" كما يقول. لا يصف عائلته بالفقيرة: "كنا نعيش متوسطي الحال اي أننا لم نكن نملك احتياط". طفلاً، كان ولداً شقياً "أعربش ع الأشجار". وفي سنوات فتوته، كان يساعد والده في عمله في مزرعة العائلة: "قطفت بندورة وليمون وأتقنت الزراعة. لا أزال إلى اليوم متعلقاً بالأرض، أعشقها".

الهجرة والنزوح

في العام 1948، استقبلت الضاحية اللاجئين الفلسطينيين الذين قدموا إلى منطقة برج البراجنة. كان عون في الثالثة عشرة من عمره، ويتذكر هذه المرحلة جيداً "كان بيت ناصر الدكاش مبنياً على أعمدة، اقام كثير من الفلسطينين تحتها. كان ذلك في بدايات تهجيرهم. الصورة تعيسة. عرفت يومها معنى اللجوء. كأولاد، صرنا نساهم في المساعدة. نحمل لهم البطانيات ونساعد في نصب الخيم. كانت مشاعري تتراوح يومها بين الحشرية والعطف". مع الوقت، بُنيَ مخيم برج البراجنة "وصار الفلسطينيون يعملون عندنا في البستان. أتذكر أنهم كانوا ينادونني معلّم (موشال) لأنهم لا يحسنون لفظ اسمي".

أما هجرة أبناء البقاع والجنوب إلى الضاحية فيؤرخها عون بنهاية الستينيات، أو حسب تسميته التي يحرص عليها لتنبيه الناس: "في اليوم السابع لحرب الأيام الستة". برأيه، بدأت الحرب على لبنان مع نهاية حرب العام 1967: "اليوم السابع كان إلنا وبدأت الحرب من يومها". ويميز عون بين نزوح أبناء البقاع "الذين قدموا للعمل واستأجروا البيوت" وبين نزوح الجنوبيين بسبب الاعتداءات الاسرائيلية.

الدراسة والهوايات

المدرسة الأولى التي انتسب إليها عون في صفوف الروضة كانت مدرسة اللعازارية خلف كنيسة مار مخايل، "قبل بناء دير اللعازارية الذي تعرفونه". بعدها انتقل إلى مدرسة رسمية في الشياح وبقي فيها حتى أنهى الصف الخامس ابتدائي. "استقربنا بالأول ووضعني أهلي في مدرسة قرب البيت، كان الأستاذ محمود ستيتية، والد الشاعر السفير صلاح ستيتية، يعلّمنا".

من الخامس ابتدائي، ترفّع عون مباشرة إلى الثاني متوسط بعدما خضع لامتحان دخول إلى مدرسة الفرير في فرن الشباك. ومن الفرير انتقل إلى القلب الأقدس في الجميزة حيث أنجز دراسة البكالوريا، قسم الرياضيات. رحلة الذهاب إلى المدرسة كانت حفلة تعذيب يقول عون. "من الرويس كان علينا أن نسير إما إلى مستديرة شاتيلا أو مستديرة الطيونة، لكي نستقل سيارة أجرة". لذلك كان يستيقظ كل يوم عند الساعة الخامسة صباحاً: "أخذتها طعجة منذ ذلك الوقت إلى اليوم" يقول ضاحكاً، لافتاً إلى أنه اشترى دراجة هوائية في السنوات الأخيرة وصار يتنقل بها يومياً في رحلته إليومية إلى المدرسة في الجميزة "كنت أنزل في شارع بشارة الخوري وأمشي. آكل سندويش فلافل عند فريحة وأكمل طريقي إلى المدرسة".

بقيت هذه الرحلة اليومية لعون حتى دخوله إلى المدرسة الحربية، التي اختار الانتساب إليها بسبب الوضع الاقتصادي الذي لم يكن يسمح بدخوله إلى الجامعة اليسوعية لدراسة الهندسة كما كان يحب. "أحببت أن أؤمن استقلاليتي باكراً فتقدمت إلى امتحان الحربية في النادي العسكري ونجحت فيه". كان ذلك عام 1952.

قبل صدور نتائج الامتحان، كان عون يسير مع والده في منطقة بئر العبد. يحرص الجنرال على إعادة رسم خريطة المنطقة آنذاك وذكر أسماء المقيمين فيها، قبل أن يتابع القصة: "قرب البير كان في منجرة. وكان هناك تقاطع يصل بين طريقين، يؤدي أحدهما إلى معمل جبر وإلى بيت كبير من القرميد لآل اللادقي. هناك كان يقيم النائب هنري طرابلسي ابن خالة الرئيس كميل شمعون".

التقى عون ووالده بالشيخ عبد الله شبير "الذي نصح أبي بأن يوصي طرابلسي بي لينجّحني في الحربية. نظرت إليه أنا وقلت له: ليك يا شيخ عبد الله، ما في لزوم. بكرا إذا نجحت بربّحني جميلة مدى الحياة، وإذا رسبت بيصيرو يقولوا شدّينا فيه بس طلع حمار. بالنتيجة رح أدفع حق شغلة: إما إهانة وإما تربيح جميلة".

خلال سنوات الدراسة، كانت وسائل الترفيه التي يملكها الشباب معدودة. السباحة صيفاً: "كنا نروح مشي ع السان ميشال والسان سيمون. كنا نقلب مثل الفحم بالصيف". لعب الطابة "كنت أحب الطابة على أنواعها، فوتبول، فولي وبقيت أمارسها خلال دراستي في الحربية". أما السينما... فقصة أخرى: "كانت شي ملهى عظيم بالنسبة لنا. لما نروح نحضر فيلم كنا نضل نتذكرو فصل كامل إلى أن نحضر فيلماً ثانياً". ويتذكر عون الفيلم الاول الذي حضره... يقول بعد تفكير: أكيد رح اتذكر اسمو، هيدا أول فيلم بحضرو... إيه فيلم زورو وشاهدناه في سينما الأوبرا بالبلد".

يتذكر أيضاً تاريخ وصول التلفون إلى البيت "لما صار عنا تلفون اوتوماتيك كنت تخرجت من الحربية. قبل ذلك، كنا نتلفن من دكان أبو حمزة في الرويس".

مغادرة الضاحية

في العام 1968 تزوج عون من السيدة ناديا الشامي في كنيسة حارة حريك، وانتقل للإقامة في بعلبك حيث كان يخدم في الجيش. بناته الثلاثة، ميراي، شانتال وكلودين تعمدّن في كنيسة حارة حريك. "لا أعرف إن كانت ميراي تتذكر شيئا ًمن بيت جدها، فقد غادره أهلي عام 1976".

في ذلك العام، كان عون قائد كتيبة في صيدا. الاشتباكات اليومية بين الفلسطينيين والأحزاب المسيحية كانت تنذر باتساع رقعة الحرب. اتصل بالبيت في حارة حريك حيث كان يوجد والداه وأخته وطلب منهم مغادرته "لأني كنت أتوقع الأسوأ". فقد حصل "اجتياح فلسطيني للحارة وأحرق المسلحون الصيدلية الوطنية التي كانت موجودة في ساحة الكنيسة". لكن أهله لم يغادروا مباشرة بل تأخروا لليوم التالي، بعد أن تركوا البيت في عهدة ناس من آل حيدر من جبيل. "كنا على علاقة جيدة بهم. وأتذكر أننا عندما رجعنا أول مرة إلى حارة حريك بعد هذه الحادثة نقزوا. خافوا أن نكون عدنا لكي نطردهم. لكننا قلنا لهم نعود عندما تستطيعون تدبر أموركم. كانوا حساسين جداً، بعد شهر واحد اتصلوا بنا وأعادوا لنا البيت".

قبل ذلك، كان عون قد عاد إلى الضاحية لكن في مهمة عسكرية عام 1982، خلال الاجتياح الاسرائيلي. "كنت مسؤولاً عن القوى التي شكلت اللواء الثامن في ما بعد، واستطعنا إنقاذ حارة حريك وبرج البراجنة ومخيم البرج من الاسرائيليين. عندما دخل الاسرائيليون إلى المخيمات هناك أماكن لم يستطيعوا دخولها، نحن كنا منتشرين فيها. تمتد هذه الأماكن من خط الطيونة إلى شاتيلا، ومن مستديرة المطار إلى برج البراجنة: "كلها ما فات عليها ولا اسرائيلي". بقي عون في الضاحية مع هذه القوى حتى العام 1984، ليغادرها مع اندلاع انتفاضة 6 شباط.

فقد عون في الضاحية ألبومات صوره التي احترقت في حارة حريك، وكذلك الاسطوانات الموسيقية التي كانت تشكل "ديسكوتيك" صغير وتحوي أغنيات أسمهان وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب بداية، ثم الرحابنة في وقت لاحق. ويقول عون في هذا الإطار أنه تابع بعض الحلقات من مسلسل أسمهان الذي عرض خلال شهر رمضان الفائت لكنه لم يحبه "حاطين رواية أكثر من الحقائق وأنا لا أحب الروايات".

إعادة إعمار

اليوم لم يبق شيء لعائلة عون في الضاحية، فالبيت في حارة حريك كان مستأجراً. وحدها الذكريات تلازم الجنرال الذي يحرص على القول إنه يتفقدها ولا يعيشها "لأني لا أزال أفكر بالمستقبل، ولا أتوقف عند الماضي بمعنى الحنين".

في هذا الإطار نسأله عن المستقبل الذي يراه للضاحية فلا يتردد في القول: "بدها نفض. بدها إعادة إعمار جديد". برأيه كان يمكن الضاحية أن تكون أجمل بكثير مما هي عليه اليوم لو انتبهوا لإعمارها وفق معايير التنظيم المدني "أنا كنت أسميها المنطقة السكنية الجديدة". ويكشف أنه يتابع عملية إعادة إعمار المباني التي تهدمت خلال حرب تموز عام 2006، التي يقوم بها مشروع وعد: "ما يبنونه نسخة مرتبة أكثر. يوجد مخطط إعماري وأخذوا بعين الاعتبار الحاجات والفسح. العمار مش لوكس لكنه صحيح". نسأله عن بيروت وما إذا كانت معالها تغيرت أيضاً فيبدي عدم رضاه عن عملية إعادة إعمار وسط المدينة التي أفقدت العاصمة هويتها.

شيء واحد لا يتغير، العلاقات الإنسانية التي يحرص عون عليها خصوصاً مع سكان الضاحية الذين لا يزالون يزورونه أو يرسلون له السلامات. "منذ أيام زارتني سيدة كانت تدرس مع شقيقاتي في دير اللعازارية الكائن في المريجة. وغالباً ما أتلقى سلامات من اصدقاء قدامى".

كادر: من شبّ على شيء

صحيح أن الجنرال ميشال عون فقد البومات صوره بعدما احترق بيت العائلة في حارة حريك خلال أحداث الحرب اللبنانية، إلا أنه استطاع استعادة بعضها عن طريق أصدقاء قدامى كانوا يرسلونها إليه. من بين هذه الصور نجد صورة له مع زملائه في الصف الأول ثانوي، وصورة ثانية يوم التخرّج في الحربية.

وفي حين يصعب التعرّف إلى الجنرال في الصورة الاولى، يبدو الأمر بالغ السهولة في الصورة الثانية التي يبرز فيها شاب رافعاً يديه بعلامة النصر: إنه الملازم ميشال عون.

الإشارة نفسها سيرفعها في قصر الشعب نهاية الثمانينيات، قبل أن يغيرها إلى إشارة التيار الوطني الحر التي نعرفها اليوم.

الشاب السبعيني

تدهشك ذاكرة الرجل الذي يحتفل في 18 شباط بعيد ميلاده الخامس والسبعين. قد لا يكون غريباً ان يسترجع رجل، أي رجل، شريط حياته. لكن ميشال عون ليس أي رجل. ليس ضابطاً متقاعداً ولد وعاش وتخرّج وخدم وتقاعد... والسلام. هو، إضافة الى كل ما سبق، ثار وتمرّد وتصدّى وهُجّر ونُفي وعاد و... إلا أن ذلك كله لم يخدش شريط الذكريات، كما قد تخدش آلة تسجيل شريط كاسيت قديماً. تنساب الذكريات من مخزونه بسلاسة. يعدّد أسماء "العودات" (البساتين) التي لم يتبق منها شيء، كما لو انه كان هناك البارحة: عودة المشنوق، وبيت صوما وبيت كنعان. صنوبرة بئر العبد، وأحياء الرويس والبرج. بيت حنا واكد. بيت اللادقي وبيت طرابلسي وبيت الشيخ عبدالله شبير. أصدقاء الطفولة من آل كنج وصبرا وعمار وحاطوم وغيرهم. تمثال ميشال زكور... وهو، وإن "صفن" قليلاً، ليتذكر اسماً ما، يعاجله رمزي كنج بدعم لوجستي، حتى لتخال ان الجنرال السبعيني والقيادي الشاب في تياره كانا على مقعد دراسي واحد.

تختلط الاسماء. عباس القارح، مثلاً. الاسم الاول مسلم واسم الشهرة مسيحي. يلفظ الجنرال الاسم، ويمر عليه سريعاً. تخال ان هناك خطأ ما. لكن تكرر الامر يجعلك تيقن بأن ما من خطأ. كل ما في الأمر ان كل ما تسمعه، في أيامنا هذه، عن تعايش بين الطوائف، كان في يوم ما أمراً قائماً فعلاً... تخرج من اللقاء، الذي كان مقرراً له ان يستمر ساعة فامتد نحو ساعتين، وأنت تحمل صورة أخرى عن ضيعة وادعة جميلة اسمها "الضاحية"، سكنها الجنرال طفلاً وشاباً، وسكن قلوب أهلها كهلاً سبعينياً.

تعليقات: