الممكن قوله عن «ساحر» المقاومة...


الرجل الذي كان يعرف أنّه لن يخرج إلى الضوء إلا شهيداً، كان يعرف أيضاً أنه سيمر وقت طويل قبل أن يحين الموعد المناسب للحديث عن تفاصيل إنجازاته وعالمه. وهو الذي اختار لنفسه هذا النمط من الحياة كان يفسّر الإجراءات التي يقوم بها: أخاف من الغدر، لكنني لا أخاف من المواجهة أو الموت

-1-

لم يكن قد مرّ وقت طويل على اندلاع الحرب الأهلية، حين بلغ عماد مغنية سن الرابعة عشرة. ابن محلة الشياح التي استقبلت على عجل الوافدين من النبعة والكرنتينا، عاش مناخات سياسية متقلبة من حوله. كان لوالدته المهتمة كثيراً بتعليم الدين تأثير كبير على الشاب الذي انخرط سريعاً في تحمّل واجباته الدينية. لكنه سرعان ما كان يتفلّت من أشياء كثيرة مثل أقرانه، وكان يختفي في الأحياء الضيقة حيث المقاتلون الذين يكبرونه عمراً وحجماً. وكانت حيرته في أنه لا يريد أن يفهم قولهم بأن عليه الانتظار سنوات حتى يصبح واحداً منهم.

الشاب المؤمن، لم تسحره صيحات اليسار بخلاف الكثير من أترابه، وقد وجد ضالّته في المكان الأقرب إلى تسوية يعقدها مع نفسه. كانت المقاومة الفلسطينية هي المكان المناسب، وكان الجهاز العسكري فيها المكان الذي يقرّبه أكثر إلى حياة المقاتلين وبرامجهم دون أن تلزمه خيارات عقائدية معينة، وهو الأمر الذي استمر فيه حتى انتصرت ثورة الإمام الخميني في إيران.

عندما شنّت إسرائيل اجتياحها الأول للبنان في آذار عام 1978، وكان عماد مشاركاً مع مجموعات فلسطينية عدة قاتلت في تلك الفترة وعملت على تعزيز حضورها في المناطق المتاخمة للشريط المحتل، كان الرجل بعيداً عن الجدل السياسي بمعناه التقليدي. القريبون منه يفسّرون الأمر على أنه إشارة إلى حسم مبكر للموقف: التصدي للاحتلال الإسرائيلي يوجب التحرك وفق آليات تتيح الحصول على ما يحتاج إليه المقاوم، سواء في المعركة المباشرة ضد قوات الاحتلال أو في مواجهة القوى الداخلية المتصلة بإسرائيل أو بمشروعها. ولذلك لم يكن هناك من رابط عقائدي أو سياسي محض خاص بينه وبين الفصائل الفلسطينية، بقدر ما كان الأمر على شكل اتصال مباشر ووثيق بالقضية الفلسطينية.

لم يكن عماد مغنية منضوياً في إطار تنظيمي متكامل. وضع الاجتياح الإسرائيلي الكثير من المجموعات في مواجهة الاستحقاق الأبرز لها. مساهمات متفرقة في التصدّي للاجتياح، بعضها حصل بطريقة مستقلة، وبعضها الآخر من ضمن الأطر التي كانت قائمة وخصوصاً الفلسطينية منها، وكان هناك الكثير من الإسلاميين الذين عملوا في فتح، ولكن عماد لم يكن ضمن هذه التشكيلات عندما شارك وعدداً من رفاقه في التصدي لقوات إسرائيلية في خلدة، وهناك أصيب عماد للمرة الأولى بجروح ليست خطرة، لكن هذه المعركة فتحت له الباب أمام عالم آخر، استمر فيه حتى لحظة استشهاده قبل عام.

لم يكن حزب الله قد تكوّن على هيئة تنظيم في ذلك الحين، لكن المقاومة الإسلامية انطلقت من دون الإعلان عنها، والمساهمات الكبيرة التي قدّمتها إيران من خلال مجموعات الحرس الثوري التي استقرت في بعلبك في تلك الفترة، أسّست لعمل أكثر تنظيماً، وبدأ الجميع ينتبه إلى العقل الأمني والعسكري الذي يميّز هذا الشاب. وبينما كان الإسرائيليون لا يزالون في غالبية المناطق التي احتلوها، كان عماد مغنية يُعدّ للأعمال النوعيّة الكبرى التي كانت فاتحة لصفحة جديدة من الحرب مع العدو.

العملية الأولى للشهيد أحمد قصير، أو فاتح العمليات الاستشهادية. كان الشاب البسيط المؤمن الذي تولّى الحاج عماد التخطيط والتحضير وقيادة عمليته النوعية. درس الواقع الأمني على الأرض، حيث ظل يتجوّل في مناطق الاحتلال وخارجها حتى عام 1985، وحدّد الهدف بـ«إيقاع» أكبر الخسائر البشرية والمعنوية في جيش العدو، وتنفيذ عملية تعطي المؤشّر على شكل المقاومة التي تنتظر الإسرائيليين. اقتحم الاستشهادي بسيارته مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي لينفذ أول عملية استشهادية أوقعت أكبر خسائر بشرية عرفتها إسرائيل في عملية واحدة. (مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي ـــــ قيادة قوات الاحتلال).

يومها، كان عماد يباشر أنماطاً جديدة من العمل المقاوم، وكانت المجموعات تتشكّل وتنفذ العديد من العمليات من دون إصدار بيانات أو الإعلان عن المسؤولية، وبينما كان ناشطون سابقون في حزب الدعوة وقياديّون في حركة أمل ومجموعات عرفت بقربها من مدرسة الشهيد مطهّري يقتربون بعضهم من بعض، تولى الحرس الثوري الإيراني في بعلبك تدريب مجموعات على القتال ودعمهم عسكرياً ومادياً، في تلك الفترة كان الأمين العام الحالي للحزب السيد حسن نصر الله في البقاع، وتولى المسؤولية التنظيمية هناك، فنشأت العلاقة بينه وبين الحاج عماد.

يصعب على كثيرين من الذي عملوا معه أو تعرّفوا إليه عن قرب تجاهل ما يعرف بالمهارات القيادية التي كانت لديه: الحزم والبأس والقدرة على التفاعل مع الآخرين، المبادرة واتخاذ القرار والتشاور والاستماع إلى آراء لا تطابق ما يقوله، الحذر والتدقيق ومنح الثقة لمن يستحقها وتفعيلها على شكل توزيع مسؤوليات، التمسك بمرجعية قراره النهائي في قطاعه، وتحمّل المسؤولية عن أي أخطاء تُرتكب. المحاسبة المباشرة وعدم المراوغة أو المحاباة.

بين عامي 1982 و1985 تاريخ الانسحاب الأول لإسرائيل من غالبية المناطق اللبنانية وانحسارها حتى الشريط الحدودي، كان عماد مغنية يقود العشرات من مجموعات المقاومة. ظل يتنقل بين المناطق المحتلة وبيروت والبقاع حتى صار من الصعب التحرك بسهولة لأسباب أمنية. تولى خلال هذه الفترة الإعداد لمعظم العمليات النوعية والاستشهادية، وكان أحد الأوائل الذين يدخلون العنصر الأمني إلى العمل العسكري.

لم يوفّر في تلك الفترة مواجهة القوات المتعددة الجنسية، التي قصفت مناطق من بيروت والجبل، والتي انتشرت قواتها في لبنان لضمان النتائج السياسية للاجتياح. عمل عماد على الاستفادة من تركة المقاومة الفلسطينية في لبنان بشرياً وعسكرياً، لكنه خاض تجربة من نوع مختلف، استندت إلى واقع أنه يجب توجيه الضربات غير العادية إلى العدو، وإلى إشعاره بوجود قدرات على تحمّل قمعه وقتله ومواجهته بما هو أشدّ قسوة. وفي عام 1983 نجح عماد ورفاقه في أسر جندي إسرائيلي، في منطقة السعديات، على الطريق القديمة التي تربط بيروت بصيدا، وقد كانت أول عملية أسر، لكن لأنه لم تكن هناك أي خبرة سابقة في الترتيبات الخاصة لعمليات من هذا النوع، حصل أن وقع خلل نجم عن مقاومة الجندي الأسير لمعتقليه، حتى أطلق النار عليه أحد المقاومين، قتل الجندي وترك في المكان، لم يكن هناك يومها أي إجراءات خاصة للاحتفاظ به.

تقدم الشاب العشريني سريعاً في العمل العسكري والأمني، وكانت مهاراته في هذا المجال تبرز يوماً بعد يوم، وكلما كثر الكلام عنه في الإعلام واتهامه بأعمال وأعمال، كان يبتعد عن الأضواء، ويتحول شيئاً فشيئاً إلى «الشبح» الذي ظلّ مجهولاً إلى أن عاد ليعرفه العاملون معه باسم الحاج رضوان.

-2-

في نهاية ربيع عام 1999 أعلن إيهود باراك المنتخب رئيساً لحكومة إسرائيل نيّته سحب قوات الاحتلال من لبنان خلال عام واحد. سعى ومعه العالم لأن يتم الأمر على شكل إنجاز وانتصار. وعلى الأرض أوحت الخطوات العملانية بأن إسرائيل مقبلة على خطوة جدية، لكن قرار الإخلاء التام وخروج العملاء أيضاً لم يكن محسوماً. خرجت أصوات في إسرائيل وبين قادة العملاء تدعو إلى ترك الشريط الحدودي بيد ميليشيا أنطوان لحد، فيما كانت المقاومة تدرس خياراتها العملية.

حينها عُهد إلى الحاج عماد منصب قائد الجسم الجهادي في الحزب، شغل سابقاً مواقع قيادية ووظائف رئيسية ضمن المنظومة القيادية لهذا الجهاز، لكنه باشر أعمالاً من نوع مختلف عندما أسندت إليه المهمة بأكملها، وبعد انطلاقه في عدد غير قليل من العمليات النوعية التي أنهكت العملاء وأنهكت جيش الاحتلال، درس مع قيادته الخطوة المتصلة بقرار العدو بالانسحاب. لم يكن هناك ما يوجب تصديق الأمر أو التعامل معه على أساس حقيقة ثابتة، وبالتالي لم يكن مسموحاً الاسترخاء، أو وقف العمليات بحجة أن إسرائيل سوف تنسحب، وهذا ما استدعى خطة عمل خلال سنة هدفها التأكيد على أن المقاومة سوف تطارد قوات الاحتلال حتى آخر نقطة حدودية، وأن المنطقة التي سوف يخليها لن تبقى يوماً واحداً تحت سيطرة العملاء.

التقديرات التي تفاوتت حول جدية خطوة العدو والتوقيت واحتمال ما بعدها، فرضت إعداد خطة وقائية، أخذ القرار بأنه إذا أنجز العدو انسحابه كاملاً أو ترك بعض جنوده في أيار أو حزيران، فإن على المقاومة الإعداد لهجوم شامل هدفه إنهاء هذا الاحتلال لمرة أخيرة، وفي غضون ذلك يجب العمل على تكثيف العمليات العسكرية، وعدم الإصغاء إلى أصوات ودعوات إلى عدم القيام بعمليات في الأشهر الاخيرة، وكانت الوجهة أنه إذا أنجز الانسحاب خلال شهر حزيران، فإن خطة التحرير الشعبية للشريط المحتل سوف تنفذ في شهر تموز من العام نفسه، وجرى إعداد سلسلة من الخطط والبرامج وترافقت مع إجراءات على الأرض لضمان نجاحها بأقل الخسائر الممكنة بين المقاومين والناس أيضاً.

لم تخلُ مناقشات قادة المقاومة في حينه من أفكار مختلفة حول طريقة التصرف مع عناصر لحد. كان القرار واضحاً وحاسماً، وأبلغه السيد حسن إلى قيادة المقاومة العسكرية: ممنوع المسّ بالمدنيين العملاء وعائلاتهم، بمعزل عن كل شيء، ممنوع إطلاق النار على أحد لمجرد أنه كان عميلاً أو خلافه، إذا لم يكن مسلحاً، لكن يجب الضرب بقسوة، وبقوة ومن دون رحمة كل من يتمسّك بسلاحه إلى جانب إسرائيل، في المواقع والمراكز والحواجز أو على الطرقات.

سريعاً باشر العدو بإخلاء عدد من المواقع، ثم سحب وحدات إضافية من جنوده، إلى أن أتى العشرون من أيار عام 2000. ووصلت المعلومات عن إخلاء العدو معظم مواقعه وإنهاء وجوده وتحرّكه في منطقة القنطرة والطيّبة، وبعد دخول الأهالي إلى تلك المنطقة وتحطيم البوابات، بدا أنه يمكن العمل بسرعة على خطة تموز، لكن تنفيذها صار مطلوباً الآن. انتقل عماد ورفاقه إلى المناطق المحاذية للشريط المحتل، ومن هناك أدار عملية اقتحام أهالي البلدات المحتلة، التي تتم بمواكبة من عشرات المجموعات من المقاومين الذين كانوا مكلّفين الإجهاز على أي مقاومة من جانب عملاء ميليشيا لحد، والإعداد لاعتقال كل من يسلّم نفسه، وقتل كل من يرفض إلقاء السلاح، والأخذ بعين الاعتبار خصوصية أشياء كثيرة، أهمها القرى المسيحية التي كانت في المنطقة.

خلال ثلاثة أيام لم يكن قد بقي أحد من جنود العدو أو من العملاء في معظم القرى الحدودية، وكان المئات من عناصر الميليشيات العميلة يستسلمون، فيما فرّ كثيرون إلى داخل إسرائيل، أما المواقع فقد أُخليت على عجل، وكان الحاج عماد أول من وصل بسيارته إلى ثكنة مرجعيون ومنها إلى معتقل الخيام فبقية المواقع الأمنية والعسكرية على طول الخط الممتد غرباً حتى الناقورة. أشرف شخصياً على جمع الغنائم وما خلّفه الإسرائيليون وعناصر لحد، قبل أن يعدّ سريعاً خطة انتشار جديدة لمجموعات المقاومة على طول الحدود، فيما تولت مجموعات أخرى تفجير المواقع الإسرائيلية بعد إفراغها من موجوداتها ودرسها من داخلها.

خلال أسبوعين كان العمل قد أنجز، وانتقلت المجموعات إلى ورشة عمل من نوع مختلف، حيث الجهوزية الدفاعية تتقدم على العمل الهجومي، وطلب من وحدات خاصة الانتشار العسكري المباشر وأخذ الوضعية القتالية في منطقة مزارع شبعا، لكن كلمة السر كان قد أسرّ بها في أذن الحلقة القيادية الضيّقة بأن المطلوب الآن العمل بسرعة لتنفيذ عملية أسر لتحرير المعتقلين في السجون، آخذاً بعين الاعتبار فشل محاولات كثيرة جرت في العامين الأخيرين، وسقط خلالها عدة شهداء، وأنه يجب الاستفادة من عنصر المفاجأة لتحقيق هذا الهدف قبل أن يبتعد الإسرائيليون عن خط النار.

وخلال ست سنوات، قاد الحاج عماد أكبر عملية تطوير في عمل المقاومة في حينه، تدريب آلاف المقاتلين، والانتشار بطرق خاصة ومموّهة على طول الخط الحدودي، وإدخال وسائل جديدة إلى أرض المعركة، وعمل مع المئات من الذين يتم اختيارهم بعناية على نشر القوة الصاروخية للحزب بما يؤدي إلى الغرض المطلوب منها، وعلى حفر الأنفاق وإقامة القواعد الخاصة بالعمل القتالي، ونشر عشرات من نقاط المراقبة المعلنة وغير المعلنة التي كانت تحصي أنفاس جنود الاحتلال. وجرى تطوير خبرات كوادر في المقاومة على صعيد التعرف إلى جيش الاحتلال بكل تفاصيله وهيكيليّاته وطرق عمله، وكان يقود في الوقت نفسه جهازاً استخبارياً لن يكون بمقدور أحد الحديث عنه فترة طويلة، لكن كان له دوره في انتصارات وإنجازات.

وبعد إنجاز عملية الأسر في مطلع خريف عام 2000 في منطقة شبعا، ونجاح عملية التبادل في كانون الثاني 2004، انتظر الحاج عماد الجهود والوساطات ومع بقاء معتقلين في السجن، كان القرار بتنفيذ عمليات أسر جديدة، وفي تموز عام 2006 نجحت عملية «الوعد الصادق» ثم اندلعت أكبر حروب إسرائيل ضد لبنان والعرب.

-3-

«في ستة شهور أنجزنا ما قمنا به في ست سنوات» كانت هذه عبارة الحاج عماد بعد مرور أقل من تسعة أشهر على انتهاء حرب تموز، كان يعرض نتائج ما قامت به المقاومة على صعيد إعادة تجهيز نفسها بالقوة والعتاد. ومنذ اليوم الأول لتوقف الحرب المجنونة التي شنّتها إسرائيل على لبنان، كان الجميع في قيادة الحزب مشغولين بمتابعة أمور المهجّرين ومسح الأضرار، وكان الحاج عماد يتابع تفقّد رفاقه من المقاومين، قياديين وأفراداً، ويتابع ملف الشهداء منهم والجرحى، ولكنه في الوقت نفسه، كان يعرف كيف يستنفر الآلاف من المقاومين في برنامج عمل مكثّف ركز على استعادة كل ما خسره في الحرب من إمكانات تسليحية. ولما نظّم الحزب مهرجان الانتصار في أيلول من العام نفسه، كان السيد حسن مطمئناً لأن يبلغ الحشود بأن قوة الحزب الصاروخية باتت أكبر من أيام الحرب.

المراجعة كانت المهمة الأولى، وخلال أسابيع قليلة شكّل الحاج عشرات اللجان التي عملت على مسح الحرب بقعة بقعة ومواجهة مواجهة، وتسجيل أكبر قدر من الوقائع التي مرت خلال الحرب، واستعادة كل ما حصل مع كل مجموعات المقاومة التي شاركت في القتال مباشرة أو من خلال الدعم أو من خلال الجهوزية في الأمكنة التي لم يصل إليها القتال، وكانت فرق تتولى أعمال التدقيق في الروايات وتجري التحقيقات للاستفادة من النجاحات أو الأخطاء، وخلال فترة غير طويلة وقبل أن تنجز إسرائيل تقرير فينوغراد بكثير، كان الحاج وقادة المقاومة قد أعدّوا تقريرهم وتقويمهم للحرب، حيث عُرضت التجربة وأخذت العبر والخلاصات، وعلى أساسها وضعت مجموعة كبيرة من البرامج التي عمل على تنفيذ قسم كبير منها تحت إشرافه، فيما يعمل الآن على استكمال ما بقي.

بين 15 آب 2006 و12 شباط 2008 لم ينم الحاج، حتى إنه يمكن الحديث عن وضع إنساني غير عادي، كان يسابق الوقت، ووصل به الأمر حدّ وضع غطاء له في السيارة التي يتنقّل فيها، كان يستغل وجود مساعدين أو أحد السائقين حتى يرمي بنفسه في المقعد الخلفي لينام الوقت الفاصل بين اجتماع وآخر، وكان يستغلّ بعض الاستراحات في الاجتماعات المفتوحة ليرمي نفسه على أقرب كنبة أو على بساط وينام.

كان يعمل لساعات طويلة جداً، يمرّ يومان أو ثلاثة من دون نوم طبيعي، وقد أخذ منه الإرهاق والتعب كل مأخذ، فيخاله المرء شبه جثة في السرير. الإفراط في الجهد والمتابعة سبّبا له العديد من الانتكاسات الصحية. وخلال هذه الفترة أعاد الحاج وضع الخطط الجديدة للمقاومة وذلك ربطاً بنتائج المواجهة التي حصلت أو تلك التي قد تحصل في أي يوم، لكن خطواته العملية أخذت بعين الاعتبار قوة ما بات محل قناعة مشتركة بينه وبين الآخرين من قيادات في المقاومة وفي الحزب بأن مشروع إزالة إسرائيل لم يعد مجرد حلم أو أن هناك عقوداً يجب أن تمر حتى يتحقق، بل إنه يمكن العمل على إنجاز الكثير من المتطلبات التي تفيد في تحقيق تقدّم كبير على صعيد إصابة جيش العدو بضربات تجعله غير قادر على حماية كيانه، وعلى إصابة الجبهة الداخلية بضربات تفقدها تماسكها وصمودها، وكل ذلك في سياق تهيئة المكان لخطوات قد تتطلب ما هو أبعد من تصوّر كثيرين في سياق يهدف إلى تحقيق ما يعرف بين رفاق عماد بأنه «التكليف» لأجل نصرة فلسطين وإزالة إسرائيل.

عمل خلال فترة قياسية على إدخال برامج التطوير والتدريب والتسليح والجهوزية والعتاد على أنواعه، والإعداد لحرب تستمر شهوراً طويلة لا أسابيع كما حصل سابقاً، وعلى استخدام قدرات جديدة ومن مستويات مختلفة ووضع آليات جديدة ومتطورة لكل القطاعات ولكل أعمال البرمجة والتخطيط، وعلى توفير مستلزمات تدريب وتجهيز عشرات الآلاف من المقاومين ونشرهم وفق خطط جديدة تدخل ما هو جديد إضافي على صيغة التنسيق بين مجموعات مقاومة وأسلحة لجيش كلاسيكي.

-4-

الحزم والبأس لا يخفيان صورة الرجل الهادئ، لم يكن يستخدم منطق الأوامر، لإقناع الآخرين بتحقيق ما هو واجب، أو حثّهم على إنجاز أشياء في أقل وقت ممكن، ولجأ عماد مرات كثيرة إلى آليات مختلفة تحقق التشاور الذي يحتاج إليه صاحب القرار.

لم يكن يتسرّع في اتخاذ القرارات الكبيرة، تعلّم الصبر وأخذ الوقت الكافي للتدبّر في الأمور، وإذا كانت هناك أمور تحتاج إلى قرارات سريعة، لم تكن تعوزه النباهة والرجاحة وقوة اتخاذ القرار، لكن أي مشروع يحتاج إلى جهد، كان يكلّف أركانه فيجتمعون مرات ومرات معه أو بدونه للوصول إلى خلاصات وإلى توجهات لإقرار ما يجب إقراره.

بعد عملية الغجر النوعية، في عام 2005، التي لم تحقق كامل أهدافها لجهة أسر جنود للعدو، عمل الحاج عماد على سحب القوات والعتاد من المنطقة، وكان يجتمع مع القيادة العسكرية، وقال: حسناً، ضعوا الأمر خلفكم، ادرسوا نقاط الخلل، وباشروا الآن وقبل دفن الشهداء في تنفيذ الخطة البديلة. وافهموا أن علينا واجب الإتيان بأسرى وتنفيذ الأوامر القيادية بهذا الخصوص.

ظلت فلسطين على الدوام كلمة السر بينه وبين رفاق السلاح والقضية في فصائل المقاومة الفلسطينية، ولم يكن صعباً على أي منهما الاقتراب دائماً لتحقيق الأهداف المشتركة التي تخدم القضية الأكبر، في خلق ظروف تقود فعلياً إلى إزالة إسرائيل. ولم يكن عماد يحتاج إلى مناسبات خاصة أو إلى افتعال ما يشعر العدو قبل الحلفاء وقبل المقاومين بأن موضوع فلسطين واستعادتها لأهلها، وإنهاء إسرائيل هو أمر ليس قبله أي عنوان آخر.

يوم اندلعت معركة السور الواقي، كان عماد حاضراً في الجنوب وبين المقاومين، كان همّ فلسطين يسكنه بقوة. وقبل اندلاعة انتفاضة الأقصى، كان الحاج عماد يعيد توثيق العلاقات بين كل القوى المقاومة في فلسطين، مستعيداً تاريخاً من العلاقات التي ظلت متقطعة مع قيادات فيها، وأهم ما في الأمر استعادته صلة خاصة بالرئيس الراحل ياسر عرفات.

بعد 15 آب 2006، لم يرتح الحاج عماد يوماً، كان كمن يشعر بأن موته اقترب، أراد إنجاز ما أمكن قبل الرحيل. ليس في لبنان فقط، بل في أمكنة أخرى، وخصوصاً لناحية نقل التجربة إلى الفلسطينيين، وهو الملف الذي عمل عليه طويلاً وتفصيلياً مع قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية الذين يتولون الأمر في غزة والضفة وبقية فلسطين، وقدّم لهم تفاصيل الخلاصات التي خرجت بها المقاومة من حرب تموز، والتقويم لأداء جيش العدو ونقاط ضعفه وقوته، والتشديد على حاجات المقاومة الفلسطينية، وتولّى الإشراف على تنفيذ برامج الدعم لنقل الخبرات إلى غزة والضفة، وكذلك استقبال مجموعات من داخل فلسطين وتدريبها وتجهيزها بما يلزم من خبرات وأفكار وخطط، بالإضافة إلى ما تيسّر نقله إلى داخل فلسطين وبوسائل مختلفة جنّد لها الشهيد إمكانات وطاقات بشرية ومادية هائلة. لكن قاعدة العمل عنده أخذت بعين الاعتبار أن في فلسطين إمكانات بشرية هائلة يجب العمل على حسن توظيفها في معركة فاصلة لا بد أنها آتية ولو بعد حين.

-5-

مع الوقت، تعوّد الشهيد عماد على مجهوليّته. لكن اقتناعه بأنه معرّض للقتل طوال الوقت، لم يكن أكبر من اقتناعه بأن نفي وجوده في حياته أمر فيه فائدة لمسيرته. ولذلك كان يهتم بتجهيل نفسه وصورته لضمان أمنه واستمرارية مسيرته حيث يحب. لذلك لم يكن يهتم بتكريم أو إشادة أو بيان، وربما كان يفضّل أن لا يأتي أحد على سيرته.

لم يكن عماد معنياً بتقديم نفسه إلى أحد. وفي لائحة الإجراءات الخاصة به، ما يفيد بأنه ليس معلوماً من قبل جميع الكوادر في المقاومة، وبالتأكيد غير معلوم من قبل المقاومين أنفسهم. وبرغم أن الكل يردّد اسم الحاج رضوان، إلا أن ذلك لم يكن يعني أن الكل كان يلتقي بالحاج رضوان، علماً بأنه كان يلتقي كثيرين من كوادر المقاومة والمقاومين، لكن يعرّف عن نفسه باسم آخر وربّما بوظيفة أخرى. وكان هذا ما يسبّب له تعقيدات، لكنها ليست من النوع الصعب، مثل أن ينتظر عند مدخل أحد المواقع حتى يأتي من يسمح له بالدخول، أو ينتظر في ردهة أحد المكاتب لكن ذلك كان يعرّضه لتجارب تجعله يمنع نفسه من الانفجار ضاحكاً أمام ما يحدث معه. ذات مرة، كان عماد برفقة وفد يزور موقعاً متقدماً للمقاومة. جرى التعريف عنه على أنه عضو في هذا الوفد، وبعد انتهاء الاجتماعات دُعي الوفد إلى تناول الغداء في الموقع نفسه، وبعدما أنهى وجبته، حمل صحنه إلى غرفة المطبخ لتنظيفه، وحمل معه صحوناً فارغة أخرى، ثم انتبه إلى أن أحد المقاومين صار يأتيه بما بقي من صحون على الطاولة، ممازحاً إياه: إجلي إجلي، شاطر تاكل، إجلي.

كاد عماد ينفجر بالضحك، لكنه لم يحرّك ساكناً، قبل أن ينفجر بالضحك لاحقاً وهو يروي لمساعدين ما حصل معه. في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كان المقاوم نفسه، يضرب رأسه بيديه مرات ومرات عندما شاهد صورة الحاج قائده... شهيداً.

بخلاف ما يظن كثيرون، وما تشيعه استخبارات عالمية عجزت لعقدين ونصف عن معرفة مكانه، لم يجر عماد مغنية عمليات جراحية للتمويه ولتغيير شكله أو ملامح وجهه. صحيح أنه استخدم أكثر من اسم مستعار، وأنه تنقل بهويات مختلفة، وأن أولاده اضطرّوا لأن يعطوا لأنفسهم أسماءً حركية، لكنه كان يلجأ إلى تغطية وجهه بطريقة خاصة فقط عندما كان يتفقد نقاط المراقبة الأمامية والمكشوفة للمقاومة على الحدود مع فلسطين قبل حرب عام 2006، أو عندما كان مضطراً لأن يمرّ في أمكنة يمكن أن يراه فيها أشخاص يعرفونه.

«الوعد الصادق»

الثلاثاء، الحادي عشر من تموز عام 2006، كان عماد مغنية في دمشق، عقد سلسلة اجتماعات قبل أن يتوجه قبيل منتصف الليل إلى منزل صديقه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور رمضان عبد الله. أمضى لديه وقتاً طويلاً، أعطاه أقراصاً مدمجة فيها نسخة عن أناشيد وقصائد أعدّها مناصرون للمقاومة. تحدث وإياه عن فلسطين وعن المقاومة. وبعد منتصف الليل، وقف عماد مغادراً، أصر عليه الدكتور رمضان البقاء إلى الصباح، قال له: أريد أن أعود إلى بيروت، لديّ عمل، ادعُ لنا بالتوفيق!

صباح اليوم التالي، تلقى عماد البرقية العاجلة من غرفة العمليات عن احتمالات قوية لتنفيذ الخطة المقررة للأسر قبالة عيتا الشعب. كانت نقطة الرصد هناك قد عملت لوقت طويل على مراقبة المكان، وحين وصلت السيارات العسكرية، تم اتخاذ القرار بالتنفيذ الفوري.

بعد بدء العملية بأقل من نصف ساعة، كان الحاج عماد مغنية يطلع القيادة على آخر الأنباء، ويتأكد من سلامة المقاومين ووصول الأسيرين إلى النقطة المتفق عليها، ومباشرة بدأت عمليات الإخلاء لكل المقارّ واستنفار جميع الوحدات العسكرية في المقاومة استعداداً للمواجهة.

وفي مكان آخر، كان صديق مشترك بين الحاج رضوان والدكتور رمضان يزور الأخير في مكتبه في دمشق، وينقل إليه الأخبار السارة، وأبلغه أن الحزب يدرس الآن البيان المفترض إصداره عن العملية وهناك نقاش حول الاسم المفترض إطلاقه على العملية. اقترح أبو عبد الله «الوعد الصادق» قال لضيفه إن الأمر فيه عرفان للسيد حسن، الذي قاد هذه التجربة، وفيها تأكيد على التزام المقاومة وعودها لشعبها... وهكذا كان، فكان اسم «الوعد الصادق».

تعليقات: