غزة بين القصف المدفعي والقصف المهرجاني

يدٌ تحت أنقاض منزل عائلة السمّوني التي أباد القصف الإسرائيلي عدداً من أفرادها
يدٌ تحت أنقاض منزل عائلة السمّوني التي أباد القصف الإسرائيلي عدداً من أفرادها


منازل تحولت لأكداس غبار، تشعر وكأن زلزالاً شديداً ضربها، تنبعث منها رائحة الدم واللحم البشري، مئات العائلات تفترش الأرض بمدارس وكالة الغوث الدولية، صرخات يحمل صداها صوت أطفال جوعى تريد أن تأكل وتلعب وتلهو، وأنين أجساد هزيلة صغيرة تئن من شدة الحروق والألم ترقد على أرض المستشفيات التي لم يعد بها أسره تكفي لعدد الجرحى، والوجوم صفة تكتسي بها الوجوه المتأملة لهول الصدمة مما لا يمكن وصفه من مشاهد، وطائرات تسقط بحممها القاتلة على كل مكان بغزة، ودبابات تتربص بكل شيء متحرك حتى الهواء تدكه بمدفعيتها، وجثث تتبعثر هنا وهناك منها ما شارف على التعفن، ونساء تتوشح السواد والهم كساء ، وشعب يُقتل ويُفني ويموت.

هذا كل ما يمكن أن تراه في غزة، أو ما يمكن أن تشاهده في هذه القلعة الشامخة العصية على أعدائها، غزة هذه القطعة المجردة من كل شيء إلا من الصمود والإرادة والتحدي سلاحها الذي لا يمكن أن ينتزعه العدو أو المبادرات السياسية أو أي قوة مهما كان جبروتها.

فهذه غزة التي تضمد جراحها سريعاً وتنهض من جديد لتعلن إنها الأقوى والأشد على أعدائها، والأشرس في عنفوانها، غزة التي أنجبت (محمد الأسود) وأرعبت به عدوها، غزة (رفيق السالمي)، وغزة (محمد الجمل)، وغزة (صلاح شحادة) هذه هي الأم التي أرضعت فلذات كبدها العزة والشموخ والصلابة، وأرضعتهم مفاهيم خاصة لا يعيها ولا يعرفها سواهم، الأم التي لا تعرف أن تلقن أبنائها معاني الانكسار والموت والهزيمة، هي التي عهدناها وتعلمنا في حضرتها منذ أن نهضنا في قلاعها، تعلمنا منها إننا لا يمكن أن نقتلع منها، نستمد صمودنا من صمودها المستمد من أمواج بحرها، ومن شموخ مخيماتها، ومن عظمة شجرة الحمضيات التي لم تتمكن آلة الموت من اقتلاعها لأنها ثابتة بجذورها في أحضان عزتها وكرامتها، ثابتة بأرض صلبة قوية متينة.

تنام غزة على صوت الموت المنبعث من كل زقاق، ومع كل نسمة هواء، لتصحو على مشهد جديد من مشاهد البقاء والاستمرار، لا يُجدِ بها حصار أو قصف أو دمار لا تعرف للموت معنى.

وما أن يهدأ القصف الصهيوني للحظة وتبدأ رائحة الحياة تعود مع عودة التيار الكهربائي الذي أصبح ضيفاً عزيزاً يطرق بيوت غزة بين الفينة والأخرى ليهرول أبنائها لمشاهدة الدعم المعنوي العربي الشعبي والرسمي حتى يكون قصف من نوع آخر اشد جرحاً وألماً، قصف يصعق القلوب ويؤلم النفس، قصف يحمل رائحة المزايدات على الدم الفلسطيني من أباطرة العرب وزعامتهم وساستهم الذي أفلسوا ولم يعد لهم سوي لسمومهم سوى المتاجرة والمزايدة على دم غزة المسكوب في شوارع الموت، وكلاً يرسم مشهده وفق معادلة العبودية التي أصبحت سمة لهم ولتجار الدم، عبودية بكل أشكالها وأنواعها، عبودية تريد تصدير أزماتها على حساب غزة وأهلها، فكل مأزوم على الصعيد الشخصي يجد في دماء غزة متنفساً لأزماته، وكل من لديه عُقد يجد بغزة حلاً لها وبدماء غزة سوقاً لتصديرها، يصنعون لهم قصور مجد على الدم الفلسطيني.

فمن قصف إلى قصف يعيش أبناء غزة وأهلها ، ولا مفر أمامهم سوى إنتظار إكتمال المشهد ومشاهدة نهاية حلقات هذا المسلسل الدموي المتناسق والمتكامل، المكتوب بعدة لغات، وبديباجة خاصة لا تهدف سوى لتصفية المشرع الوطني الفلسطيني وإعادته لحلقاته الأولى.

... هذا هو القصف الفعلي للمشروع الوطني وللحلم الفلسطيني الذي يقتل الفلسطيني، ويدمي قلبه ويخشاه، أما قصف العدو فهو لا يخيفنا ولا نخشاه ولا نموت منه أو نقتل.

أما ما تبقي لنا فهو الأمل الذي لا زال قائماً بأعين كل طفل فلسطيني، الأمل المصحوب بالحياة، والصمود المدون على أرض المعركة في غزة وليس بمهرجانات خطابية وفضائية. .. فغزة تشهد أنها صامدة بأبنائها، وتقاتل بإرادتها، وتقوى بجرحها، وأن فلسطين لكل من رفع لواءها ورايتها على أرض المعركة الكبرى.. معركة النصر والوحدة والتحرير.

تعليقات: