الأمـة تغـرق في دمـائها: لبـنان بعـد فلسـطين والعـراق

.. وها موكب جديد لقافلة من الشهداء، يتصدّرها وليد عيدو، القاضي والنائب وأحد وجوه بيروت، ومعه «محاميها» خالد وليد عيدو، تصحبهما كوكبة من أبناء الحياة الذين لم يمتعوا بالحياة.

الدم، الدم، الدم... أنهار من دمائنا تغمر أرضنا جميعاً، من البحر إلى البحر. تتهاوى «الدول» أمام طوفان دمائنا فتتفكك منذرة بالانهيار والاندثار. يغرق النزيف «القضية» فيجعلها شيئاً من الماضي وقد كنا نرى فيها مستقبلنا. تمزق الفتنة أواصر القربى وروابط الرحم فإذا نحن أغراب، «نتحاور» بالرصاص والقذائف والسيارات المفخخة. ينكر الأخ أخاه. تفتدي الأم أبناءها بصدرها، فلا يكتفي القتلة بالفدية بل يلغون بالدم حتى يثملوا ولا يرتوون. ينسى الأب بعض أطفاله وهو يحاول إنقاذ البعض الآخر، فإذا انتبه إليه وإليهم القتلة أتمّوا المهمة حتى لا يتبقى شهود على الجريمة.

غشى الدم على عيوننا فلم نعد نرى طريقنا.. وعلى ذاكرتنا فكدنا ننسى من نحن، وعلى بصيرتنا فتهنا عن هويتنا وعن يومنا وعن غدنا.

نكتب بالدم. نعجز عن القراءة لأن عيوننا مغشاة بالدم. الأفق أحمر، البحر أحمر، الشارع أحمر والبنايات تغرق في النجيع.

فاضت أسماء الشهداء عن ذاكرتنا... صارت الذاكرة مثقلة بطبقات فوق طبقات لأحبة عرفنا بعضهم في حياتهم، وعرفناهم أكثر في غيابهم المدوي.

لبنان مجلل بدماء شهدائه، أميرة الحزن بيروت لما تخلع ثوب الحداد، وإن ظلت شعلتها مضاءة لا تنطفئ، وهي أضافت إلى كتاب مجدها، قبيل المغيب، أمس، عشرة من أبنائها، فيهم عابرو السبيل، وفيهم أمهات وآباء يصحبون أطفالهم إلى ركن نادر للطفولة فيه نصيب، ولاعبو كرة قدم ومشجعون ومناصرون لنادي النجمة العريق الذي طالما منح الزهو لجمهوره العريض.

لبنان مجلل بدماء شهدائه، فالجيش ينزف والشمال والبقاع والجبل والجنوب ينتظمون مع بيروت في مواكب الأبطال الذين منحونا أعمارهم لنحيا، فواجهوا الإرهاب بالبسالة وقاتلوه بإيمانهم بالله والأرض وبالحق الفلسطيني الذي طالما حماه اللبنانيون وافتدوه بأرواحهم... وهم قد افتدوا إخوتهم الفلسطينيين كما افتدوا أنفسهم بالمواجهة الشجاعة مع المتاجرين بالشعار الديني في مخيم نهر البارد، كما واجهوا معهم وافتدوهم في المواجهة مع الاجتياح الإسرائيلي في مثل هذه الأيام من العام ...1982 بل قبل ذلك بكثير، وبعد ذلك بكثير.

أما فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإن دماءها تغطيها حتى لا نكاد نرى منها إلا أشلاءها المنخورة برصاص الذين كانوا على طريق الجهاد ثم ضلوا عنها فإذا هم يقتلون قضيتهم وينتحرون. أعمت السلطة التي لا سلطة لها المقاتلين، فإذا هم يوجهون بنادقهم إلى صدر حلم الوطن وأمنية التحرير.. إذا هم يقتلون شهداءهم، وينسفون فلسطينهم ويوفرون على العدو الإسرائيلي عبء المواجهة.

إنهم يتساقطون برصاص بعضهم البعض على ضفتي جدار الفصل العنصري فيمكّنون للجدار أن يتكامل فاصلاً بين العين والعين، بين الصدر والذراع، وييسّرون لعدوهم تهويد القدس والخليل وسائر مدن الضفة وقراها وزيتونها والبرتقال... بينما يحترقون ويحرقون أحلامهم في غزة بني هاشم.

... وأما في العراق تحت الاحتلال الأميركي فقد تدفقت دماء العراقيين نهراً أغزر من «الرافدين» معاً، فغمرت الجبال والسهول والوهاد، شمالاً وشرقاً، جنوباً وغرباً، وفاضت بأجداث أحفاد الذين فتحوا للبشرية أبواب الحضارة، والذين جعلوا العرب في أعلى عليين، علماً وثقافة، أدباً وفكراً وفناً وشعراً وموسيقى.

اغتيلت بيوت الله.. نُسفت المزارات المقدسة. اغتيل الشهداء الذين نشروا الدين الحنيف، مرة أخرى. اغتيلت بغداد المنصور والرشيد والأمين والمأمون وأبي الطيب المتنبي. أحرقت الكتب التي تسكن وجداننا وتعطينا أهلية الادعاء بأننا لسنا عبئاً على الآخرين وكماً فائضاً عن الحاجة.

الدم، الدم، الدم. الدم الذي يعمي العيون والقلوب. الدم الذي يجرف المدن والقرى والناس فيها بعيداً عن أمانيهم، بل حقوقهم. الدم الذي يسخر لاغتيال الأوطان والدول بدل أن يحميها. الدم الذي يهدر في اقتتال الإخوة بدل أن يحفظ اليوم والغد.

إن الأمة تغرق في دمائها. لكأن المستقبل العربي هو هدف الاغتيال، بالنسف أو القصف أو السيارات المفخخة أو عصابات التطرف بالشعار الديني. لكأن من أعماهم التعصب أو الشبق إلى السلطة أو الخوف من أخطائهم يتواطأون فيشتركون في قتل حقنا في الحياة.

ولا خيار إلا أن نصمد. أن نقاوم القتل والقتلة. أن نتصدى للمفجرين وأبطال اغتيالات الأحلام والأماني، القضاة والمحامين والساسة ونجوم الكرة والمواطنين الذين صمدوا ليستبقوا أوطانهم.

لا خيار إلا أن نتصدى للخطأ. أن نواجهه في عينيه. أن نفضح الخطاة قتلة الأوطان والشعوب.

... والشعوب أقوى من الاحتلال ومن الفتنة ومن الشقاق، وأقدر على حفظ غدها وحماية مستقبلها بإرادتها، وبصمودها، وبوعيها الذي ستزيده دماء الشهداء نوراً على نور.

سنصمد ونقاوم حتى هزيمة الغلط، بالوطنية والعروبة وإرادة الحياة...

ولسوف تصمد بيروت بأهلها وأهلها الذين يعدون، خصوصاً اليوم، بالملايين، عشرات الملايين، بل مئات الملايين.

تعليقات: