
الأستاذ فايز أبو عباس
قالت (ن):
يطرق الفجر أبواب الصباح لينهي طيف الليل ومسيره، ويعود الوجود ثانيةً إلى عالم الحياة، وتعود الأرض لتحتضن خطى أقدامنا، وتغمر السماء دندنات أفكارٍ تصدح من صمت السكون.
قال (ف):
هي الحياة؛ لا يأتي النور إلا بعد ظلام، كما أن الراحة لا تأتي ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد التعب. فالوجود موجود، يعمّ الكون وترضخ له كل الكواكب، وحقيقة الأرض وما عليها.
لكننا لا نشعر بها، ولا بما تمنحه من حياة، إلا عندما يتحرك الإنسان ويشعر ويحس بما يحيط به، وما تمليه عليه الطبيعة، ويتفاعل معها حركةً وسكوناً.
هي الحياة تصدح، تدندن، تضجّ من وقع أقدامنا وقرقعة الطبول، والأصوات تكسر الصمت وتحيي موات الحراك.
قالت (ن):
ما زلت أترقّب عقلاً وقلباً، أنتظر الدخان الأبيض المتصاعد من سرّهما.
قال (ف):
الإنسان ينتظر، يراقب، ويتفاعل مع كل موجة تأتيه من ضباب الطبيعة وحركاتها.
يحرّك عقله وقلبه ويشغلهما تحليلاً وتفسيراً، حباً وكرهاً، خيراً وشراً، أماناً وخطراً، بين الأبيض والأسود، لاتخاذ القرار.
قالت (ن):
لا شيء سوى الجمود والغموض والحيرة. أَراني بقايا ارتدادات الحياة. أخاف أن تبتلعني مشاعر النسيان، واقعةً في لعبة الحب! ليَسألني طابعها السيئ، أو ربما طابعٌ يجتاز قصص الخيال، فيغدو وشماً في تاريخ العشق.
قال (ف):
هنا يقف الإنسان حائراً، لا يقوى على تحديد المسار، فهو الحائر بين الوضوح والغموض، حذِراً من ارتدادات الأحداث وما قد يُصاب به من شرورها.
يخاف من الحب وعواقبه، ولا يستطيع هجرانه، وعند الفشل يخاف حتى خيالاته التي تهاجمه وتتغلغل في خلايا الذاكرة والقلب، تبني لها قلاعاً ومعتصمات، فتترك وشماً لا يُمحى مع السنين وتعاقب الأيام، فيبقى عشقاً ورمزاً لذكرى تؤلم وتوجع.
قالت (ن):
أخاف أن تغدر بي رياح الهوى وتذرني في أقاصي الوجدان.
قال (ف):
هنا يتجلّى معنى الخوف من تجارب الماضي السيئة، وغدر الرياح غير المنتظرة التي تهبّ وتذري الوجدان في فضاء الكون الفسيح، ولاتَ ساعة ندم.
قالت (ن):
حروفي أَسرى لقلبٍ حزين يعتريه القلق، وكلماتي رهن بركانٍ دفين يخاف من بطش سيوله. ويداي حائرة بين رعشة الشوق وخوف اللقاء، ونفسي تنتظر وتنتظر أوان الخلاص.
قال (ف):
تبقى الحروف حرةً طليقة بلا قيود، حتى يأتي من يُلقي القبض عليها، فيأسرها ويستعبدها، يستعملها حسب رغباته وأهوائه، ويقيّدها بسلاسل مختلفة الألوان والمصادر والأجناس؛ قد تكون ذهبية أو فضية أو من أي معدن آخر، قلائد أو حُليّاً أو أساور.
وأحياناً تكون سوداء ملوّثة بوباء، أو أسيرة أخلاقيات ومناقب سيئة أو راقية أو ثائرة، تنفث نوراً وناراً، وتحمل بين تعرّجاتها الوجد والعطف والحنان، شوقاً وحباً وهياماً إلى حبيب، تحدد له موعد لقاء أو تبثّه ما يعتمل في القلب من شعلات نار، تحمل معها برداً ترتجف له مكامن شوق الانتظار.
وقد تكون نسائم حب وشوق لابن أو أخ أو قريب أو صديق غائب منذ زمن بعيد.
قالت (ن):
شوق يقابله حذر. خذ بيدي، بعقلي وقلبي ونفسي وكلي.
فكم أحتاج إلى مرساة تسكنني وتهدّئ من روع أحزاني.
خذ بيدي إلى عالم الوعد والعهد والبقاء والوفاء، ولا تجعل من قلبي ضحية نزوة رعناء.
قال (ف):
أمدّ لك يد الخلاص، لعقلك وقلبك حفاظاً على نفسك وكينونتك الضائعة بين الممكن والمحال، بين أحداث الزمان وضياع الإنسان في متاهات هذا المكان وهذه الأيام.
لنرسو بمرساة هذا المركب في بحر هادئ هو الأمان والاطمئنان، بعيداً عن جموع القراصنة وما قد يأتي به موج البحر من أحزان وغدر الخلان.
فالقلب محفوظ ومحروس، مخبّأ في مغاور الحب والوجدان، بأمانٍ لا خوف ولا وجل من غزو أو اقتحام أو خذلان.
قالت (ن):
أخاف أن تنتهي رحلة الحياة فأصبح ذلك اللا أحد أو ذاك اللا شيء، دون أن أعبر سدود القدر إلى حقول المطر، بلا أي حذر.
قال (ف):
هذا هو الخوف من اللا أحد، من المتوقع والمنتظر، كما اللا شيء. فالغاية هي: حب ولقاء وسعادة، أو فراق وندم وشقاء.
هي سنّة الحياة؛ توافق أو ابتعاد، إلى جنة الحب والعشق والراحة، والتظلّل واستسقاء غيث الله بما يبعثه من رخاء وسعادة وصفاء ونقاء، أو الوقوع في هاوية الألم والشقاء والندم.
قالت (ن):
شارفت أيامي على استقبال عقدها الخامس، فألتفت إلى الماضي السحيق، الضبابي الرؤية، الذي غابت عنه منافذ النور، وإلى مستقبل أيامي أرسم بهجةً وطيفاً يقاربه السرور.
قال (ف):
هذه هي تباشير النضوج في هذا العقد، وتفاعل العقل والقلب معاً، تحرسهما الروح الطاهرة الطيبة، بلا سقوط في أفخاخ الزمان أو الوقوع في الخذلان.
هذا هو الوعي بالحياة وطبيعة الإنسان وأسرارها، وما فيها من عقبات وحواجز ومطبات، وكثير من الغربان.
هو الوعي الذي يفتح منافذ الأيام القادمة، وينير سبيل الحياة وما يُلقى في طريقها من معوّقات، لينطلق الإنسان مجدداً متسلحاً بالمعرفة والتجارب والوعي، بعيداً عن الضبابية وتشويش الرؤية والسقوط في حفر المنزلقات.
قالت (ن):
أخاف الانكسار ثانية. في كؤوسي نار فاضت من لحن الحنين والأنين، حيرة برسم قلبك. ترى، هل يتبدل الأنين بالحنين؟
قال (ف):
ذاك هو طريق السلامة المنتظر، لتحقيق الأماني والرغبات والغايات التي تقود إلى الأمان والسلام والحب والسعادة والسرور، بعيداً عن الفشل والانكسار وضياع العمر في متاهات الدرب المليء بالعقبات، من ألم وخوف وحيرة وأنين، إلى قلب رقيق مفعم بالمحبة والحنين.
فايز أبو عباس

خلال ندوة للأستاذ فايز أبو عباس وإلى جانبه المهندس أسعد رشيدي
الخيام | khiyam.com
تعليقات: