
“خلص بأيّ لحظة رح نسكّرو، وإذا تسكّر منطوف بالزبالة”… بهذه العبارة حذّر المسؤول الإعلاميّ في بلديّة الشويفات هشام الريشاني، من لحظة انفجار وشيكة في ملف مطمر الـ “كوستا براڤا”، وهي إن حصلت ستوقظ مشاهد النفايات التي تكدّست في الأحياء والطرقات العام 2015، وما زالت تحتفظ بها ذاكرتنا.
يتابع الريشاني لـ “مناطق نت”: “قبل نحو شهر ونصف، اتّخذ رئيس بلديّة الشويفات قرارًا بإقفال المطمر لمدّة أربع ساعات، احتجاجًا على قرار جديد يقضي بتحويل كامل نفايات بيروت إلى الكوستا براڤا بعد استنفاد القدرة الاستيعابيّة لمطمر الجديدة”، لكن أعيد فتح المطمر “بعد تلقّي البلديّة اتّصالًا مباشرًا من وزير الداخليّة طالبًا إعادة فتح المطمر مقابل التعهّد بالاستجابة لمطالبها”. واليوم يضيف الريشاني “تُمهل البلديّة الحكومة فترة محدودة لتنفيذ هذه الوعود، وإلّا ستعود إلى خيار الإقفال”.
حول خلفيّات الاعتراض، يشير الريشاني إلى أنّ ” بلديّة الشويفات تستند في موقفها إلى وعود رسميّة لم تُنفّذ. فمنذ العام 2016، أقرّ مجلس الوزراء حوافز ماليّة بقيمة ثمانية ملايين دولار سنويًّا لبلديّة الشويفات، إضافة إلى 50 مليون دولار للمنطقة التي يقع فيها المطمر والمناطق المحيطة به، على أن تُخصّص هذه المبالغ لمشاريع إنمائيّة تعوّض عن الضرر البيئيّ والصحّيّ الناتج عن المطمر”.
لكن عمليًّا، “تسلّمت البلديّة مبلغ الثمانية ملايين على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، فيما لم يُدفَع من الـ 50 مليون دولار أيّ دولار حتّى اليوم”.
مطمر بلا فرز
يلفت “الريشاني” إلى أنّ ” المشكلة أعمق من خلاف مادّيّ، بل تشمل أيضًا تراجعًا واضحًا في الإدارة التقنيّة للموقع، فقبل العام 2020 كان هناك مركز فرز للنفايات في الشويفات تتمّ فيه عمليّة الفرز قبل وصول الشاحنات إلى المطمر، أمّا اليوم فهو مقفل، ما يلغي أيّ محاولة للفصل أو المعالجة المسبقة، إذ باتت الشاحنات تفرغ حمولتها من النفايات المختلطة كما هي في المطمر، الأمر الذي يعيد إنتاج الأزمة نفسها في كلّ مرّة، بما فيها مشكلة الطيور التي تتغذّى على النفايات المكشوفة والتي تشكّل خطرًا على حركة الطيران بسبب قرب المطمر من مدرج المطار”.
أمّا قنوات تجميع العصارة ومعالجتها، فـ “وضعها غير معروف”، بحسب الريشانيّ، في ظلّ غياب كامل للرقابة، ما يفتح الباب أمام تسرّب الملوّثات إلى البحر.
قرارات مجتزأة لحلول ترقيعيّة
أنشئ مطمر الكوستا براڤا في الأصل كمكان لرمي ركام حرب العام 2006، ثم حُوِّل في “خطّة الطوارئ” بعد أزمة النفايات العام 2015 إلى مطمر ساحليّ كبير، عبر ردم البحر بعشرات آلاف الأمتار، مع وعود بأنّه حلّ “موقّت” لاستيعاب نفايات بيروت وجبل لبنان، لكنّه تحوّل إلى حلّ دائم بحكم الأمر الواقع.
يقع المطمر ضمن نطاق بلديّات الشويفات في منطقة خلدة، على بعد أقل من 200 متر من نهاية المدرج الغربيّ الرئيس لمطار رفيق الحريري الدوليّ، وهو من المطامر الأساسية لبيروت وجزء من جبل لبنان منذ العام 2016.
تُقدَّر مساحته بنحو 600 ألف متر مربّع، وخلال السنوات الماضية استقبل نفايات الشوف وعاليه واتّحاد بلديّات الضاحية (حارة حريك، المريجة، الغبيري، برج البراجنة) وجزء من بيروت، وخضع لتوسعتين أساسيّتين: الأولى العام 2017، والثانية في 2024 حيث جرى استخدام ردميّات الحرب التي تعرّضت لها ضاحية بيروت الجنوبيّة لتمديد عمر المطمر قسريًّا بدل البحث عن بدائل مستدامة.
إنّ إفقال المطمر اليوم سيضعنا أمام احتماليّة تراكم آلاف الأطنان من النفايات في الشوارع، ثمّ نعود إلى السيناريو نفسه حول آليّة إدارة الأزمة، معمل فرز هنا ومحرقة هناك، ومطمر “مرحليّ” يتمدّد كلّما ضاقت الخيارات أمام السلطة، أو الأسوأ مكبّات عشوائيّة يقدّر عددها بنحو 1000إلى 1200 مكبّ في مختلف المناطق اللبنانيّة.
فوضى الخيارات هذه والتي لا يصلح تسميتها بـ “استراتيجيّات”، حتما ستحوّل المنطقة الساحليّة إلى كتلة ردم ونفايات مع ضرر واضح على البيئة البحريّة إذا ما استمرّ التعاطي مع مخلّفات المجتمع في هذا الشكل، فهل نريد سلطةً وأفرادًا أن نعالج مشكلة النفايات، أم نكتفي بإزاحة الأكوام عن أعيننا؟
التخفيف قبل أيّ شيء
لا تبدأ أزمة النفايات بخروج الأكياس من المنزل بل في دخولها، فلنراجع معًا يومًا واحدًا من التسوّق نرى أنّنا نعود بأكياس بلاستيكيّة من المحلّات التجاريّة تفوق المشتريات. لكن، لنفترض أنّ هذه الأكياس ليست مجّانيّة فهل سنعود بالكمّيّة نفسها؟ وفي مراجعة ذاتيّة أخرى، هل نكتفي كـ “مستهلكين” بشراء حاجتنا فقط من المنتجات؟ أم نشتري وفق سياسات السوق “اشترِ واحدة والثانية بنصف الثمن”؟
هذا ليس تنظيرًا أخلاقيًّا بل رؤية جوهريّة للحلّ، لذا قبل الحديث عن الفرز والتدوير والطمر، علينا أن نولي أهمّيّة لمبدأ التخفيف، وكيف نمنع المواد من أن تصبح نفايات أصلًا، بخاصّة أنّ لبنان في العام 2018 شهد أعلى معدّل لإنتاج النفايات على صعيد الفرد بعد العراق بنسبة 0.98 كيلوغرام يوميًّا بحسب تقرير البنك الدولي “what a waste 2.0” وهذا ما أشار إليه أيضًا تقرير مجلس الإنماء والإعمار الصادر العام 2024، أنّ لبنان في العام 2018 أنتج 2.679.992 مليون طنّ من النفايات الصلبة، أو ما يقارب 7.300 طنّ يوميًّا. وفي التقرير نفسه نجد أنّ الأزمة الاقتصاديّة وضعف القدرة الشرائيّة تسبّبا في انخفاض الإنتاج اليوميّ إلى 5.600 طنّ، أي بنسبة تقارب 25 في المئة.
غياب الاستراتيجيّات الوطنيّة
هنا يتّضح جليًّا أهمّيّة التركيز على مبدأ التخفيف الذي يجب أن ينطبق على صعيد الاستراتيجيّات الوطنيّة التي تخلّفت عن معالجة النفايات بطرق مستدامة منذ العام 1997، وعادت في العام 2018 بقانون رقم 80 “الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة” الذي يضع قواعد متكاملة لإدارة النفايات وفق تسلسل هرميّ يرفع شعار التخفيف من إنتاج النفايات في رأس هرم الأولويّات متبوعًا بإعادة الاستعمال والتدوير ثمّ المعالجة والتخلّص النهائيّ عبر طمر ما عصي على المعالجة.
هذا التأطير المتقدّم نسبيًّا نظريًّا ليس إلّا عنوانًا تجميليًّا فارغًا من الممارسات الفعليّة التي تحدّد كمّيّة الإنتاج أو التشريعات التي تفرض ضرائب على المنتجات العالية التوليد للنفايات كالبلاستيك مثلًا وتحميل الجهات المنتجة كلفة إدارة نفاياتها.
وفي المادّة الرابعة من القانون نفسه نجد أنّه “يمكن للإدارات المحلّيّة أو السلطة المركزيّة إيلاء إدارة أيّ مرحلة من مراحل الإدارة المتكاملة للنفايات كلّيًّا أو جزئيًّا إلى القطاع الخاصّ” الذي وثّق في ممارساته أنّ الأولويّة هي للاستثمار في المشكلة، والتعامل مع مختلف النفايات العضويّة وغيرها كأنّها قدر لا يمكن معالجته ويلجأ إلى التوسيع والطمر وتكديس النفايات، ما يسمح لنا بالتشكيك في شكل علنيّ أنّ الحلول المستدامة ليست لصالح هذه الشركات التي تفكّر ربحيًّا وليس بيئيًّا.
النفايات العضويّة كنز مدفون
تشكّل النفايات العضويّة 69 إلى 72 في المئة من حجم النفايات الصلبة في لبنان وفق تقرير البنك الدوليّ الصادر العام 2023، غالبًا ما يتمّ التخلّص منها من خلال حرقها بشكل عشوائيّ أو طمرها في مطامر “صحّيّة”، ما يسمح للعصارة السامّة بالتسرّب إلى البحر وتلويث المياه، فضلًا عن الروائح الكريهة وانبعاثات “الميثان”، في حين يمكن لهذه النفايات أن تصبح بديلًا للأسمدة الكيميائيّة أو “السمّ” – إذا صحّت تسميتها- الذي يضعه لنا المزارعون في طبقنا اليوميّ.
يمكن لهذه الأطنان من النفايات العضويّة أن تتحوّل إلى سماد طبيعيّ يرمّم التربة، ويحسن إنتاجيّة الأراضي بطرق سليمة بيئيًّا، ويخفّف فاتورة الأسمدة المستوردة سنويًّا والتي تقدّر قيمة وارداتها بنحو 43 إلى 46 مليون دولار سنويًّا وفق بيانات التجارة الدوليّة (UN Comtrade).
التسميد ليس مشروعًا منفصلًا عن مبدأ التخفيف، وهو استراتيجيّة مستدامة تتنصّل منها السياسة الوطنيّة المتمسّكة بالطمر والحرق في بلد يختنق بالتلوّث ويعاني من تآكل التربّة وتدهر الأراضي الزراعيّة.
الحلول تبدأ حين تعترف الدولة بالنفايات العضويّة كمورد وكنز حقيقيّ يسمح بانتقال زراعيّ أكثر عدلًا واستدامة، لا بتبرير طمره تحت حجّة “الطوارئ” والاستمرار في إنتاج المرض وتشجيع استيراد السمّ الذي يقتل الأرض والناس على حدّ سواء.
ختاما، لم يكن تسجيل لبنان رقمًا قياسيًّا في ارتفاع معدّلات السرطان محض صدفة أو قدرًا بيولوجيًّا وراثيًّا، بل دليل واضح على ارتباط وثيق بين أزمات التلوّث ونسب السرطان. لكن على الرغم من تراكم هذه الأدلّة التي تنتهك حقّ المواطن في بيئة سليمة لا يزال التعاطي الرسميّ مع ملفّ النفايات محكومًا بسياسة إدارة اللحظة والصفقات على حساب صحّة اللبنانيّين وحياتهم.

قرار إقفال مطمر الكوستا برافا يُنذر بعودة النفايات إلى الشوارع
الخيام | khiyam.com
تعليقات: