عيد الاستقلال


حلّ عيد استقلال لبنان الأسبوع الماضي مع ضيف جديد على الساحة: طائرتان في الأجواء تستعرضان قوة الجيش اللبناني الذي يريد منه فريق الأكثريّة أن يحمي لبنان من الخطر الصهيوني. عيد يصرّ رموز الطبقة الحاكمة على إحيائه سنوياً، لإخفاء الحقيقة: لبنان لم يكن يوماً مستقلاً

هل هذا سوبرمان في الفضاء، أم أن هناك غزواً من العالم الخارجي؟ هل هذا نسرٌ عملاق في سماء لبنان، أم أن الأرزة تطير مختالة في الفضاء فوق عاصمة الحروب الأهليّة اليوميّة؟ أيقِظوا أطفال لبنان من نومِهم وأطلِقوا الحمام الهادِل: ليروا بأم العين مجدَ لبنان وفخرَه فوق الرؤوس. ما الذي يخفي الشمس عن لبنان؟ جسمان غريبان يحلّقان فوقنا. الأنظار شاخصة، والأعناق مشرئبّة نحو الأعلى. أرى، ماذا أرى؟ مكّوك فضائي أم اثنان في وطن الأرز والترمس؟ إنهما يقتربان، نراهما عن قرب. أنظر. حدّق أكثر: طائرتان لسلاح الجو اللبناني (الذي ما زال موجوداً ــــ صدّق أو لا تصدّق، وإن كنّا لم نسمع به أثناء عدوان إسرائيل الوحشي عام 2006). طائرتان كافيتان لتشكيل عرض جوّي في عيد استقلال لبنان. طائرتان كافيتان للتذكير بمجد لبنان عندما تنافس مع بريطانيا في التوسّع الامبراطوري. كتب التاريخ الرسمي في لبنان جعلتنا امبراطوريّة، والمؤرخّون (والمؤرخّات) لا يعلمون.

وعلامَ يختلف الفرقاء في لبنان في موضوع حماية لبنان؟ ألم يرَ الجميع بأم العين صورة طائرتيْ «الهوكر هنتر» (من مشتريات عام 1959، وما أشبه الأمس باليوم، حتى في التسلّح الذي لم يعرف تطوّراً منذ الخمسينيات إلى اليوم، فلا حاجة للتجديد، يكفي أن نبدل ميشال المرّ بالياس المرّ) وهما تحلّقان فوق جامع محمد الأمين في صورة على الصفحة الأولى من نشرة «المستقبل السلفي»؟

طائرتان في لبنان لا أكثر تشكّلان سلاحاً للجو في لبنان. توفيق سلطان (الذي لا يتوقّف عن شكر المملكة الوهّابية) قال إن الطائرتين هما إحياء «لسلاح الجو اللبناني». قل هما ترسانة العرب بوجه الخطر الإسرائيلي، مع أن ناطقاً باسم وزارة الدفاع الأميركيّة كان صريحاً عندما أوضح أن ميزان التسليح للبنان يخضع لأولويّة دعم تفوّق إسرائيل الاستراتيجي. والصحف اللبنانيّة بدت كأم العروس، أو كمن يرى طائرة للمرّة الأولى.

طائرةٌ في سماء لبنان مُفرّغة من الصواريخ لطمأنة العدو الإسرائيلي، والصحف اللبنانية تتعامل مع الحدث وكأن دفاع لبنان قد تأمّن وفق استراتيجيا 14 آذار للدفاع عن لبنان (بلوَرها وليد جنبلاط في لقائه مع الصهيوني العتيق، مارتن إندك، وأدّى «تكويعة» من «تكويعاته» المعروفة بعد لقاء لدقائق مع كوندوليزا رايس.

لكن محمد رعد قبّل وجنتيه، فانتشى الجمهور في الضفتين. لبنان يُطيّر طائرتين: هناك من غطّى خبر ظهور الطائرتين وكأن حلاً سحريّاً قد توافر للدفاع عن لبنان. هناك من ذكّر بأن الطائرتين خاضتا معارك ضد طائرات العدو الإسرائيلي في أوائل الستينيات. نسي هؤلاء ما أعقب أحداث أوائل الستينيات. الطائرات حلّقت في السبعينيات أيضاً، نسي البعض. شاركت طائرات سلاح الجو اللبناني في قصف مخيّمات فلسطينيّة آهلة بالسكان عام 1973.

نسي البعض ما حصل يومها: كيف ردَّ الجيش اللبناني على غزو إسرائيل لبيروت (بمشاركة جواسيس من داخل بيروت) واغتيال نخبة من قادة المقاومة، بشنّ حرب وحشيّة على المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان.

لحسن الحظ، فشل الجيش في مهمة إكمال ما بدأه الجيش الأردني.

لا ندري ما كان هدف طلي الطائرتين وصيانتهما من أجل عرض جوّي في عيد الاستقلال. لكن عيد الاستقلال نافر جداً في بلد مثل لبنان. لا يستحق لبنان عيداً للاستقلال، والاحتفال بالعيد بصورة سنويّة يهدف إلى طمر حقائق تاريخيّة عنيدة: إن البلد لم يكن مستقلاّ منذ إنشائه. على العكس، إن لبنان وُلد من أجل أن يكون غير مستقل، وما يُسمّى معركة استقلاله لم يكن أكثر من معركة دبلوماسيّة بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي. طبعاً، هذا لا يغمطُ الأحزاب والقوى التي ناضلت من أجل الاستقلال، حقها، لكنها غير تلك القوى التي ندرس «نضالَها» من أجل الاستقلال في المنهج المُقَرّر.

ألم تكن طبقة المعركة الاستقلاليّة كلها هي نفسها طبقة حكم الاستعمار الفرنسي (مثلما كانت طبقة الحكم في حقبة سيطرة النظام السوري هي نفسها في حقبة «النضال» ضد سوريا ــــ بعد خروجها من لبنان طبعاً)؟ والاحتفاء بما يُسمى بأبطال معركة الاستقلال هو من السخريات كأن يُنصَّب نوري المالكي وأياد علاوي وجلال طالباني أبطال استقلال العراق.

إلى متى تستمرّ عمليّة التزوير، وإلى متى نحرم الناشئة في لبنان الاطّلاع على حقيقة تاريخهم المُشين في كثير من محطاته؟ ومتى نصارح الشعب في لبنان، ولا سيما طلابه في المدارس، بحقيقة سيرة رجالات لبنان؟ مثل أن إميل إده كان يطالب باستعمار فرنسي دائم للبنان، بالإضافة إلى علاقاته وتحالفه المبكّر مع الصهيونيّة؟ متى نصارحُهم بأن ألفرد نقّاش (الذي تُصوّره كتب التاريخ المزوّرة بأنه كان «آدمياً») كان مثل إميل إده: من أنصار تعليق الدستور (الذي وصفه المُستعمِر) ومن أنصار... الصهيونيّة؟

متى نخبرهم عن بشير الجميل وكيف نصّب جيشُ إسرائيل مجرم حرب رئيساً للبنان؟ وهل نُترجم لهم التاريخ شبه الرسمي للاستخبارات المركزيّة الأميركية (بعنوان «إرث الرماد: تاريخ وكالة الاستخبارات المركزيّة» لتيم وينر) الذي يتضمّن معلومات قيّمة عن تاريخ بشير الجميل وعن «خدمته» (بالمعنى القانوني) لـ«الأجنبي» (وهي غير خدمته للإسرائيلي) (ص. 451 من الكتاب المذكور ــــ والكتاب يؤكد بالمناسبة صحة اتهام النظام الناصري لمصطفى أمين)؟

لكن الاحتفال باستقلال لبنان سمح لوزير الدفاع الياس المرّ (الذي اختفى عن السمع أثناء عدوان إسرائيل الوحشي على كلّ لبنان عام 2006 مع أنه استشرس ضد عدوان عَبَدة الشيطان على لبنان، وأفرد له صديقه مارسيل غانم حلقة خاصة للتحذير من خطر الشيطان على لبنان) بأن يجول في عربة جيب مكشوفة برفقة رئيس الجمهورية (أثناء زيارة قصيرة للأخير إلى لبنان، إذ إنّه موجود خارج لبنان في رحلات لا تنتهي).

لكن موضوع سياسة الدفاع عن لبنان يتوضّح باستمرار، وهو مرتبط بالطائرتين وباحتفالات الاستقلال الهزلية. الذي فكّر بإطلاق الطائرتيْن الصدئتيْن في سماء لبنان، ألا يستحق جائزة في الكوميديا الوطنيّة؟ والمهزلة الوطنيّة دشّنها أمين الجميّل (لا ندري لماذا سمّاه عماد مرمل «الرصين» إلا إذا ظنّ أن الرصين هو أرعن) في احتفال لم يكن ينقصه إلا تساقط الدولارات الأميركيّة والسعودية فوق رؤوس الحاضرين، إيذاناً ببدء معركة حزب الكتائب للحصول على حفنة من المقاعد النيابيّة. والسفير السعودي جلس في صدارة الحفل لكنه ــــ إياكم أن تنسوا ــــ على... مسافة واحدة من الجميع، حتى عندما يذهب إلى الشمال في حفلة تأجيج طائفي وسلفي. لعلّه يقصد أن المملكة هي على مسافة واحدة من كل السلفيّين، فاقتضى التوضيح. ثم أليس من الأصح أن يختبئ الكتائبيّون (والكتائبيّات حتى لا ننسى تلك التي أعدّت أطباقاً لأرييل شارون أثناء زياراته إلى لبنان والتي تجلس تحت قبّة البرلمان غير وجلة، بينما كان يجب أن تقبعَ في سجن رومية حليقة الرأس، على أقل تقدير، مثلما حدث مع الفرنسيّات اللواتي قبلنَ أن يحتسينَ كؤوساً من الجعة مع جنود الاحتلال النازي) في عيد الاستقلال، وهن أعضاء في حزب أيّد الاستعمار الفرنسي وإن انضم إلى حفلة الاستقلال المزعوم قبل أيام من انتهاء الانتداب؟

وجدتُها، وجدتُها: طائرتان لحماية لبنان

الرئيس ميشال سليمان (بلال جاويش)الرئيس ميشال سليمان (بلال جاويش)وبيار الجميل (الجد) مثل سامي الجميل: يستطيع أن يتصنّع الإصابة برصاص العدو في أية تظاهرة. وسامي الجميل (الكونفدرالي غير الظريف) يعطي حديثاً لمجلة النازيّين الجدد في فرنسا (هؤلاء الذين هم أكثر تطرّفاً وعنصريّة من جبهة «لو بان» الوطنيّة) ويثني على عنصريّتهم وعلى كراهيّتهم للعرب والمسلمين، لكنه حليف عائلة «من يحسب أن ماله خلّده» التي باتت تظن أنها قريشيّة. والجميّل الأب (الذي وعد الإسرائيليّين بالذهاب بعيداً من أجلهم، كما تذكر المراجع العبريّة) لم يتوقّف عن النضال من أجل... تطبيق 17 أيار.

المعركة من أجل التطبيع والاستسلام أمام إسرائيل، هي هي، وبمسمّيات مختلفة: 14 آذار و17 أيار، هل نختلف على شهرين ثلاثة؟ الاستسلام أمام العدو الإسرائيلي (أو الكيان الصهيوني الغاصب، لعل تلك الصفة تصيب أعداء اللغة الخشبيّة بالاشمئزاز) هو اليوم بعنوان الحياد. والحياد في مفهوم 14 آذار لا يعني الحياد بين العرب وإسرائيل فقط، بل يعني الحياد بين الفرقاء المتصارعين في الحلبة الإسرائيليّة: أي أنهم لا يفاضلون بين نتنياهو وليفني، وإن كان آل سعود وآل ثاني يكنّون عطفاً خاصّاً لليفني.

وزير الدفاع الياس المر (بلال جاويش)وزير الدفاع الياس المر (بلال جاويش)ويبدو أن سياسة السلام مع إسرائيل تتسرّب إلى برنامج رئيس الجمهورية اللبناني، ليس فقط لأنه هرع إلى نيويورك ليتحاور مع ممثّل الأديان (شمعون بيريز) وما وراء الأديان حسب معيار خادم الحرمين وغيرهما، وليس فقط لأنه حريص على عودة مكرّمة لمرتزقة جيش لبنان الجنوبي ومجرميه من فلسطين المحتلّة، بل لأن وزيرَه المحسوب على حصّته الخاصة، يوسف تقلا (الذي تلقّى علوم اللغة العربيّة في المعهد نفسه الذي درس فيه كارلوس إده وسعد الحريري) جزم في برنامج «بكل وقاحة وصفاقة» على شاشة فرعٍ منشق من القوات اللبنانيّة أن إسرائيل «جار» عزيز، وطالبَ بسلام مع العدو الإسرائيلي في الوقت المناسب. وكاد أن يطالب بمزيد من الاجتياحات الإسرائيلية للبنان، من أجل تعزيز أواصر الصداقة والجيرة بين لبنان وإسرائيل. يبدو أن الوزير المحسوب على رئيس الجمهوريّة هو من أنصار شارل مالك في دعوته عام 1982 إلى «محاكاة حضاريّة» بين لبنان وإسرائيل. وعندما يتحدّث وليد جنبلاط عن اتفاق الهدنة إنما يعني صيغة غير معدّلة عن اتفاق 17 أيّار. وجنبلاط رفض الربط بين لهجته الجديدة الحادّة وزيارته الأخيرة إلى أميركا. وليد جنبلاط، الحق يُقال، يحرصُ على عدم نسيان فلسطين، كما يقول. لعلّ فلسطين هي سبب لقائه بمارتن إندك (عماد في اللوبي الصهيوني هنا في أميركا). هل يقصد جنبلاط في حديثه عن فلسطين، فلسطين وفق رؤية مارتن إندك وأليوت أبرامز؟ ولم ينسَ جنبلاط أن يشكر إدارة جورج بوش على دعمها للبنان وعلى «وقفها» عدوان إسرائيل، كما قال هو بالحرف. لم يوضّح ما قصد. هل أوقف بوش عدوان إسرائيل على لبنان من دون أن نعلم ،أو أن نلاحظ؟ لعلّها هي استراتيجيا 14 آذار الدفاعية. أي أن الإدارة الصهيونيّة في واشنطن تقوم بمهمة الدفاع عن لبنان كما قام بوش بالدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل. هل هذا ما عناه جنبلاط عندما قال إن «كوندي» رايس هي «مُحِبَّة» ـــ أي مُحِبَّة لأرض لبنان، ولجنوبه خاصة في حوار سُمع «بالغلط» مع البطريرك الماروني الذي يرفض زيارة سوريا، ولكنه يقبل أن يعود في حمأة العدوان الإسرائيلي ـــ الأميركي على لبنان في عام 2006 على متن طوافة عسكريّة أميركية؟

وجريدة «النهار» قالت إن إسرائيل خائفة ــــ خائفة يا محسنين ومحسنات ــــ من دزينة الدبابات التي قد يحصل عليها لبنان من أميركا، على أثر زيارة جنبلاط المظفرة. وكيف لا تخاف إسرائيل من دزّينة دبابات في لبنان؟ وكيف لا يخاف السلاح الجوي الإسرائيلي (وبحوزته أكثر من 600 طائرة فقط) من طائرتيْ «الهوكر هنتر» وهما تحلّقان من دون سلاح بشموخ؟ وإذا كانت إسرائيل تطلق صواريخ وأقماراً اصطناعية في الفضاء فلبنان (وفق رؤية الدولة الحديثة للسنيورة) قادر هو أيضاً على إطلاق طائرتيْ «هوكر هنتر» مدجَّجتين... بالنيّات الحسنة نحو العدو الإسرائيلي.

ومحمد شطح دخل في النقاش حول الاستراتيجيا الدفاعية، وهو لا يتكلّم في السياسة الخارجيّة من دون أن يشطح لكنّ الحريري اختاره سفيراً في واشنطن لأنه درس... الاقتصاد. ولماذا يتصنّع بعض اللبنانيّين مثله نسيان اللغة العربيّة فقط لأنه درس سنتين أو ثلاثاً في الولايات المتحدة؟ على الأقل، هو لا يحاول النطق بلهجة بريطانية (كاريكاتوريّة) على طريقة فؤاد السنيورة. وشطح طالبَ باستسلام لبنان الرسمي والشعبي أمام احتلال إسرائيل وعدوانها، لأسباب مالية صرفة. وقال إن ديون لبنان الهائلة (التي وسّعت مطار بيروت وأنشأت سياحة دعارة مزدهرة) لا يمكن أن تتراكم من أجل مهمة ثانويّة مثل الدفاع عن الوطن بوجه العدوان. شطح قال إن الدول الحديثة المستقلة لا تعتمد على جيش للحماية، بل على الإذعان أمام دولة عدوّة وقويّة. إنها استراتيجيا دفاع الأمير مقرن ومن يماشيه في قصر المؤتمرات في قريطم. ولا يمانع وزير المال الحاد الذكاء في إنفاق مزيد من الأموال على صيانة الطائرتين اللبنانيّتين، على ألا تُهدرَ أموال إضافيّة في شراء طائرات أخرى. وشعار شطح (وهو ضليع في العلوم الاستراتيجيّة مثله مثل نبيل خليفة الذي نذكره منظراً لـ17 أيار، مثله مثل داود الصايغ) هو: طائرتان تكفيان للدفاع عن لبنان. ولعلمكم يا جماهير شعب لبنان، عندما هدّد الياس المرّ بأن جيش لبنان سيعلّم جيش العدو درساً لن ينساه، كان يهدّد بالطائرتين، مع أن الوزير عاد واختفى بعدما تقدّمت قوات العدو في اجتياحها الفاشل.

وهل هناك من يلحظ أن نشرة المستقبل السلفي تبرزُ تهديدات إسرائيل إلى لبنان من باب الاعتزاز بالاستقواء على أعداء داخليّين؟ وهل من يلاحظ أن إعلام 14 آذار ينشر أخباراً عن استعداد فريق من اللبنانيّين للدفاع عن لبنان بوجه عدوان إسرائيل من باب الاستهجان، وكأن القدرة على (أو الرغبة في) الدفاع هي استفزاز مُستنكَر للعدو؟ هل هذا ما عناه المصدر السعودي المسؤول الذي لم يجرؤ على الإفصاح عن اسمه خشية الغضبة الشعبيّة؟ وموضوع إسرائيل مرتبط بخلق هذا الكيان اللبناني المسخ، وبمنع استقلاله بالتفاهم والتعاضد مع أيتام الاستعمار الفرنسي في لبنان أولاً، ثم مع أيتام الهزيمة الغربيّة في لبنان على يد حلفاء عبد الناصر في لبنان بعد ذلك. ثم كان تفاهم فؤاد شهاب في الخيمة: والتفاهم حيّدَ لبنان، بمعنى أنه ضربَ ما يسمّى تفاهم الميثاق الوطني في العمق.

بدلاً من رفض الحلف الغربي والوحدة العربية، أدت الشهابية إلى فتح أبواب لبنان على مصاريعها أمام الشرق والغرب على حدّ سواء، وليدخل من يشاء، «ويا ضيفنا لو زرتنا»...

طبعاً، الشهابيّة لحظت عرض العضلات والقوّة المفرطة فقط في التعاطي الفظ والوحشي أحياناً مع أهلنا في مخيمات اللاجئين: ينسى اللبنانيّون ذلك عندما يتحدّثون عن تجاوزات الثورة أثناء الحرب، وكأن أعداء الثورة ومحاربيها من الكتائب إلى حركة أمل كانوا بعيدين كل البعد عن التجاوزات. العفّة والزهد كانتا صفات المليشيات اللبنانيّة، يريدوننا أن نصدّق.

عيد الاستقلال تستحقه الدول المستقلّة، أو الدول التي تسعى نحو الاستقلال. لبنان لم يكن يوماً مستقلاً، وآل الحريري الذين يحكمون لبنان اليوم (برعاية أميركية ــــ إسرائيلية ــــ سعودية) يريدون إبدال سيطرة أجنبيّة بأخرى. الاستقلال الناجز يتطلب أول ما يتطلّب إجماعاً على الدفاع عن الوطن بوجه خطر محدق (وخصوصاً إذا كان الخطر جاراً، حسب وصف فريد مكاري ويوسف تقلا). لا يستقيم استقلال لبنان من دون ردع إسرائيل على الأقل (أو تحرير فلسطين بالكامل) وخصوصاً أن صبيةً من لبنان حقّقوا وفق شهادة إسرائيليّة رسمية هزيمة لإسرائيل (وهزيمة إسرائيل لا يمكن أن تحصل من دون خسائر جمّة، كما أن هزيمة الجيش النازي على أعتاب ستالينغراد لا تعني أن روسيا لم تتلقَّ ضربات موجعة ولم تعانِ خسائر فادحة). لكن مفتي صور المطرود علي الأمين، والمرشد السابق لخليّة حمد، المفتي الجوزو، يجمعان على أن لبنان هو المنهزم، ويكادان يطبّلان لنصر إسرائيل، لأن مقاومة إسرائيل لم تستطع أن تمنع غيّ الصهيونيّة.

والنظام العربي الرسمي أنتج معادلة جديدة: وحشية إسرائيل لا تتحمّلها إسرائيل، بل يتحمّلها من يجرؤ على مقاومتها من الرعناء. وتهديدات إسرائيل للبنان بدأت قبل ولادة منظمة التحرير الفلسطينيّة وقبل ولادة حزب الله. والطائرتان يمكن استعمالهما في أفلام كوميديّة لبنانيّة، لكن من المُشرِّف لما يُسمّى كوميديّاً بسلاح الجو اللبناني أن يُحيل الطائرتيْن على التقاعد، أو إلى متحفنا المتخم بالأكاذيب والأباطيل.

لكن خطب عيد الاستقلال ملتهية بأحاديث وأساطير عن تاريخ لبنان. أصبح لعملاء إسرائيل وأدواتها في لبنان أنصاب وتماثيل وجادات وصور عملاقة. الوطن يثبت استحالة بقائه وطناً، والجيل الجديد لا يقلّ تعصّباً عن أجيال سبقته. المفارقة كانت في صراعات طائفيّة في ساحات الجامعات خلال أسبوع الاستقلال. ووليد جنبلاط ورفاقه يقولون إن التحالف مع أميركا والسعودية (هم لا يذكرون إسرائيل وإن كان بعضهم مثل مكاري وتقلا يذكرها بالخير) هو من أجل مصلحة لبنان فقط. أي أن الإذعان لأطراف خارجيين والتسليم بسيادة إسرائيل في لبنان هو من أجل لبنان أيضاً. ولكن، ألم يكن رفيق الحريري ووليد جنبلاط يقولان الشيء نفسه عن النظام السوري أثناء تحالفهما الذيلي مع استخبارات النظام؟ وهل هناك في لبنان من يعتقد أن تحالفَه الخارجي (مع سوريا أو إيران أو السعودية أو مع «كوندي») يتناقض مع أسس السيادة؟

المعضلة ليست آنيّة طبعاً، بل هي كامنة في نظام لبنان الطائفي الذي يعطي كلّ طائفة سياسة خارجية خاصّة بها. وكلما احتدم الصراع، فتشت الطائفة، أو ممثلوها الطائفيّون، عن حليف خارجي. ولكن في المقابل الديالكتيكي، هناك دول خارجية باحثة عن دور أو موطئ قدم في لبنان تجد في طائفة ما أو أكثر أرضاً خصبة لزرع النفوذ. وإذا كان الاستقلال يستحقّ يوماً خاصاً، وإذا كانت الطبقة السياسية في لبنان في المعسكرين المتنازعين تكرّس أياماً في السنة لتكريم السفير السعودي في لبنان، فالعار في تاريخ لبنان يستحقّ أن يُكرَّسَ له يومان في السنة، على الأقل.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: