تقرير سرّي جدا من بلاد قمعستان


هذه القصيدة هي من روائع اشعار نزار قباني وهي صورة لما يمرّ به وطننا العربي اليوم ولما يمرّ به العرب كل يوم!

لم يبق فيهم لا ابو بكر.. ولا عثمان

جميعهم هياكل عظمية في متحف الزمان

تساقط الفرسان عن سروجهم

واعلنت دويلة الخصيان

واعتقل المؤذنون في بيوتهم

والغي الاذان...

جميعهم.. تضخمت اثدائهم

واصبحوا نسوان

جميعهم يأتيهم الحيض ومشغولون بالحمل

وبالرضاعة...

جميعهم قد ذبحوا خيولهم

وارتهنوا سيوفهم

وقدموا نساءهم هدية لقائد الرومان

ما كان يدعى ببلاد الشام يوما

صار في الجغرافيا...

يدعى (يهودستان)

الله... يا زمان

لم يبق في دفاتر التاريخ

لا سيف ولا حصان

جميعهم قد تركوا نعالهم

وهربوا اموالهم

وخلفوا وراءهم اطفالهم

وانسحبوا الى مقاهي الموت والنسيان

جميعهم تخنثوا...

تكحلوا...

تعطروا...

تمايلوا اغصان خيزران

حتى تظن خالدا... سوزان

ومريما.. مروان

الله... يا زمان...

جميعهم موتى... ولم يبق سوى لبنان

يلبس في كل صباح كفنا

ويشعل الجنوب اصرارا وعنفوان

جميعهم قد دخلوا جحورهم

واستمتعوا بالمسك، والنساء، والريحان

جميعهم مدجن، مروض، منافق، مزدوج.. جبان

ووحده لبنان

يصفع امريكا بلا هوادة

ويشعل المياه والشطان

في حين الف حاكم مؤمرك

يأخذها بالصدر والاحضان

هل ممكن ان يعقد الانسان صلحا دائما مع الهوان؟

الله... يا زمان..

هل تعرفون من انا

مواطن يسكن في دولة (قمعستان)

وهذه الدولة ليست نكتة مصرية

او صورة منقولة عن كتب البديع والبيان

فأرض (قمعستان) جاء ذكرها

في معجم البلدان...

وان من اهم صادراتها

حقائبا جلدية

مصنوعة من جسد الانسان

الله... يا زمان...

هل تطلبون نبذة صغيرة عن ارض (قمعستان)

تلك التي تمتد من شمال افريقيا

الى بلاد نفطستان

تلك التي تمتد من شواطئ القهر الى شواطئ

القتل

الى شواطئ السحل، الى شواطئ الاحزان..

وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريان

ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة

ويكرهون الورق الابيض، والمداد، والاقلام بالوراثة

واول البنود في دستورها:

يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الانسان

الله... يا زمان...

هل تعرفون من انا؟

مواطن يسكن في دولة (قمعستان)

مواطن...

يحلم في يوم من الايام ان يصبح في مرتبة الحيوان

مواطن يخاف ان يجلس في المقهى.. لكي

لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان

مواطن ان يخاف ان يقرب زوجته

قبيل ان تراقب المباحث المكان

مواطن انا من شعب قمعستان

اخاف ان ادخل اي مسجد

كي لا يقال اني رجل يمارس الايمان

كي لا يقول المخبر السري:

اني كنت اتلو سورة الرحمن

الله... يا زمان...

هل تعرفون الان ما دولة (قمعستان)؟

تلك التي الفها.. لحنها..

اخرجها للشيطان

هل تعرفون هذه الدويلة العجيبة؟

حيث دخول المرء للمرحاض يحتاج الى قرار

والشمس كي تطلع تحتاج الى قرار

والديك كي يصبيح يحتاج الى قرار

ورغبة الزوجين في الانجاب

تحتاج الى قرار

وشعر من احبها

يمنعه الشرطي ان يطير في الريح

بلا قرار

ما اردأ الاحوال في دولة (قمعستان)

حيث الذكور نسخة من النساء

حيث النساء نسخة من الذكور

حيث التراب يكره البذور

وحيث كل طائر يخاف بقية الطيور

وصاحب القرار يحتاج الى قرار

تلك هي الاحوال في دولة (قمعستان)

الله... يا زمان...

يا اصدقائي:

انني مواطن يسكن مدينة ليس بها سكان

ليس لها شوارع

ليس لها ارصفة

ليس لها نوافذ

ليس لها جدران

ليس بها جرائد

غير التي تطبعها مطابع السلطان...

عنوانها؟

اخاف ان ابوح بالعنوان

كل الذي اعرفه

ان الذي يقود الحظ الى مدينتي

يرحمه الرحمن...

يا اصدقائي:

ما هو الشعر اذا لم يعلن العصيان؟

وما هو الشعر اذا لم يسقط الطغاة... والطغيان؟

وما هو الشعر اذا لم يحدث الزلزال

في الزمان والمكان؟

وما هو الشعر اذا لم يخلع التاج الذي يلبسه

كسرى انوشروان؟

من اجل هذا اعلن العصيان

باسم الملايين التي تجهل حتى الان ما هو النهار

وما هو الفارق بين الغصن والعصفور

وما هو الفارق بين الورد والمنثور

وما هو الفارق بين النهد والرمانة

وما هو الفارق بين البحر والزنزانة

وما هو الفارق بين القمر الاخضر والقرنفلة

وبين حد كلمة شجاعة،

وبين خد المقصلة...

من اجل هذا اعلن العصيان

باسم الملايين التي تساق نحو الذبح كالقطعان

باسم الذين انتزعت اجفانهم

واقتلعت اسنانهم

وذوبوا في حامض الكبريت كالديدان

باسم الذين ما لهم صوت...

ولا رأي...

ولا لسان...

سأعلن العصيان...

من اجل هذا اعلن العصيان

باسم الجماهير التي تجلس كالابقار

تحت الشاشة الصغيرة

باسم الجماهير التي يسقونها الولاء

بالملاعق الكبيرة

باسم الجماهير التي تركب كالبعير

من مشرق الشمس الى مغربها

تركب كالبعير...

وما لها من الحقوق غير حق الماء والشعير

وما لها من الطموح غير ان تأخذ للحلاق زوجة الامير

او ابنة الامير...

او كلبة الامير...

باسم الجماهير التي تضرع لله لكي يديم القائد العظيم

وحزمة البرسيم...

يا اصدقاء الشعر:

اني شجر النار، واني كاهن الاشواق

والناطق الرسمي عن خمسين مليونا من العشاق

على يدي ينام اهل الحب والحنين

فمرة اجعلهم حمائما

ومرة اجعلهم اشجار ياسمين

يا اصدقائي...

انني الجرح الذي يرفض دوما

سلطة السكين...

يا اصدقائي الرائعين:

انا الشفاه للذين ما لهم شفاه

انا العيون للذين ما لهم عيون

انا كتاب البحر للذين ليس يقرأون

انا الكتابات التي يحفرها الدمع على عنابر السجزن

انا كهذا العصر، يا حبيبتي

اواجه الجنون بالجنون

واكسر الاشياء في طفولة

وفي دمي، رائحة الثورة والليمون...

انا كما عرفتموني دائما

هوايني ان اكسر القانون

انا كما عرفتموني دائما

اكون بالشعر... والا لا اريد ان اكون...

يا اصدقائي:

انتم الشعر الحقيقي

ولا يهم ان يضحك... او يعبس...

او ان يغضب السلطان

انتم سلا طيني...

ومنكم استمد المجد، والقوة ، والسلطان...

قصائدي ممنوعة...

في المدن التي تنام فوق الملح والحجارة

قصائدي ممنوعة...

لانها تحمل للانسان عطر الحب، والحضارة

قصائدي مرفوضة...

لانها لكل بيت تحمل البشارة

يا اصدقائي:

اني ما زلت بانتظاركم

لنوقد الشرارة...

تعليقات: