المصائب لا تأتي فُرادى عـلى بوش


«المصائب لا تأتي فرادى»، هذه هي حال الرئيس جورج دبليو بوش وإدارته قبل شهر من موعد الانتخابات الرئاسية، التي توحي استطلاعات الرأي فيها أن رصيد المرشح الديموقراطي باراك أوباما الرئيسي هو غضب الأميركيين من بوش وحزبه الجمهوري ومرشّحه ماكاين، الذي لم ينجح في تمييز نفسه تماماً عن بوش.

فالأزمة المالية والاقتصادية غير المسبوقة، منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، التي تعصف بالولايات المتحدة، وتنتقل عبر «العولمة» الى أسواق المال في كل أرجاء العالم، وتكشفت بوضوح عمق الفساد والتواطؤ بين الإدارة السياسية والاحتكارات على حساب المواطن الأميركي خصوصاً، والاقتصاد العالمي عموماً، أبرزت تهافت الأسس النظرية والعملية التي قامت عليها نظريات «الليبرالية الجديدة» حين دعت إلى «الحرية الكاملة للسوق»، لتصل اليوم إلى التدخل الحكومي غير المسبوق في الاقتصاد الأميركي والعالمي، كذلك أظهرت هزل شعار «سقوط الأيديولوجيات» لتقيم في مركز «البراغماتية» الأكبر في العالم، أكبر نظام أيديولوجي يتّسم بالعدوان والحروب المسبوقة لفرض أيديولوجيته العنصرية المقيتة. كلها سياسات بلورها منظّروها حين تحدثوا عن «نهاية التاريخ» ليصلوا إلى الاقتناع بنهاية «الرأسمالية المتوحشة» التي أدت إلى مقتل الملايين من أبناء البشر، بمن فيهم الآلاف من أبناء المركز الرأسمالي الأول في العالم، وحين رفع حكّامها شعار تصدير الديموقراطية وحقوق الإنسان إلى أنحاء العالم لتشهد البشرية، في ظل سياساتهم، أبشع أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان، من إبادة جماعية وتعذيب وحشي ومعتقلات سرية وعلنية خارجة عن أي قانون دولي، بل لتشهد أيضاً تضييقاً غير مسبوق على الحريات الشخصية والعامة حتى في الدول التي كانت تتباهى بأنها قلعة الحرية الثابتة في العالم. والنظام الدولي الأحادي الذي ظنّ منظّرو الإدارة الأميركية الحالية أنه سيحوّل القرن الواحد والعشرين إلى «قرن أميركي» بالكامل، بدأ يتهاوى (وبأسرع ممّا كان يتوقّع أكثر المتفائلين) مع عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية لتلقّن ساكاشفيلي في جورجيا درساً، ولتجري مناورات على الشواطئ الفنزويلية القريبة من الساحل الأميركي. كذلك يتهاوى هذا النظام مع التقدم الثابت والصامت للصين في ميادين عدة، أبرزها الميدان الاقتصادي، حيث لا يستطيع المحلّلون الاقتصاديون إنكار حجم امتلاك بكين للسندات والأسهم الأميركية، وخصوصاً مع كل انهيار يصيب أسواق المال في «وول ستريت»، بحيث تسهم الأموال الصينية في «إنقاذ» الاقتصاد الأميركي، وفي «رهن» قطاعات رئيسية منه للمال الصيني.

ولا ننسى بالطبع التململ الأوروبي، الذي ضاق ذرعاً بالتفرد الأميركي، والذي عبّر عن نفسه أخيراً برفض إنشاء صندوق أوروبي موحّد لمساعدة النظام المصرفي الأميركي، فيما تعدّ دول كألمانيا وايرلندا واليونان نفسها لاستقبال رؤوس الأموال والاستثمارات الهاربة من جحيم الانهيار المالي الدولي.

كما لا ننسى التطوّرات في أميركا اللاتينيّة. وتصريحات رئيس وزراء كندا الذي اعترف بخطأ مشاركة بلاده في الحرب على العراق، فيما يشاهد الإيرانيون إدارة بوش تترنح بعدما أمطرتهم على مدى سنوات بالتهديدات على أنواعها.

أمّا سياسة «الحرب على الإرهاب» التي كانت العنوان الرئيسي لسياسة بوش على مدى ولايته، منذ عام 2001 وحتى اليوم، فيكفي أن نتابع دعوة حميد قرضاي إلى مصالحة مع «طالبان» ترعاها الرياض، وأن نقرأ تصريحات القائد البريطاني أخيراً عن «استحالة الانتصار العسكري على طالبان»، لكي ندرك كذلك مدى تهافت هذه السياسة وعودة الأمور إلى المربّع الأول، بل ربما إلى ما قبل هذا المربّع. فإذا لم تكن الدعوة لمصالحة «طالبان» (بعد الدعوة إلى استئصالها واجتثاثها) فشلاً لسياسة بوش، فكيف يكون الفشل إذن؟

ولا يختلف الوضع في العراق عنه في أفغانستان، بل إنّ الخسائر الأميركية في هذا البلد العربي كانت أكبر وأكثر فداحةً وأشد وحشية بكل المقاييس. والخسارة هنا ليست عسكرية فقط وعنوانها سقوط مروحيتين أميركيتين قبل أيام في الأعظمية، وتفجيران قرب مقر وزارة الخارجية خلال وجود جون نيغروبونتي فيها، بل إنها خسائر سياسية أيضاً، حيث يتخبّط «الحلفاء» في صراعات أفقية وعمودية، وحيث تترنّح العملية السياسية، رغم محاولات الضخ بالأوكسيجين لها من حكومات المنطقة على تفاوت المواقف بينها، وربما في سباق على وراثة «الرجل الأميركي المريض» في العراق. أما في فلسطين، وهنا لبّ السياسة الأميركية الموجّهة صهيونياً، فالفشل الأميركي هو عنوان كل المبادرات والتفاهمات وخرائط الطريق والمؤتمرات الدولية والإقليمية، بل عنوان كل الوعود التي أطلقها جورج بوش منذ نيسان 2002 بقيام دولة فلسطين عام 2005، إلى الوعد الأخير قبل عام بقيام دولة فلسطين قبل نهاية هذا العام (2008)، وهو وعد أقام له في أنابوليس احتفالاً ضاعت مفاعيله كما تضيع الأسهم النارية في احتفالات مماثلة. وفي الصومال، ينتقل العدوان من البرّ، حيث يتفاقم فشل الاحتلال الأميركي بالوكالة الإثيوبية، إلى البحر حيث تسعى الأساطيل الغربية باسم مكافحة «القرصنة الصومالية» إلى احتلال منافذ البحر الأحمر لتواجه مقاومة في المياه لا تقل ضراوة عن المقاومة التي وجدتها في اليابسة.

أما لبنان، والحديث عنه وفيه يطول، فيكفي أن نواكب ما يدور في كواليس الجهات والقوى التي راهنت على بوش وتشيني، وعلى رايس وولش وابرامز، لكي نعرف حجم الهزيمة التي مني به مشروع بوش اللبناني على يد مقاومة باسلة في حرب تموز 2006، ومقاومة سياسية ووطنية عارمة رفضت أن تستبدل علاقة أخوية متكافئة وسليمة مع سوريا بارتباط غير مقبول بجدول أعمال أميركي تحتل مصلحة الكيان الصهيوني وحمايته البند الأول فيه.

«المصائب لا تأتي فرادى»، فهل يتّعظ من ظنّ أن السياسة الأميركية قدر لا يرد، وأن الحكمة تقتضي التكيّف معها والرضوخ لإملاءاتها؟ وهل يملك هؤلاء، وخصوصاً «المنظّرون» منهم، شجاعة المراجعة الصادقه والتراجع الكريم والاعتذار الحقيقي لكل من أساؤوا إليهم أو أخطأوا في حقهم؟

* كاتب وسياسي لبناني

تعليقات: