سعاد حسني.. عينان لا تكذبان أبداً

(العينان اللتان وصفهما كامل الشناوي)
(العينان اللتان وصفهما كامل الشناوي)


ترى كيف كانت نظرتها الأخيرة قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد؟ هل كان الرعب يملأهما أم كانتا عينان متبلدتان يتساوى عندهما كل شيء بما في ذلك الموت والحياة؟ المؤكد أن ابتسامة عينيها التي لم تفارقها أبدا غابت في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت قبل اثنين وعشرين عاماً حين غادرت سعاد حسني دنيانا في الحادي والعشرين من حزيران الحزين العام 2001، غابت وهي التي قال عنها يوما الشاعر كامل الشناوي: "ليس صحيحاً أن عينيّ سعاد لهما جفنان.. الصحيح أن لكل عين شفاها تبتسم".

لم تكن عينا سعاد حسني مجرد عينين جميلتين.. فهناك من النجمات من هن ذوات عيون أجمل منها لكنني لا أظن أن هناك عينين أصدق من عينيها. إنهما العينان "اللي ما بتكدبش أبداً" على حد وصف صلاح ذو الفقار في فيلم "موعد في البرج" سنة 1962، لقد كانتا أحد اسلحتها في تكوين حالة "الكاريزما" التي تمتعت بها، وكانتا كذلك إحدى أدواتها التي تميزت بها كممثلة بين كل قريناتها من ممثلات السينما، فمنذ أول طلة لها على شاشة السينما في "حسن ونعيمة" 1959، وهي تقف خلف شباكها العربي ترقب "حسن المغنواتي" شعرنا أن شيئا ما تغيّر فينا بسبب هذه الفتاة حتى قبل أن تنطق بكلمة واحدة. باختصار لقد هبطت علينا سعاد حسني في أواخر الخمسينيات وفي يديها أداة لم تكن مألوفة لدينا كثيراً في فن التمثيل، وهي القدرة على التعبير بالعينين، وهي مقدرة فطرية يولد المرء بها ولا دخل له فيها إلا في حدود ادراكه لتلك المقدرة وتوظيفه لها، ولو اجتمع أصحاب نظريات فن الممثل كستانسلافيسكي وغيره على أن يكسبوا ممثلا ما هذه القدرة غير الموجودة فيه ما استطاعوا ذلك أبداً، ربما يستطيعون فقط تدريبها وتنميتها، أما أن يخلقوها من العدم فهذا غير ممكن وإلا تساوى كل الممثلين في مهارة التعبير عن ردود الفعل، وهي أول ملكة أساسية يجب أن يتمتع بها الممثل المحترف.

ويبدو أن سعاد حسني لم تكن بحاجة - حتى - إلى تنمية هذه القدرة، ربما كانت بحاجة فقط إلى التوجيه واكتساب مزيد من الخبرة، وكان المخرج عز الدين ذو الفقار أول من التفت إلى مقدرة سعاد في التعبير بالعينين، وذلك في فيلم "موعد في البرج" 1962 الذي تفقد فيه البطلة بصرها في مرحلة من أحداث الفيلم، ولم يكن غريبا أن يأتي ذلك من عز الدين ذو الفقار بالتحديد أكثر مخرجي السينما المصرية اهتماما بعيني الممثل، بل إن ذلك الفيلم كان رابع عمل له يفقد فيه البطل قدرته على الابصار من دون أن يفقد قدرته على التعبير بالعينين بعد سراج منير في "اسير الظلام " 1947، وسميرة أحمد في "أغلى من عينيه" 1955، وصالح سليم في "الشموع السوداء" 1962. وفي فيلم "موعد في البرج" يلح ذو الفقار وكاتب السيناريو محمد أبو يوسف على عبارة "العينين اللي ما بتكدبش أبداً" كوصف لعينيّ سعاد حسني أو أمال بطلة الفيلم، لكن البطلة تفقد بصرها على أثر حادث مفاجئ، فتسعى للتضحية بحبها والادعاء بأنها على علاقة برجل آخر مع إخفاء حقيقة مرضها، وفي واحد من أهم مشاهد السندريللا يلتقى عادل (صلاح ذو الفقار) وآمال (سعاد حسني) من دون أن يعرف حقيقة فقدانها البصر، وفي أقل من دقيقتين تتقلب عينا سعاد حسني خمس مرات للتعبير عن انفعالات مختلفة تتدرج بين الإصرار حيال محاولات عادل لإرجاعها، ثم الحزن والأسى بعد أن أيقنت بخروجه من حياتها، ثم الدهشة حين يعود عادل ثانية، ثم الإنكار لوجود أية مشاعر تجاهه، ثم لحظة مقاومة خافتة يتبعها استسلام تام على صدر الحبيب الذي أكتشف حقيقة مرضها، ولم تكن صعوبة هذا المشهد في الانتقالات المتلاحقة بين الانفعالات المختلفة فقط وإنما أيضا في أن هاتين العينين من المفترض أن تكون ثابتين بحكم عدم قدرتهما على الإبصار.

وهكذا مع توالي الأدوار التي قدمتها أصبح التعبير بالعينين لعبة سعاد حسني المفضلة ولعبة المخرجين معها، ألم تكونا ناطقتين بالحب والرغبة حين أطفأ المخرج السيد بدير في "غصن الزيتون" 1962 إضاءة المشهد الذي جمع بينها وبين أحمد مظهر؟ ألم تتحرك حدقتا العينين كثيرا في "صغيرة ع الحب" لنيازي مصطفى 1966 للتعبير عن شقاوة الأطفال؟ ألم تتنوع انفعالات عينيها في "الزوجة الثانية" لصلاح أبو سيف بين الكيد للزوجة الأولى، والتدلّل الماكر تجاه العمدة، والدفء الممزوج بالاحتواء تجاه أولادها وزوجها الأول؟ وفي مشهد غرفة العمليات في فيلم "الست الناظرة" لأحمد ضياء الدين سنة 1968 كان المخرج ذكياً حين اختصر مشاعر البطلة في عينيها الباديتين خلف اغطية الرأس والفم التي يرتديها الأطباء داخل غرفة العمليات، فمع تواتر الثواني والانتقالات السريعة للكاميرا بين وجهي هدى وفريد كانت عينا هدى تجمع في ان واحد بين الإحساس بالسعادة لوجودها مع فريد في هذا المكان بالتحديد، والإحساس بالفخر لما وصلت إليه، والتحدي لإثبات الذات، والرهبة من الفشل، ثم الشجن النبيل الذي يغلف كل هذه المشاعر معا. وفي فيلم "الكرنك" لعلي بدرخان 1975 تذكروا معي وقارنوا بين نظرة الحب المفعمة بالأمل في مشهد القلعة بين زينب وإسماعيل، وبين نظرة الانكسار المبللة بالدموع وهما خارجان لتوهمها من المعتقل، وهل يمكن أن ننسى لـ (نوال) بطلة "موعد على العشاء " لمحمد خان 1981 نظرتها لجثة زوجها شكري - أحمد زكي - في المشرحة؟ لقد وقفت صامتة أمام الجثة وكأنها تتأملها لأول مرة، أو قل لآخر مرة، كأنها تحدثها بكل ما جرى وما سيجرى لها من بعده. وحينما تنتبه إلى الحقيقة المؤلمة والمفجعة وهي أن زوجها قد مات بالفعل تهمس بما هو أقرب إلى الصرخة المكتومة "شكري... شكري" بينما لا تخفي دموع عينيها كل إحساسها بالانكسار والهزيمة ورفض الواقع قبل أن تسقط مغشيا عليها.

لقد كانت عينا سعاد حسني أبلغ من أية كلمات، وأصدق من أي حوار، وأقوى من أي مؤثرات أخرى، وهذا ما جعل مخرجا مثل يوسف فرنسيس يستعين بها لأداء دور ريم الخرساء بطلة فيلم "عصفور الشرق" سنة 1986 الذي تحوّلت فيه لغة الحوار في كل مشاهدها إلى لغة للعيون فقط، وهذا يفسر أيضا لماذا كان كثيرون من المخرجين يلحون في مشاهد نهايات أفلامهم على التركيز على وجه سعاد حسني وعينيها المعبّرتين، هكذا فعل محمد خان في "موعد على العشاء" بعد مقتل زوجها، وهكذا فعل محمد فاضل في "حب في الزنزانة" 1983 بعد أن وضعت مولودها فيما كان زوجها يلقى مصيره المحتوم. على أن أبلغ مشهد نهاية استخدمت فيه سعاد حسني عينيها ببراعة كان في فيلم "غروب وشروق" لكمال الشيخ سنة 1970. تقف مديحة على أطلال حياتها بعد لحظات قليلة من انتحار والدها رئيس القلم السياسي، وتنظر من خلف ستار نافذتها إلى ماضيها الصاخب ومستقبلها المجهول وهي ترقب خروج عصام - رشدي أباظة - من حديقة القصر بل ومن حياتها كلها، لقد عبرت سعاد بعينيها في هذا المشهد الموحى ومن دون أن تنطق بكلمة عن كل ما كان يدور بداخل مديحة في تلك اللحظة، فجاء مشهد النهاية في غاية القوة والتأثير وحاملا للمتلقي أعلى شحنة من الانفعالات المتداخلة التي يمكن أن تبقى معه طويلا بعد مشاهدة الفيلم حتى لو تكررت تلك المشاهدات مرات ومرات.

وهكذا كانت عينا سعاد حسني دائما موحية وقادرة على اختزال اللحظة والتعبير عنها في صدق غير منقوص وتأثير لا يقوى أحد على مقاومته. إنهما "العينان اللي مابتكدبش أبداً".

عودة إلى الصفحة الرئيسية










تعليقات: