وليد دكروب.. ريما خشيش صداقة عمر(*)


1

خريف العام 1983، في بداية العام الدراسي، كانت الحصة الأولى قد بدأت في الصف الرابع ابتدائي (8ème C)، عندما فُتِح باب الصف ودخلت الناظرة ومعها فتاة، عرّفت عنها: "هيدي زميلتكم الجديدة ريما". كانت ريما ترتدي كنزة صوف بيضاء وتنورة بيضاء، تحتها كولون ابيض، وعلى شعرها بكلة على شكل زهرة بيضاء. كنّا حينها جميعًا نرتدي مريولًا بنفسجيًّا، فبدت ريما كملاكٍ أبيض يبحر على غيمة من البنفسج. أخذتها معلمة العربي بيدها ورافقتها إلى مكانٍ شاغر في وسط الصف، وكانت عيوننا تتبع مسارها من الباب إلى مكانها الجديد بجنب إحدى الفتيات. واستقرّت عشرات النظرات باتجاه ريما تراقبها، وحتى عندما نهرتنا المعلمة كي نتابع الشرح على اللوح، ظلّت عيوننا تتناوب على مراقبة زائرتنا البيضاء الجديدة. كانت تبدو هادئة، حزينة بعض الشيء، منزوية وخجولة، قليلة الكلام، وإذا تكلّمت، فبصوت هادئ يكاد لا يُسمَع. بعد أيّام من ذلك الظهور اللطيف، كنت، ورفيقي "شريف" قد عقدنا العزم على مضايقة ريما بمزاحِنا الممزوج بشيءٍ مما نسمّيه اليوم "تنمُّر"، ربّما أردنا بهذه الطريقة أن نستفزّها لنلفتَ انتباهها ولنتعرّف أكثر على جوانب شخصيّتها، أو أن نذكّرها بأنّها أصبحت مثلنا ترتدي مريولًا بنفسجيًّا، ولم تعد ذلك الملاك الأبيض كما حلّت علينا في اليوم الأول. ومرّت أيامنا المدرسية اعتياديّة رتيبة، حتى اقتربت عطلة الميلاد ورأس السنة.

في آخر يوم دراسيّ من العام 1983، أعلنت الآنسة نوال، معلمة الرياضيّات، أنّ ريما تمتلك صوتًا جميلًا وموهبة فذّة وطلبت منها أن تقف وتسمعنا أغنية بصوتها. فوقفت ريما بخجل، وغنّت: "يا جارحة قلبي، الجرح يِئلمني..." وسط دهشة الجميع، وذهولنا، شريف وأنا. فعلًا، كان صوتها ملائكيًّا، يدخل من الأذن إلى القلب مباشرةً. فما كان من رفيقي "شريف"، ومحسوبكم طبعًا، إلا أن نسدَّ أذنينا وننزل تحت الطاولة بشكلٍ استعراضيّ، مظهرَين سخريتنا ممّا يحصل، إلّا أن هذا الاستعراض الولّادي ما لبث أن خفُتَ وانطفأ وهجُه من جمال أداء ريما الآسر ووقعِه على التلاميذ والمعلّمة. وبعد أسابيع قليلة، من تلك الحادثة، كنا نشاهد في المنزل برنامج "ليالي لبنان"، وظهرت ريما لتغنّي موشح "أنت المدلّل يا قمر"... فصحت، والسعادة تغمرني: "هيدي رفيقتي بالصف!"...


2

مرّت سنوات الدراسة، وشاءت الظروف أن تتجاور مقاعدنا الدراسيّة، فكنا نتشارك السخريات والنكات والمشاغبة والضحك أثناء الدرس، علمًا أننا كنّا نُعدّ من المهذّبين في الصفّ. مرّة كانت ريما تعاني من الزكام، وهي تجلس أمامي مباشرةً. طلبَت منّي مدام بشرى، معلمة التاريخ والجغرافيا، أن أقف وأقرأ نصًّا من كتاب التاريخ، وفي اللحظة التي باشرتُ فيها بالقراءة، حلّت على ريما نوبة تعطيس، وبدأت تنفّ، وأنا أقرأ. هي تنفّ وأنا أتابع القراءة... حتى طلبت مني مدام بشرى أن أتوقف ريثما تنتهي ريما من النفّ، وهنا تدخّل رفيقي محمود: "خليها عم تلحّنله"، فانفجر الصف بالضحك، وتعطّلت لغة الكلام، واختلط التاريخ بالجغرافيا وانفرط عقد الصفّ.

ذات صباح من أيار 1991، دخلنا إلى الصفّ، وكانت ريما غارقة في غيمة من الأسى: "مات عبد الوهاب" قالت لي، وكنت قد سمعت الخبر، وفكّرت بريما.. ببريق السعادة في عينيها لمّا اخبرتنا كيف التقت بعبد الوهاب وغنّت في حضرته في القاهرة قبل أشهر. كانت في ذلك الصباح تبدو كمن فقد أعزّ ما لديه، وكان الجميع يواسيها في مصابها.

بدأت صداقتي بريما تنمو ببطء، إذ كنّا نلتقي كلّ خميس بعد المدرسة في الكونسرفاتوار – فرع الأونيسكو، حيث كانت تتعلّم الغناء والعزف على العود، وأنا كنت أتعلّم العزف على القانون عند أستاذي المرحوم محمد السبسبي، الذي كان أيضًا أستاذ والد ريما – الرجل اللطيف والهادئ كامل خشيش. والتقيتُ ريما في النادي الثقافي العربي في الحمرا في تمرين كورس الأطفال بقيادة المايسترو سليم سحّاب، صاحب فرقة بيروت للموسيقى العربية، هذه الفرقة التي تركت أجمل تأثير في الذائقة الموسيقية لجيلٍ من أطفال بيروت وجيل أهاليهم على حدّ سواء.

والتقيتُها في مسرح المركز الثقافي السوفياتي في فردان حيث شاهدنا عرضًا جامعيًّا كوميديًّا لطلاب الدكتور بطرس روحانا بعنوان "عرض زواج" لأنطون تشيخوف، الذي مثّل فيه ربيع مروة، الطالب حينذاك، دور والد العروس (كان عنده محط كلام: يا رجوتي)، هذا "الربيع" الذي سيكون له الأثر الكبير في مسيرة ريما الفنيّة. وفي تلك الفترة لم أكن أفوّت حفلةً لكورس الأطفال، أو لفرقة بيروت للموسيقى العربية، حيث كانت السوليست ريما تغنّي أصعب الموشحات والأدوار وسط تصفيق الجمهور وصيحات الاستحسان والتطييب. وطبعًا، كنا نشتري تسجيلات الكورس على كاسيتات لنستمع إليها في البيت أو في السيارة. فكانت ريما حاضرة معي أينما كنت، في المدرسة، في الكونسرفاتوار، في كورس الأطفال، في المسرح، وحتى في المنزل وفي السيارة عبر شريط الكاسيت... وقتذاك أدّعي أنني كنت من أوائل المعجبين بفنّ ريما خشيش من أبناء جيلها حتى قبل أن ترسمَ معالم طريقِها الفنّي الشاقّ وتصل إلى ما هي عليه اليوم.


3

بعد المدرسة، وبعد سفري للدراسة في روسيا، تجدّدت الصداقة من بُعد عبر المراسلة، ومن قرب خلال الصيف عندما كنّا نلتقي يوميًّا... احزروا أين... في مشغل مسرح الدمى، حديث العهد آنذاك، في ورشة خياطة الدمى والديكورات لمسرحية "شو صار بكفر منخار" بنسختها الأولى العام 1993. أي نعم... وكان ذلك في شقة على الطابق الأرضي في جمعية متخرجي جامعات بلغاريا في منطقة الصنائع. خلال ذلك الصيف، عرّفتني ريما أكثر إلى عالمها الموسيقيّ، إلى الطرب العربيّ الأصيل، إلى عبد الوهاب، وأم كلثوم، وزكريا أحمد، وسيد درويش الأصلي، والمستكاوي، وفليمون وهبي؛ وأدخلتُها أنا إلى عالمي الموسيقيّ وشغفي بالأخوين رحباني وفيروز وزياد الرحباني، وأحمد قعبور، وشربل روحانا، ومارسيل خليفة، والموسيقى الكلاسيكية، فتبادلنا الكاسيتات، وزوّدتني بتسجيلات نادرة، كنت أستمع إليها في روسيا، وما زلت أحتفظ بها حتى الآن. على فكرة، كانت ريما من أبرز الداعمين لمسيرتنا في مسرح الدمى، ولعلّني أكشف سرًّا حين أقول أنّ ريما شاركت بصوتها في كورس أغنية "يللا ينام" من مسرحية "يللا ينام مرجان" – 1997. ومن طرائف تلك الفترة، اكتشافي أنّنا نعاني من الفوبيا نفسها، عندما ظهر علينا في مشغل الدمى صرصورٌ طيّار، والعياذ بالله، أذكر أّننا صرخنا بصوت واحد، وبقفزة واحدة طِرنا وهبطنا وسط بركة جنينة الصنائع الجافة، وانتظرنا ريثما يقضي كريم على الصرصور.

كانت ريما لا تزال تتابع دراستها الأكاديمية في كلية بيروت الجامعية التي أصبحت الجامعة اللبنانية الأميركية في ما بعد، وفي الكونسرفاتوار في الوقت ذاته باختصاص الغناء الشرقي. وكنت مواكبًا للتخرّجين: الأوّل، عبر تصميمي لسينوغرافيا مسرحية تخرّجها من الجامعة "هل كان العشاء دسمًا أيتها الأخت الطيبة؟" للكاتب رياض عصمت. وكان التعاون بيننا بالمراسلة عبر الفاكس، وما زلت أحتفظ بمراسلات الفاكس التي تحتوي التصاميم، بالإضافة إلى بعض الصور من العرض.

والثاني، من خلال مرافقتي لها إلى الامتحان النهائي في الغناء. أبَت وقتها أن أرافقها إلى الاستماع في مبنى الكونسرفاتوار في سنّ الفيل، فانتظرتها في السيارة لأكثر من ساعة، وكان الطقس صيفيّاً حارّاً. وعادت ريما مبتسمة، سعيدة بنيلها درجة البكالوريا الموسيقية من المعهد الموسيقي العالي (الكونسرفاتوار)، التي لا ينالها في لبنان إلا أصحاب الجَلَد والنفَس الطويل؛ لا ينالونها إلا بالصبر والعناد والمواظبة. وهذه من صفات ريما التي لم تقدّم يومًا تنازلات على حساب موهبتها وعلمها وثقافتها الموسيقية العميقة.


4

أقامت ريما حفلاتها الخاصة الأولى في مسرح المدينة الأول (شارع كليمنصو)، وأحبّتها نضال الأشقر وآمنت بهذه الموهبة الشابة. في العام 1998 تلقّت ريما اتصالًا من الست نضال، حيث تمنّت عليها المشاركة غناءً في حفلة موسيقية، قد يظهر للوهلة الأولى أنّها لا تشبه جوّها. حفلة يحييها تريو جاز من هولندا (Yuri Honing Trio) ضمن مهرجان للموسيقى في مسرح المدينة. أذكر تردُّد ريما في البداية، ثم قرارها الموافقة على المشاركة. كان قرارًا صائبًا، وكانت لهذه التجربة المميّزة الأثر الكبير في مسيرة ريما الفنية، هذه المسيرة التي تتميّز بالبحث الدؤوب عن الأصول والجذور، ليس فقط في الموسيقى والغناء العربيّين، بل في الموسيقى والغناء ككلّ، في الموسيقى كلغة عالمية لا حدود جغرافيّة لها. مسيرة أعطت لريما هوية فنّية متفرّدة، وربّت جمهورًا واسعًا، متنوّعًا ثقافيًّا، مكوّنًا من أجيال عديدة من محبّي الموسيقى الأصيلة، جمهورًا يمتدّ على رقعة جغرافيّة تنطلق من بيروت، ولا تنتهي عند حدود هولندا، بل تتعدّاها إلى ما بعد المحيط.

ولعلّ أكثر ما يميّز مسيرة ريما خشيش، هو ابتعادها عن الجمود في قوالب موسيقيّة، وإن كانت تبدو كلاسيكيّة صارمة أحيانًا، وموغلة في التجريب أحيانًا أخرى. مسيرة متحرّكة، قابلة للتطوير، وهذا ما يبدو جليًّا للمستمع المواكب لمسار أعمال ريما وحفلاتها منذ أول ألبوم لها، مشترك مع تريو الجاز Orient Express – 2001، وحتّى آخر ألبوم يا ليت – Ombre de Mon Amant – 2019. بَنَت ريما عمارتها الفنية على ركائز متينة، أصيلة، مترسّخة بجذورها الضاربة عميقًا في التراث، تنهل منه ولا تكتفي به. وأحلى وأطرف ما يميّز ريما على المسرح، عدا عفويّتها المعهودة، هو كيف ترسم وتلوّن الموسيقى بيدها اليسرى، وأحيانًا بالاثنتين، حين تغنّي.


5

قبل أن أختم هذا الحديث عن ريما، لا بدّ أن أذكر أحد أهمّ أسرار نجاحها برأيي: وجود ملاكَين حارسين لها، هما والداها فاطمة وكامل خشيش (الله يعطيهما الصحة وطول العمر)، الحاضران معها والداعمان لها دومًا في كلّ محطاتها، منذ ظهورها الأول في التلفزيون، حيث رافقها والدها عزفًا على القانون، حتى آخر حفلة لها. تراهما في كلّ حفلة أو مناسبة لريما واقفين بتواضع، بصمت، بابتسامة فخرٍ ورضى، يسلّمان بحرارة وحبّ على أصدقائها. ولا أنسى الملاك الثالث، وهو زوجها جاد، المهموم دائمًا بكافة تفاصيل حفلاتها.

وأخيرًا، أقول لريما: كانت مباركة تلك الساعة التي ظهرتِ فيها على باب صف الـ8ème C خريف العام 1983 في مدرسة مار الياس الجديدة. أنا مدين لكِ بما تيسّر لديّ من معرفة وثقافة متواضعتين في الموسيقى العربية. أعتزّ بصداقتي بكِ، وأنا على يقين بأنّني حتى ولو لم أعرفك منذ الطفولة، كنت سأتعرّف إليك في غير مناسبة، وكنّا حتمًا سنصبح أصدقاء لكلّ العمر، كما نحن الآن.

(*) مدونة نشرها المسرحي وليد دكروب في صفحته الفايسبوكية

العودة إلى الصفحة الرئيسية

تعليقات: