«فتاة على الطريق».. للبرازيلي اللبناني الأصل (إبل السقي) رضوان نصّار


تصدر قريباً عن "منشورات الجمل" مجموعة قصصية للروائي البرازيلي من أصل لبناني (إبل السقي)، رضوان نصّار بعنوان "فتاة على الطريق ونصوص أخرى"(*)، كتبها في مطلع الستينيات ولم ينشرها حتى العام 1994 في البرازيل...، وتضم القصص التالية "فتاة على الطريق"، تشكل نصف الكتاب، "اليوم فجراً"، "الرّحم الجافّ"، "هناك"، "عند الثالثة ظهراً" و"أيادٍ حريرية".

يقدم رضوان نصار قصصاً واقعية، وشاعرية، شديدة الحساسية.. في القصة التي تعطي للكتاب عنوانه، نتبع خطى فتاة حافية القدمين عبر المنطقة الريفية الفقيرة التي تعيش فيها، ونرى الأشياء والشخصيات التي تصادفها في طريقها، وغموض العالم وغيظه واللوحة المقزّزة لمجتمع عنيف وبائس. من خلال صفحات القصص الأخرى في هذا الكتاب، تتجول أشباح الرغبة - وغيابها - والحسرة والإحباط والوحدة، وكلها موضوعات تأتي بلغة مكثفة مختزلة.


ولد رضوان نصار في 1935 في البرازيل لمهاجرين لبنانيين هما جون نصار وشفيقة قسيس تزوجا في 1919 في إبل السقي في جنوب لبنان وهاجرا في 1920 للبرازيل ليستقرا في بيندوراما، وهي بلدة صغيرة في ولاية ساو باولو. كان والده مسيحياً أرثوذكسياً، ووالدته بروتستانتية، لكن الأولاد نشأوا على المذهب الكاثوليكي لتجنب التمييز في المعاملة.

ترعرع نصار وأخوته التسعة في قطعة أرض صغيرة حيث زرع والده أشجار البرتقال والكرز والبلينيا، وربّى الطيور والأرانب. كذلك اشتغلت والدته في تربية الدواجن، لكن اختصاصها كان الديكة الرومية. قال رضوان، "ذات يوم أعطاني أبي فرخي حبَش. كنتُ مسروراً بهما حدّ الجنون".

عندما كان نصار في السادسة عشرة، انتقل إلى العاصمة ساو باولو، وهناك درس اللغة والقانون، قبل أن يتحول إلى الفلسفة في جامعة ساو باولو. في 1967، أسس مع أربعة من أخوته الصحيفة اليسارية Jornal do Bairro التي ناهضت النظام العسكري في البرازيل... في العام 1973، ترك رضوان نصار عمله فيها. إذ وصل إلى طريق مسدود في علاقته مع أحد الشركاء المؤسسين، الذي كان أخاه الأكبر. كانت الصحيفة حتى ذلك الحين توزَّع مجاناً، ولم يتوصل الأخوة إلى الاتفاق بشأن مطالبة المشتركين بالدفع. غادر نصّار الجريدة وهو في السابعة والثلاثين، وأمضى سنة في شقته في ساو باولو، يعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم على كتاب، "باكياً طوال الوقت".

في العام 1974 نشر روايته "حراثة قديمة" لتلاقي احتفاء النقاد. نالت مرتبة أفضل عمل ضمن فئة الكتاب الأول، ضمن أرفع جوائز الأدب في البرازيل، وجائزة أخرى من الأكاديمية البرازيلية للآداب. في 1978، ظهرت رواية ثانية؛ كتب نصار المسودة الأولى من "كأس من الغضب" في 1970، حين كان يعيش في غرانخا فيانا، وهي ضاحية ريفية على أطراف المدينة. تلك الرواية بدورها استُقبلت بالابتهاج، ونالت جائزة جمعية نقاد الفنون في ساو باولو. "إنهما الكتابان اللذان تركا أثراً لا يمّحى"، كما قال أنطونيو فرناندو، الشاعر والناقد وصديق نصار، لصحافي في مجلة الـ (نيويوركر)، وأضاف، "إنهما كتابان صغيران، منحوتتان من صخر، كلّ شيء بالغ التكثيف فيهما").


رضوان نصار الذي أعلن في العام 1984 سأمه من الأدب والعزلة على غرار الكاتبين خوان رولفو وباتريك زوسكند، يقرر الكف عن الكتابة والتفرغ إلى العمل في مهنة أجداده؛ الفلاحة وتربية الماشية، أكّد أن الزراعة كانت مهنته الدائمة، في حين كانت الكتابة "مجرد نشاط آخر". بيد أن حياته في الزراعة لم تبدأ بسهولة، يقول "كانت عسيرة للغاية، والأرض في حال يرثى لها. بدأنا بزراعة الفاصولياء، هذه الفاصولياء المذهلة. ثم اعتمدنا على بعض مزارعي المنطقة، وأعطونا بعض النصائح في كيفية التعامل مع الصعوبات".

كانت سنة 1991 بداية نجاح المزرعة. وفي تلك الفترة أيضاً بدأت كتبه، التي أشاد بها النقاد لكن من دون أن تصل جمهوراً عريضاً، بتحقيق مبيعات كبيرة. (في 1997، تحولت "كأس من الغضب" إلى فيلم سينمائي). ولكن نصّار تخلى سنة 2011 عن ملكيّة أعماله التجارية لصالح كلية الزراعة في جامعة ساو كارلوس الفيدراليّة، ثمّ دخل في عزلة شبه تامّة. يتجرأ صحافي على السؤال، "لماذا توقفتَ عن الكتابة؟"... يصمت نصار طويلاً، ثم يشيح بأنظاره ويقول، "مَن يدري؟ أنا حقاً لا أدري. سرعان ما فاز بجائزة كامويش عن مجمل أعماله عام 2016... عندها قال "أعمالي كتاب ونصف!"، مندهشًا، لدى سماعه نبأ منحه الجائزة التي قالت لجنتها إن أعمال نصّار تتسم بميزتين رئيسيتين، هما لغته الاستثنائيّة، وقوّة نثره الشعريّة. ففقراته طويلة ومكثّفة، لا فواصل منطقيّة بين جملها المكتملة، تسعى عبر تكنيك التقديم والتأخير، وحركة الأنفاس المتقطّعة التي تدور المقاطع اللفظيّة في أفلاكها، إلى خلخلة البنى اللغوية القاعديّة وكسر عمودها. أمّا نثره فهو متوتّر وعارم في النقطة المترنّحة دومًا على تخوم الشعر.

ولم تتوقف اللجنة عند هاتين الميزتين فحسب، بل أكّدت، كذلك، قدرته البارعة في الكشف عبر عوالمه السرديّة عن تعقيدات العلاقات الإنسانويّة بطرائق ليست في متناول أساليب الخطاب الأخرى على نحو يسير. كشف يتناول المحرّمات، فيقضّ المضاجع ويصيب المرء بالضيّق، عبر استخدام عنيف للغة تكون ليونتها مدموغة في مدوّنات خطابيّة مختلفة تجنح إلى الكثافة على حساب الطول.

في العام 2016 أيضاً، ظهر لأول مرة اسم نصّار من بين المرشحين لجائزة "مان بوكر" البريطانية، منافسًا التركي أورهان باموق. عدا ذلك، ان نصّار يعارض، لسنوات طويلة، حتى ترجمة أعماله إلى لغات أخرى.


مقطع من "فتاة على الطريق"

تمشي الفتاة على مهلٍ، حافية القدمين، في منتصف الشارع، قادمة من المنزل. تحرّك، أحياناً، رأسها بشكل سريع لإفزاع الدجاجات التي تنقر الأعشاب النابتة بين حجر المجاري. تلبس فستاناً منزليّ الصنع قد تمّت حياكته، على الأرجح، من قطعتي قماش، مُتّخذاً شكل أنبوب ساتراً جسدها النحيف؛ أمّا التنّورة فمقدودة من قماش سميك باهت اللّون، في حين بلوزة الفستان من القطن المزركش بالساتان، أسفله أسود لامع، وتعلوه شعلة كبيرة ملتهبة من الألوان الزاهية، لدرجة أنّه لا يظهر فوق صدر الفتاة الناعم سوى قطعة من ورقة شجرة استوائية. لا بدّ وأنها تنام وتستيقظ كلّ يوم بالضفائر المجعدة نفسها. إحدى الضفائر تلك رثّة بأكملها، مشدودة بمشبكين يكاد أحدهما يبتلع الآخر؛ أمّا الضفيرة الأخرى فمربوطة بشكل سيّء، من الأعلى، برباط قذر ينزل على جبينها مثل الزهرة الذابلة. تمشي لاعقة خيوط المانغو اللزجة اللاصقة بالحلقة الصفراء حول فمها، وتنسى الفتاة، للحظات، شواغل الشارع الأخرى وهي تقترب من صخب قليل أمام طاحونة الأرزّ: يوجد هناك ثلاثة فتيان يتهيّؤون للخروج من باب مستودع التخزين الكبير، يسحب كلّ واحد منهم كيساً من التبن.

"لم يحمل كينزينيو سوى كيسين حتّى الآن" يقول أحد الفتيان متذمّراً.

"ولكنّه سيعيرك الزيّ الذي كان يستخدمه عندما كان منتمياً للكشّافة" يقول فتى آخر.

"وأين المشكلة؟ سوف تستعير أختي، لينا، لباس بايانا وصندل هافايانا، ولكن أنا قد حملتُ ستّة أكياس وهذا هو الكيس السابع...".

تشعرالفتاة بالغبطة وهي تتابع سرّاً ذلك الشجار، تحدوها حماسة لذيذة مخبّأة خلف ذلك النقاش.

"أعتقد أنّه من الأفضل أن تتوقّف عن الشكوى" يقول فتى ثالث.

يمشون حفاة، من دون قمصان، أجسادهم منحنية، يسحبون الأكياس من إحدى الزوايا كما لو أنّهم يجرّونها من آذانها. أمّا التبن فإنه يتراجع أكثر فأكثر إلى عمق الكيس مكوّناً بطناً ضخماً كلّما اشتدّت عمليّة السحب. وعند مرورهم بأرضية قذرة يرى أحد الفتيان الفتاة جالسة تنظر إليهم من تحت بطن حصان مقوّس، لجامه مربوط بإحدى حلقات مرابط الخيول الصلبة. يتوقّف الفتيان الثلاثة.

"عرض السيرك سيكون هذا اليوم في منزل دينيو" يصرخ أحدهم منحنياً ليرى عينيْ الفتاة من تحت بطن الحصان. تلمح الفتاة خلفية حاكورة مظلمة فيها دائرة كبيرة من تبن الأرزّ الرقيق، وشموعاً مضاءة في طرف الأوتاد، وسترات واقية، وصبية تلمع عيونهم فانتازيا.


(*) ترجمها إلى العربية عبد الجليل العربي

أكّد أن الزراعة كانت مهنته الدائمة، في حين كانت الكتابة مجرد نشاط آخر
أكّد أن الزراعة كانت مهنته الدائمة، في حين كانت الكتابة مجرد نشاط آخر


تعليقات: