د. يوسف غزاوي في كتابه «محطّات تشكيليّة» قيمة فنيّة وفكريّة


كما عوّدنا الفنان التشكيليّ والباحث البروفيسور يوسف غزاوي عبر كتاباته في الفنون التشكيليّة (كتب وأبحاث ومقالات) إلى جانب عطائه العمليّ من خلال لوحاته ومعارضه، ها هو يطلّ علينا بمؤلّفه الرابع، من ضمن كتاباته المتخصّصة، تحت عنوان «محطّات تشكيليّة - فنون حديثة ومعاصرة» من منشورات الجامعة اللبنانيّة. جاء الكتاب في مئتين وأربع وعشرين صفحة (224) ملوّنة غنيّة بالصور، مرفقة بإخراج جيّد وجميل.

صحيح أنّنا تأخّرنا في الكتابة عن هذا المؤلَّف لأسباب لا تبتعد عن جوّ البلد الغارق في مأساته وبؤسه، لكن «أن تأتي متأخّراً خير من ألّا تأتي أبداً».

يمكننا اعتبار هذا الكتاب هديّة قيّمة لمكتبتنا العربيّة وللمهتمّين بالفنّ التشكيليّ من فنانين وباحثين ومختصّين ومثقّفين، نظراً لما يحتويه من معلومات ودراسات منوّعة وغنّيّة.

نشير هنا إلى أنّ هذا الكتاب هو الوحيد الذي قامت الجامعة اللبنانيّة بطباعته على نفقتها الخاصّة بعد أن أوقفت طباعة مؤلفات أخرى بسبب الشحّ الماليّ الذي تعاني منه موازنتها، ممّا حرمنا، وسيحرمنا لاحقاً من العطاءات الفكريّة لأساتذة مرموقين يساهمون في رفد الحركة الفكريّة بالذخيرة المطلوبة للتطوّر، ولا سيّما أنّ ما تتمّ طباعته يخضع لتمحيص ودراسة لجان متخصّصة. وهنا تأتي أهمّيّة هذا المؤلَّف.

يتناول الكتاب عدّة محاور (محطّات) بالبحث والدراسة، تدور حول فنون الحداثة وما بعد الحداثة والمعاصرة، كما عوّدنا الباحث، حيث يندر وجود مثيلاتها في الكتب العربيّة المتخصّصة من خلال عمقها ودلالاتها عبر التعريف على الفنون الغربيّة واتجاهاتها وإرهاصاتها.. محتوى الكتاب عبارة عن محاضرات وأبحاث ودراسات قام بها البروفيسور غزاوي في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة وفي كلّيّة الفنون الجميلة والعمارة (1).

المحطّة الأولى تبحر في فن الفيتراي (الزجاج المعشّق) الذي عرفه الغرب عبر عصوره، ولمّا يزل يزاوله. هو فن الكنائس (الكاتدرائيّات) بالدرجة الأولى، قبل أن ينتقل إلى المنازل والمؤسّسات وأماكن أخرى.

ما يلفت الانتباه في هذا البحث أنّ الباحث غزاوي قد كشف أنّ أولى أعمال هذا الفن ظهرت في سوريا في القرن السابع الميلاديّ، وليس في روسيا في القرن الحادي عشر، كما هو متداول ومتعارف عليه في الكتابات الغربيّة. هذا الاكتشاف اعترف به الباحث الفرنسيّ «جون لافون» في أحد كتبه حول فن الفيتراي.

يبدأ غزاوي بحثه بالتعريف بهذا الفنّ وبداياته لينتقل إلى أصوله وخصائه وتقنيّاته، بدءاً من الماكيت وصولاً إلى تركيب الألواح الزجاجيّة في أمكنتها المكرّسة لها، والتي تكون عادة في أماكن مرتفعة من الكنيسة وبجدران مبنيّة بالحجارة الصخريّة. ثم يتابع جولته بالإطلالة على عصور هذا الفنّ، بدءاً من العصور الوسطى وصولاً إلى القرن الثامن عشر. ثمّ وقفة مع كاتدرائيّة شارتر الفرنسيّة الشهيرة، التي تُعتبر أهمّ الكاتدرائيّات الغوطيّة الكبيرة، والتي تحتوي على أكبر كمّيّة من زجاجيّات الفيتراي في العالم الغربيّ.

العنوان الثاني، أو المحطّة الثانية، في الكتاب كان للحداثة وما بعد الحداثة، اللتين كتب عنهما غزاوي أكثر من مرّة، كمحور حضن كتاباته الفنّيّة، وهذا ما يُميّزها عن غيرها من الكتابات، إذا لم ننسَ المعاصرة كإضافة عليها.

المحطّة الثالثة كانت مع الفنّ المفهوميّ، الذي يقوم على الفكرة ونبذ كلّ الفنون السابقة عليه؛ هو ثورة فكريّة وفنّيّة بإشكاليّاتها الكبيرة المحيّرة. تناول الباحث أعمال أهمّ الفنانين في هذا المجال ورؤيتهم وفلسفتهم وأقوالهم. يليه الـ«منيمال آرت»، أو «الفنّ الاختصاريّ»، كأحد فنون المفهوم. ثمّ «ما بعد المنيمال آرت» الذي يُعدّ نقضاً أو إضافة لسابقه. تلي ذلك محطّة ملفتة بعنوانها «الصراع الفنّي التشكيليّ الأميركيّ - الأوروبيّ» حيث ساحة هذا الصراع فنّيّة، وليست عسكريّة، كما تدلّ عليه هذه الكلمة، عبر مدرستين فرنسيّتين، «نيس» و«حامل - مسطّح»، كنموذجين. تأتي بعدها مدرسة، أو تيّار «الواقعيّة الجديدة» بنسختها الفرنسيّة وامتداد الحركة الفنّية من باريس إلى جنوب فرنسا عبر هذا التيّار. وإطلالة على تجربة الفنان «كلود فيالا» أحد فناني حركة «حامل مسطّح» وقراءة في أعماله. و«الواقعيّة الجديدة» مع الفنان الألمانيّ «لوسيان فرويد» ووجوهه وأجساده العارية المأزومة والقاسية. ثمّ أشخاص الفنان الإنكليزيّ «فراسيس بيكون» بدراميّتها وعنفها ومأساويّتها الوجوديّة. بيكون الذي ترك بصمته على أعمال عدد كبير من فناني هذا العصر في العالم، ولمّا تزل. ثمّ محطّة مع «الذاتيّة الجديدة» من خلال أعمال الفنان الانكليزيّ «ديفد هوكني». يليه التعبيريّ الألمانيّ «جورج بازليتز» الذي قلب وجوه أشخاصه. ثمّ محطّة مع حركة «الفلوكسوس» الجنونيّة العابثة الساخرة المتفلّتة من كلّ المعايير، وأبرز فنانيها: نام جون بيك، جون كيج، وغيرهما. ثمّ محطّة مع فنّ الجسد وفن الأداء عبر انتهاك محرّمات الجسد الإنسانيّ. وهناك أيضًا فن الغرافيتيّ (الرسم على الجدران في الشوارع والساحات والأمكنة الخارجيّة) وما يستتبعه من ملاحقات واعتقالات.. ولم ينسَ الباحث ذكر بعض البلاد العربيّة ولبنان من بعض الشواهد.

المحطّة ما قبل الأخيرة تناولت فن الـ«نت آرت» المعاصر، أو فن الكومبيوتر.

ينهي الباحث كتابه بدراسة قيّمة ومُلفتة حول الهويّة الفنّيّة بين الفرديّ والجماعيّ، والتي ينفي فيها وجود ما يُسمّى بالهويّة الجماعيّة في وقتنا الحاليّ، بل ثمّة هويّة فرديّة ليس أكثر,, يُعطي شواهد كثيرة، ويذكر أسماء فنانين لبنانيّين كأمثلة, وفي نهاية الدراسة والكتاب نماذج لأعمال فنانين لبنانيّين عبر أجيال مختلفة.

ما يلفت الانتباه أيضاً في الكتاب هو الإهداء المقدّم، عبر كل محطّة أو دراسة، إلى فنانين تشكيليّين لبنانيّين فقدهم هذا الوطن، وأعطوا من روحهم وقلبهم وتعبهم من جمال لهذا الوطن المعذّب، كما يقول الباحث على صفحته الـ«فايسبوك».

هو كتاب قيّم وشيّق، لا يشبه الكتب الأخرى بمحتواه ومادّته أو بطريقة مقاربته للأعمال الفنّيّة نظراً لغلبة البحث العلميّ عليه. إنّ اقتناءه في مكتبتنا العربيّة هو غنًى لها ولنا وللفنّ والثقافة.

أستاذ أكاديميّ

تعليقات: