طرابلس: هل من خريطة سياسيّة جديدة للمدينة؟

لا شيء يعلو فوق صوت الأذان في أحياء طرابلس. ولا يتحرك في شوارع هذه المدينة، الفارغة من أهلها على غير عادتها، إلا الرايات السوداء التي وزعت على عجل في مختلف زوايا المدينة، وفوق شرفات المنازل، منتصرة للخيار الإسلامي.

يتكرر المشهد نفسه في أزقة الزاهرية، القبة، وأبي سمرا. تغلق المحال أبوابها، وتبدو الأسواق مهجورة إلا من بعض باعة العصير، الملتحين، الذين يتوزعون على مفاصل الشوارع. يجمع أهل المدينة على القول بسرعة إن حال المدينة ليست بخير. وفي السرعة نفسها، يتبدد وضوحهم عند السؤال عن حال إسلاميي المدينة، فينقسمون في تقويمهم لحركة هؤلاء الحالية، رافضين تصنيفهم بين سلفيين معتدلين، سلفيين تكفيريين، ومجرد إسلاميين متدينين. ويجمعون على القول إن الإسلاميين أبناء هذه المدينة، ولدوا ونضجوا والتزموا أمام عيون كل الناس.

عدة مواقف تعصف بالساحة الإسلامية الطرابلسية. قياديّو تيار المستقبل وقواعده يؤكدون علانية دعم الجيش ونبذ التعصب ورفض الإسراف في تبنّي مظاهر التديّن، فيما يحتضنون الإسلاميين من تحت الطاولة. ويتحدثون عن نقاط مشتركة كثيرة تجمعهم بهم.

أما أنصار المعارضة، وفي مقدمهم الرئيس عمر كرامي، فينتظرون يوم الجمعة المقبل، موعد المهرجان الذي اعتاد كرامي إحياءه كل سنة في ذكرى استشهاد الرئيس رشيد كرامي، ليحددوا موقفهم بوضوح. ويتحدث نائب رئيس حزب التحرر العربي خلدون الشريف عن تقاطع مصالح بين السلفيين وآل الحريري، «يقوم على محاربة الطائفة الشيعية». وهو ما انقطع اليوم مع تعرّض السلفيين للجيش، ما اضطرّ مجموعة الحريري السياسية، بحسب الشريف، «إلى التنكر لهؤلاء، والدعوة العلنية للقضاء عليهم. وخسر فريق الحريري قسماً كبيراً من الفلسطينيين كان يبدي تعاطفاً ملحوظاً مع تيار المستقبل الذي يسعى خلال هذه الفترة للمحافظة على وجوده في بلدات الشمال السنية عبر ضغط قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات». ويحذر الشريف من أن «خوف الحريري على قواعده يمنع القوى الأمنية من إنجاز المداهمات الضرورية للمتطرفين المختبئين في المناطق الشعبية، فيكتفي هؤلاء بالمداهمات في بعض الشوارع الراقية».

وفي المقابل، يزداد تماسك قوى المعارضة السنيّة بحسب الشريف، وخصوصاً بعدما ثبت بُعد نظرها في التحذير من عدم الاهتمام بمصالح الناس وتقديم الخدمات الضرورية للأحياء الفقيرة والإصرار على اعتماد استراتيجية الرشوة. واستفادت المعارضة من سقوط صدقية الموالاة السياسية والأمنية، وخصوصاً مع استمرار بعض أفراد القوى الأمنية في التعاطي مع الأهالي كفرق موت ميليشياوية لا كرجال أمن. وينهي بالتأكيد أن الوقت ليس لمصلحة المستقبل، وبقاء الوضع على حاله سيسرّع الانفجار الشعبي الذي سيبنى على سؤال لم يجب المستقبليون عنه بعد يتعلق بسبب السماح لهذه المجموعات بالتوسع والتسلح.

أمّا الجماعة الإسلامية، فغابت عن المشهد الطرابلسي خلال الأسبوع الماضي، واختفى شبانها الذين كانوا يملأون الأحياء لأسباب بقيت مجهولة. وأوضح الأمين العام السابق للجماعة الإسلامية أسعد هرموش أن موقفهم حازم من حيث رفض الاعتداء على الجيش واعتبار هذا الأمر سلبياً على الصعيد الداخلي، وعلى مستوى عمل الجيش والشعب والمقاومة، إضافة إلى تعارضه مع استراتيجيا العمل الإسلامي الكبير في هذا البلد. ويؤكد هرموش سيرهم في هذا الملف خلف دار الفتوى، مشيراً إلى عدم وجود أية امتدادات شمالية حقيقية لفتح الإسلام والمنظمات التي تشبهها، على رغم ظهور بعض الحالات الصغيرة القائمة أساساً على نمط تفكير حورب طوال السنوات الماضية ومُنع من التفشّي في المجتمع.

وبموازاة كلام القادة، كلام آخر يقوله الناس بين جامع حمزة في القبّة ومعهد الهداية في أبو سمرا. المسافة طويلة، لكن بؤساً واحداً وقلقاً وحيرةً تفرض نفسها بالقوة على وجوه الرجال والنساء والأطفال. وتجتاح هذه الأحياء موضة جديدة تتمثل في الألقاب التي تُعطى للملتزمين الذين لا يكاد يخلو منزل في هذه الأزقة من وجودهم. وسرعان ما يتضح لدى الكلام معهم، الحذر في الإجابة، التدقيق في هوية السائل، وانتقاء المفردات بعناية فائقة.

«هذا دين لله لا دين أشخاص، يأخذون من يريدون، قمعنا السوريون ثلاثين سنة ولم ينجحوا في الحد من تمددنا»، يقول أحد الحجاج. ويوضح زميله أنهم والجيش أهل، لكن ثمة مظلومين لا يجوز إبقاؤهم «مأسورين». ويتخوّف باسم أهل القبّة من أن تلفّق لشبان المنطقة الذين اعتُقلوا قبل شهرين تقريباً تهم مزورة لها علاقة بفتح الإسلام. وفي السياق نفسه، يستنكر أحد شقيقي المعتقل محمود الأسعد المعروف بـ«أبو جعفر» اتهام كل من يرخي ذقنه بالإرهاب، مستغرباً الحملة التي يشنّها الشيعة والنصارى على خلفية إطلاق موقوفي الضنية، كاشفاً عن تحرك قريب للأهالي يطالب بإطلاق أبنائهم.

ويوضح شيخ أحد المساجد السلفية بين الحيّين أن منطق الإسلام يفرض تعاطفاً إنسانياً مع المصابين، حتى لو كانوا أشراراً. وتدعو العقلانية إلى عدم تضييع الجهود التي تبذل في صراع لا يعود على المسلمين بخير. ويأسف لصرف هذا الجهد كله والمال في غير محلهما. ويؤكد الشيخ استياء المسلمين من إذلال إخوتهم عند الحواجز، ومعاملتهم كما يفعل اليهود بالفلسطينيين. ويلفت إلى قرارهم عدم التحرك حتى تتضح الرؤية، ولعدم إرباك القوى الأمنية أكثر. ويكشف في هذا السياق عن تدخّل نواب تيار المستقبل لمنع حدوث اعتقالات جديدة، وإطلاق عدد من الذين أُوقفوا أخيراً ولم تثبت إدانتهم، كبادرة حسن نيّة من قبل تيار المستقبل.

وينهي الشيخ كلامه بالكشف عن تلاقيهم مع تيار المستقبل في عدة أهداف، أبرزها رفع الغبن عن الطائفة السنيّة، واستعادة حصة الإسلام في مؤسسات الدولة بعدما احتلها الشيعة والنصارى.

كلام يجد له في طرابلس آذاناً صاغية كثيرة.

تعليقات: