وهم العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين: مليون سبب لفشلها

أركان السلطة تريد تعليق شماعة فشلها على ملف اللجوء السوري (المدن)
أركان السلطة تريد تعليق شماعة فشلها على ملف اللجوء السوري (المدن)


يكثر الكلام مؤخراً في ملف اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية. فهناك من يريد لهم عودة طوعية وآمنة. ومن يخاطبهم بالنصح ليكونوا "حماة ثقافتهم وتاريخهم وحضارتهم" ويعيدوا وصل أجيالهم بوطنهم الأم. ومن يحملهم مسؤولية مضاعفة أزمات لبنان الاقتصادية، ويحث المجتمع الدولي على رفع عبئهم عنه. وبينهم من هو غاضب من مزاحمة اليد العاملة السورية في سوق العمل اللبناني. ومن يحاول تعميم الارتكابات الجرمية لبعضهم على مجتمع بأكمله، أو حتى التحذير من تفريخ الخلايا التكفيرية بتجمعاتهم، أو أقله تغلغل العصابات في أوساطهم. لتشكل كل هذه الأسباب أرضية تبرر وضع مصير اللاجئين على طاولة للبحث، وسط محاولة غير مسبوقة لتناتش مسؤولية استلام هذا الملف بين المعنيين، ولكن من دون أن يحاول أحدهم مقاربته من باب تبديد الهواجس والمخاوف التي يعبر عنها القسم الأكبر من هؤلاء اللاجئين، والتي تجعلهم حالياً غير جاهزين أو مستعدين لأي عودة طوعية، إلا إذا فرض عليهم الرحيل فرضاً.


تحريض عنصري

قد تختلف الأطراف السياسية فيما بينها على تشكيلة حكومة يفترض أن تكون "إنقاذية" فتؤجل ولادتها لأشهر وربما سنوات، وتتهرب من أي إجراء مالي يفقدها شعبيتها، وتمارس النكد السياسي إلى حد إدخال البلاد في فراغ دستوري أو حتى رئاسي، ولكنها جميعها تتفق هذه الأيام على تعليق شماعة فشلها على ملف اللجوء السوري.

وفي جميع الأحوال، لا يؤدي طرح موضوع العودة بطريقة مقاربته الأخيرة، سوى إلى رفع منسوب "الكراهية" تجاه اللاجئين في مختلف المجتمعات اللبنانية، وحتى في تلك التي رحبت بهم واستضافتهم ببداية لجوئهم. واضعة إياهم بمرمى تحريض عنصري غير مسبوق. في وقت يحاول الكثيرون أن يتعاموا عن أصول مشكلة لبنان، والتي تبدأ في سلطة لم تحسن بالتخطيط لمستقبل شعبها حتى تتفرغ لتضع رؤية واضحة لمصير المقيمين على أرضها، ما يجعل من هذه السلطة أسيرة لردود فعل انفعالية تغرق اللبنانيين كما السوريين بمستنقعات فشلها.

شهدنا ذلك عندما تمظهرت تداعيات سياسات الدعم غير المدروسة سواء للمحروقات أو لبعض أنواع المواد الغذائية أو حتى للخبز، بموجة تهريب واسعة، مع أنه لا تهريب إلى سوريا إذا لم يشارك فيه لبنانيون أيضاً. وعندما قصرت الوزارات المعنية بتأمين المخزون الاستراتيجي لشعبها والمقيمين في البلاد، من القمح والطحين، وجه الغضب إلى صفوف اللاجئين أمام الأفران، ليتهموا بتفريغ المخابز من كمياتهما المتراجعة في الأساس. وأمام تراجع مداخيل الشباب، وإنعدام فرص عملهم، راح البعض يتهم اللاجئين بمزاحمة اللبناني على سوق العمل. في حوادث السلب والسرقة التي تتكرر يومياً على الطرقات، راح البعض يبحث عن أسماء السوريين بين المرتكبين. وفي الخلافات الشخصية ضُخمت بعض ردود الفعل لتتحول موجة تحريض تعاقب المجتمعات عليها.. وصولاً حتى لتحميل اللاجئين شماعة الأضرار البيئية الناتجة عن قلة التخطيط والتنظيم وحتى هيبة الدولة، وكان آخرها ما حمّله تقرير صادر عن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني للاجئين من مسؤولية في تلوث نهر الليطاني.


برد الشتاء ولهيب الصيف

في محاولة لتفهم نظرتهم لمقاربة اللبنانيين لوجودهم "الثقيل" على أرضهم، يعتبر عدد من اللاجئين أن ما يتعرضون له من "تنمر" هو من تداعيات "القلة التي تولد النقار". ولكنهم يؤكدون بأنهم هم أيضاً معنيون بأوضاع البلد الاقتصادية. وإذا كان البعض لا يزال يعتبر بأن المساعدات التي يتلقاها اللاجئون من الجهات الداعمة تعزز من فرص صمودهم، وتؤمن لهم مقومات معيشة قد تكون أفضل أحياناً مما بات متوفراً للبنانيين، لا يحتاج هؤلاء لكثير من الشواهد ليؤكدوا حرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية في معظم المخيمات. وعليه، هم يدعون من يحسدون اللاجئين على المساعدات التي لا يزالون يتلقونها من مفوضية اللاجئين، ليأتوا ويجربوا الحياة في خيم لم يعد معظمها صالحاً لا ليقيهم من برد الشتاء ولا من لهيب الصيف. وليفكروا بجيل كامل من الأولاد الذين حرموا من المدرسة، حيث كبر الكثير منهم من دون أن يتعرف إلى حروف الأبجدية. وليختبروا ما يتعرض له أولادهم ونساؤهم من أنواع استغلال بسبب حاجة كل فرد منهم كي يعمل من أجل تأمين لقمة العيش.

هم طبعاً يوافقون على أن من سكنوا المخيمات لم يخلفوا قصوراً في سوريا. ولكنهم يؤكدون بأنهم تخلوا عن بيوت ولو متواضعة كي يحموا أولادهم من الموت. بعضهم هرب من النظام، وبعضهم من مجموعات تكفيرية ومعظمهم خوفاً من حرب عبثية على شعب يخشى العودة إلى كنف نظام يعرف تماماً قدرته على تصفيتهم انتقاماً، من دون أن يسمع عنهم ولو خبر. خصوصاً بعد أن خرج رأس هذا النظام "منتصراً" كما وصف الأمر البطريرك مار بشارة بطرس الراعي قبل أيام. فكيف يطلب من شعب خائف من نظامه أن يعود إلى أحضانه من دون ضمانات، لا بل يفاوض هذا النظام على عودتهم.


"امتيازات"!

كل ما قيل سابقاً، هو حصيلة استنتاجات من جولة ميدانية قامت بها "المدن" لاستطلاع موقف اللاجئين من طلب عودتهم الطوعية والآمنة. ولم يكن مفاجئاً أن نجد هؤلاء يعيشون معاناة اللبنانيين بتفاصيلها، مع تأكيدهم بأن مساعدات مفوضية اللاجئين قلصت إلى حجم بطاقة التغذية. مؤكدين في المقابل بأنها لا تتضمن مبالغ بالفريش دولار، إنما هي عبارة عن 500 ألف ليرة يتلقاها كل فرد في العائلة، ومجموع هذا المبلغ الذي تتلقاه عائلة من أربعة أشخاص بالكاد يسد أحيانا أجرة الأرض التي تقام عليها خيمهم مع كلفة الكهرباء، التي يؤكدون أن لا أحد يسدد فواتيرها عنهم. هذا في وقت عمد أصحاب الأراضي إلى رفع أجرتها تدريجياً، حيث باتت أجرة مساحة خيمة توازي أجرة منزل تحميه الحيطان والشبابيك والأبواب. وبمقابل تقليص عدد المستفيدين من بطاقة التغذية ألغيت البطاقة التموينية التي كان يتلقاها اللاجئون من الجهات المانحة، فيما أبلغوا مؤخراً بأنه بات عليهم أن يؤمنوا بأنفسهم كلفة المياه التي كانت تتوفر لهم سابقاً لدواعي النظافة والاستخدام اليومي.

إلا أن كل هذا الاقتطاع مما يراه البعض "امتيازات" لن يكون كافياً لإلزام اللاجئين حتى على بدء التفكير بالعودة. وليس ذلك موقفاً مطلقاً. فهم يقولون أنهم ربما يريدون العودة، ولكنهم في المقابل مستعدون لتعداد مئة سبب لكي لا يعودوا. فأقله في لبنان هم قادرون عن الإفصاح عن هذه الأسباب. وفي العينة التي اختارتها "المدن" بعضاً من إجاباتهم.


..إلا سوريا

والبداية مع رب عائلة يعمل في محطة لبيع الوقود في زحلة، وتحول أحد كاراجاتها إلى مكان لسكنه مع عائلته منذ لحقت به إلى لبنان، إثر إنطلاقة الحرب في سوريا. حاول الوالد طريقة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من دون أن ينجح. ليس لدى الرجل أي عداء مع النظام، ولكن ما يحول دون عودته كما يقول افتقاد الأمان، إلى الحال الاقتصادية التي لا تزال على رغم صعوبتها في لبنان أقل وطأة مما يعانيه المقيمون في سوريا.

لا يفكر هذا الوالد أبداً بالعودة إلى سوريا، وإذا كان لا بد من المغادرة يبدي استعداداً للذهاب إلى أي بلد في العالم باستثناء بلده. وهذه هي حال مجموعة سيدات التقين في مخيم لا تسكنه سوى النساء والأطفال في منطقة الفيضة على أطراف بلدة سعدنايل، بعد أن فقدت كل منهن شريكاً لها في ظروف مختلفة.

معظم أطفال هذا المخيم لا يذهبون إلى المدرسة. فيعمل بعضهم في الأرض كما النسوة. فيما مساعدات التغذية التي يتلقونها بالكاد تكفي أجرة الخيمة والكهرباء. وقد تبلغن مؤخراً بتخفيض كمية نقليات المياه التي سيمدون بها من قبل المؤسسات الراعية لأحوالهم. البؤس المسيطر على هذا المخيم مع ذلك لا يبدو سبباً كافياً لتفكر السيدات بالعودة، وتختزل حال لسانهن سيدة تقول بأنهن اعتدن الحال في لبنان وتكيفن معه لتدبير أمورهن، فيما لا أحد يمكنه أن يتكهن المصير الذي ينتظرهن في سوريا إذا عدن.

ولكن في هذا المخيم يغيب هاجس الشبان خصوصاً من الخدمة الإجبارية التي يعتبرها معظم اللاجئين الشباب في لبنان سبباً قاطعاً لرفض العودة. وهذه هي حال رب عائلة التقينا به أمام مركز مفوضية اللاجئين في زحلة، بينما كان يفاوض سائق "توك توك" على كلفة انتقاله إلى خيمته. يعيش الرجل وزوجته على أمل بأن يتم اختيار ملفهم من بين مئات الملفات للترحيل إلى أي بلد غربي. وإلى أن يتحقق ذلك، يؤكد بأن أي سبب لن يكون كافياً ليفكر بالعودة إلى سوريا. فإذا كان الوضع الاقتصادي هنا سيئاً فهو بالطبع ليس أسوأ من سوريا. وهنا على الأقل هو قادر على العمل لإضافة مدخوله الذي يتأمّن عبر مفوضية اللاجئين. وعندما نخبره بأن ما يفصح عنه يعتبر استغلالاً لوضعه في لبنان، ومزاحمة للبناني في سوق العمل، يسأل ما إذا كان هناك لبناني واحد راغب بالعمل كمياوم في ورشة زراعية، أو في البلدية أو حتى عتال. معتبراً أنه إذا رحل السوريون بالطريقة التي يتمناها بعض اللبنانيين، فلن تجدوا عاملاً ولو حتى بفرن لتصنيع الخبز. يأسف الرجل في المقابل للحال التي وصل إليها لبنان واللبنانيون، ولكنه يدعوهم للتفكير موضوعياً، "هل فعلاً اللاجئون هم المسؤولون عن هذه الأزمة".


التنكيل والضمانات

إذاً، قد يكون دافع اللاجئين للمغادرة هو في الاضطهاد الذي يمكن أن يتعرضوا له، ولهذا توجهت "المدن" إلى مخيم في بلدة الكرك، التي شهدت مؤخراً حادثة اقتتال ذهب ضحيتها شاب لبناني على يد لاجئ سوري. سكان هذا المخيم هجروه لساعات إثر المقتلة، لكن تطمينات أمنية جعلتهم يعودون إليه ولو بحذر. يؤكد هؤلاء أنهم خافوا من عمليات انتقامية إثر الحادث. ولكن حتى لو نكل بهم تحت وقع رد الفعل، فإن ذلك لم يكن سبباً كافياً يدفعهم للتفكير بالرحيل نهائيا إلى بلدهم. فمعظم السكان هنا هم من مناطق حماه التي لا تزال تعيش الحرب، وبالتالي حتى لو أرادوا العودة، فهم ما عادوا قادرين على التعرف إلى قراهم وبيوتهم التي تهدمت كلها تحت القصف.

إحدى السيدات تقول أن ما يبقيها في لبنان هو الحال الصحية لولديها اللذين يعانيان التلاسيميا، وهي قد نظمت أمورها لتحصل على علاج دائم لهما هنا في لبنان عبر منظمة أطباء بلا حدود. متسائلة عما ستفعله معهما إذا غادرت إلى سوريا.

معظم أطفال هذا المخيم لا يذهبون إلى المدارس. وبعضهم رفض تسجيله كون عمره لا يتناسب مع مستوى الصف الذي يفترض أن يلتحق به، ولم يتسن لأطفال العلم، سوى عبر ما تؤمنه جمعيات وإرساليات تحاول اختراق مجتمعاتهم بثقافاتها.

عندما نسألهم عن الأسباب التي تجعلهم يفكرون بالعودة يقولون أنهم يريدون الضمانات. ليبدأوا بتعدادها بدءاً من التعهد بأن لا يُسحب شبابهم إلى التجنيد الإجباري. وبأن لا يتم الاقتصاص من بعضهم بسبب مواقفهم السياسية. وبأنه سيتلقون المساعدات الكافية لإعادة إعمار منازلهم، وأنهم سيكونون قادرين على استرداد أراضيهم التي خسروها أو صودرت منهم. ويريدون الضمانات حتى بتأمين فرص العيش الدنيا، كتلك التي تتوفر لهم في لبنان حالياً، وبأن تحفظ حرياتهم وتحمى أرواحهم وخصوصاً من نظام يخوّن الجزء الذي لا يؤيده من شعبه. وهم بالتالي يطالبون بضمانات وبوضع هذا النظام تحت ضغوط تحرم عليه انتهاك كرامات شعبه.

والضمانات التي يتحدث عنها هؤلاء لا يمكن تقديمها من خلال معاداة المجتمع الدولي والجهات المانحة، التي لا يبدو أنها اقتنعت حتى الآن بإمكانية تحويل دعمها للاجئين إلى داخل سوريا لتشجعهم على العودة اليها.



تعليقات: