يوسف غزاوي: الثروة الإبداعيّة للأمم.. هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام؟


هذا العنوان، حمله العدد 496 من سلسلة عالم المعرفة، التي تصدرها دولة الكويت، يتضمّن سؤالاً إشكاليًّا حول دور الفنون في التنمية. عنوان ملفت، ولا سيّما في ظلّ ما تشهده الفنون من نظرة دونيّة في بعض دول العالم، وبالأخصّ، النامية منها، إن لم نقل المتخلّفة. الكتاب للمؤلّف «باتريك كاباندارتر»، ترجمة شاكر عبد الحميد. المؤلّف من أصول أفريقيّة (أوغنديّ)، وعازف موسيقيّ على الأورغ، ممّا شكّل إطاراً لاهتمامه بهذا الجانب من الإبداع الإنسانيّ. مع الإشارة إلى أنّ الكتاب هو أطروحته للدكتوراه، ممّا يعني الأهمّيّة التي يحملها هذا النصّ من النواحي كافة، المنهجيّة والتوثيقيّة والمرجعيّة، الخ، بخلاف الكتب العاديّة التي لا تقوم على منهج علميّ.

يُقدّم لنا هذا الكتاب، كما جاء في التعريف، منظوراً شاملاً، تفصيليًّا وممتازاً حول الفنون والثقافة ودورهما في الاقتصاد. هو يُركّز على الفنون على نحو خاصّ، فيًقدّم لنا الأمثلة والإحصائيّات التي يوضح من خلالها كيف يمكن للفنون أن تعزّز التطوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ للأمم، وهو يقول إنّ ذلك يكون من خلال التركيز على الإنسان، وعلى الثروة الإبداعيّة للأمم، ولا سيّما الدول الأكثر فقراً التي يُمكن للفنون أن تُثري حياة شعوبها عبر إنتاج سلع ثقافيّة قابلة للبيع يمكن للعالم كلّه أن يستفيد منها.. وفي الكتاب موضوعات كثيرة، أو محاور، حول دور الفنانين ودور المرأة والتعافي الاجتماعيّ والخيال الإبداعيّ، وموضوعات كثيرة غيرها، مع تطبيقات على أماكن كثيرة في العالم، شرقاً وغرباً..

تقول الباحثة «أمارتيا سن» في التقديم: «لعلّ الدور الأكبر للفنون، الذي يتفوّق على ما عداه من أدوار، هو أنّها تجعل حياتنا أكثر ثراءً وأكثر جمالاً.. لقد اشتكى يوليوس قيصر متذمّراً من كاسيوس بقوله إنّه لا يستمع إلى الموسيقى، كما أنّه نادراً ما يبتسم».. في إشارة إلى دور الفنون في تهذيب النفس وتجميلها. أمّا في التمهيد فيقول مؤلّف الكتاب إنّ الفنون، من العمارة حتى الرقص، ومن الرسم حتى الشعر، هي فنون يغذّي بعضها بعضاً.. ويقول إنّ الإبداع والابتكار يمكن أن يؤديا إلى خلق الوظيفة، كما يمكنهما أن يُسهما، عن طريق ذلك، في تحسين مستوى نوعيّة حياة الناس. والفن يساعد في إيجاد فرص العمل؛ فمحتوى العمل في الناتج الثقافيّ مضمون ومرتفع وعلى نحو نموذجيّ أكثر من قطاعات الإنتاج الأخرى. وهكذا يمكن للفنون، كما هو معروف على نحو واسع، أن تكون أحد أشكال كسر العزلة الإنسانيّة (بمعنى الدور الاجتماعيّ لها). يمكن للفنون، وبوسائل كثيرة، أن تسهم في التقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. الفنّ ليس من الكماليّات وليس نوعاً من الترف، هو يمثّل «إضافة» لطيفة ممتعة، فبعد أن تُشبع الحاجات الأساسيّة، تقدّم الفنون، غالباً، دعماً مطلوباً، تكون الحياة في أمسّ الحاجة إليه.. يقول فولتير: «إنّ الحياة تشبه حطام سفينة، لكنّنا ينبغي علينا ألّا ننسى أبداً أن نغنّي، في أثناء ركوبنا قوارب النجاة». لقد أثرت الحياة الفنّيّة حياة البشر، وأسهمت كذلك في ثروة الأمم. لكنّ هذا الأمر ظلّ طويلًا غير مرئيّ..

هناك تأثيرات مضاعفة للفنون وجوهريّة؛ يُعطي الباحث مثالاً عن المجلس البريطانيّ للفنون الذي يُقدّر أنّ كلّ جنيه استرلينيّ يُدفع أجراً، في قطاع الفنون والثقافة، ينتج عنه 2.1 جنيه إضافة للاقتصاد العام، وذلك من خلال جذب الزوّار وخلق الوظائف، وتطوير المهارات، ومن خلال كلّ تلك الأعمال التي تجذب الناس وتحافظ عليها، منتعشة متجدّدة.. إنّ التكنولوجيا لا تحيا من خلال علوم الحاسوب وحدها، ولكن من خلال اتصال العلوم بالفنون والعلوم الإنسانيّة.. هكذا يمكن للفنون أن تؤدّي إلى الإبداع، وهذا الإبداع نفسه يستحثّ، بدوره، على ظهور الابتكار في مجالات أخرى، كما أنّه تأتي غالباً أرباح أخرى غير متوقّعة..

أمّا علاقة الفنون بالابتكار، فيرى الباحث أنّ الأولى تقدّم لنا تحدّيات من أجل أن نصبح طلاباً أفضل للمعرفة، وعلاوة على ذلك، فإنّها تقودنا أيضاً للوصول إلى أحد المفاتيح الأساسيّة للاستبصار، ألا وهو، الفضول المعرفيّ. في سيرة شخصيّة أخرى كتبها «إيزاكسون» عن فنان عصر النهضة الإيطاليّ «ليوناردو دافنشي» متعدّد جوانب الثقافة، والمعرفة، وأيقونة فن التصوير الذي يشبه أينشتاين، بالسمة التي أرشدتهما إلى معرفة ما لم يكونا يعرفانه، ألا وهي «الفضول الشديد».

يعطي مثلاً عن منطقة «ناشفيل» الأميركيّة، التي يقدّر أنّ صناعة الموسيقى فيها قد أسهمت في توفير واستمرار أكثر من 65 ألف وظيفة، وفي دفع ما هو أكثر من 3.2 مليار دولار من الأجور سنويًّا. يُقال أنّ الاقتصاد الكلّيّ هناك يقوم على ربح ضخم يُقدّر بنحو 5.5 مليار دولار من هذه الصناعة. وقد اكتسبت هذه المدينة هذا اللقب ليس فقط بسبب تذوّقها ودعمها للفنون الجميلة، ولكن أيضاً بسبب تفانيها المشهور في خدمة التعليم العالي. إنّ ناشفيل اليوم هي موطن الكلّيّات والجامعات التي تنتمي إلى القرن العشرين.

وبالإضافة إلى الهويّة، فإنّ الفائدة الاجتماعيّة للفنون، أمر يمكن إدراكه على أنّه يمتدّ من التعليم والدبلوماسيّة الثقافيّة إلى الشمول الاجتماعيّ والتنفيس عمّا في الداخل. في جنوب أفريقيا، مثلاً، كانت الموسيقى لاعباً رئيساً كبيراً في تأجيج الحركة ضدّ الفصل العنصريّ.

يُشدّد الباحث على وجود «الثقة» في المجتمعات فـ«حينما تقود الثقة، التنمية تتبعها»، ليقول إنّ إحدى السمات المهمّة التي تساعد أمّة ما، أو مجتمعاً ما، على أن يزدهر اقتصاديًّا هي «الثقة». ثمّ يعود للتشديد على دور التعليم الذي هو «الأداة الأكثر قوّة التي يمكنك أن تستخدمها في تغيير العالم», حسب قول «نيلسون مانديلا». في البدء كانت هناك المعرفة، وكانت المعرفة هي الفنّ، وكان الفنّ هو المعرفة.

إنّ تعليم الفنون قد يساعد الطلاب على تطوير حبّ الاستطلاع المعرفيّ لديهم، وأن ينشئوا كذلك علاقات بين الفنون والموضوعات الأخرى الذي يدرسونها، وأن يتقبّلوا بسرور التعاون مع الآخرين.

إنّ تعليم الفنون يزوّد الاقتصاد بالطاقة المحرّكة. لقد طالب «مايك هوكابي»، الذي كان مرشّحاً للانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، وكان حاكماً لولاية كانساس في العام 2005 بسنّ قانون «يُلزم كلّ المدارس الابتدائيّة بأن تقدّم أربعين دقيقة كلّ أسبوع للموسيقى والفنون التشكيليّة، وبإلزام طلاب المدارس الثانويّة بأن يحصلوا على نصف عام على الأقلّ من الدراسة للفنون التشكيليّة والموسيقى والرقص، كشرط أساسيّ للتخرّج..

قالت «سوزان جونز» إنّ الفنانين يقدّمون الغذاء لأرواحنا، ولكن من الذي يُقدّم الغذاء للفنانين؟

إنّ الدول النامية لديها موارد ثقافيّة هائلة. إنّ الإبداعات الفنّيّة في تلك الدول، من الموسيقى إلى الأدب، إلى الرقص، إلى السينما، إلى الفنون البصريّة، هي إلى حدّ كبير إبداعات غير مستغلّة. أرفق الباحث رسماً يتناول دول العالم بترتيب عموديّ، جاء لبنان فيه بالمراتب الدنيا.

يشدّد على السياحة الثقافيّة ودورها في التنمية الحضريّة والإقليميّة، فيرى إنّ مؤسّسة ثقافيّة واحدة يمكنها أن تضطلع بذاتها، بالدور المثير للنموّ الاقتصاديّ الحضريّ، وهنا يستشهد بمتحف «جوجنهايم» الأسبانيّ بوصفه حالة نموذجيّة للاستثمار الثقافيّ الذي أنعش منطقة حضاريّة كاملة، كان قد أصابها الكساد الاقتصاديّ. هذا دون أن نذكر أهمّيّة ودور المتاحف الفرنسيّة في اجتذاب السائحين من دول العالم قاطبة، حيث أُعتبرت فرنسا الأولى بالسياحة عالميّا، وما ينتج عنه من ربح مادّيّ. لقد ابتكرت فرنسا أوّل وزارة للثقافة، ثمّ نشرت بعد ذلك المهرجانات على طول البلاد وعرضها، وذلك كي ترسل السائحين بعيداً تماماً من باريس. فصار هناك مهرجان للموسيقى في «أكس أون - بروفانس»، ومهرجان للسينما وفن الإعلان في «كان»، ومهرجان للتصوير الفوتوغرافيّ في «بربنيون» وآخر للرقص في «مونبلييه»، وهكذا.. يذكر الباحث دولتي «لاوس» و«هايتي» كجنّتين ثقافيّتين. ويذكر أهمّيّة الفنون في المساواة بين الجنسين، وكقوّة تحويليّة بالنسبة للحياة. الفنون تثري البشر والأماكن ويمكنها أن تُخرج الناس من أحزانهم النفسيّة. لن نستفيض أكثر في محتوى هذا الكتاب الشيّق الذي سلّط الضوء على دور الفنون في حياتنا الثقافيّة والاجتماعيّة والإبداعيّة والاقتصاديّة والنفسيّة، هذه الفنون التي عرفها الإنسان، بدءاً من الكهوف، واحتاجها في صراعه لتأمين لقمة العيش والاستمرار.

بعد كلّ ما استعرضناه نودّ أن نسأل أين نحن في لبنان من هذا كلّه؟

ما هو دور الثقافة والعلم والفنّ في رؤيتنا المتشعّبة؟

لا شيء!

يكفي أن نذكر ما قاله أحد المسؤولين الكبار في الدولة حول الجامعة اللبنانيّة على أنّها قطاع غير منتج! هذا القطاع الذي ينتج المفكّرين والفنانين والاقتصاديّين وشتّى الاختصاصات التي يحتاجها الوطن لنموّه. أمّا وزارة الثقافة ورعايتها للفنّ، فحدّث ولا حرج.. بلد لا يوجد فيه متحف رسميّ للفنون التشكيليّة، هو بلد خارج الحياة.

* د. يوسف غزاوي

تعليقات: