هيفاء نصّار: في سجل التاريخ والذاكرة

الكاتبة هيفاء نصّار بعمر الورود ونعومة الأضافر
الكاتبة هيفاء نصّار بعمر الورود ونعومة الأضافر


وسط عبق مدينة الخيام، كان جدي في محياه صلبا كصلابة الجبال. كان يبدو على وجهه سعادة مشوبة بالقلق وفرص لا تموت مع الزمن.

كان جدي لأمي مواطنا بسيطا يكتفي بعدم الشكوى والتذمر في الحضور والغياب. وكانت اوراق الورود والياسمين لا تكف عن التساقط على محياه. كان شاحب الوجه ولكنه كثير الابتسام مع عصبة اللؤلؤ تتألق على جبيه. كان امنا من اتساخ الكون من حوله بالانكفاء.

ترى من أين تأتي حرارة جسده والألم يوشك ان يزهق روحه؟.

كان صوته غير مكبوت في داخله وهو الاجش القوي ينفجر كنبع ماء حار في صمت الاستثناء.

يفتح عينيه لعله يرى العالم. يرفع أجفانه بصعوبة, ليرى السماء في لمحة خاطفة.

ها قد انقشعت الظلمة وتواصل الألم. وهو لا يستطيع ان يضم ذراعيه, او يحرك ساقيه, يفتح عينيه للمرة الثانية.

أخال جدي امكانه ان يصدر قرارات دون الحاجة لتوقيع أحد. تنساب أنامله وهو القائل كل طعام يصبح شهيا بعد التعب.

كان يحفل لصباحات يغرسون فيها الفل والياسمين ولا يغرسون فيها القتلى والشهداء.

تشتاق تحلقه حولك وقد امتلأ فمه بالاحاديث المنكسرة حينا والمنفعلة أحيانا بالكلمات عن الافراد والاشياء.

كان أشبه بنحلة جميلة تنتقل بين الورود وتوزع رحيقها على الاجساد دون ان تبالي بالتعرف على الوجوه.

عطفه وحنانه لا يوصف استنادا الى سيرته ومسيرته. نشوته مفعمة بالبهجة وحب الحياة ورأسه دوما مرتفع الى عنان السماء.

وكنت يومها صغيرة حالمة بداخل رأسها الصغير مسرحا يتربع فوق اهدابه نهارات عائمة.

كان جدي لأمي يومها ممن يعجز عن تعبئة بطاقة بريدية بلا أخطاء.

كان لا يستقل القطارات السريعة ولا السيارات.

كيف لي أن اتقاسم معك يا جدي لحظة من لحظات كدك وتعبك وقد تقاسمت معك في ثوان, عاودتني معها الذاكرة لأيام احتوت على دعوات و اذعان للذل والاضطهاد كنت اجهل حينها ان أعيادا اخرى في البلدة تستحق الاحتفاء.

- لايمكن ان نزرع كابتنا حتى لو كانت احزاننا متراكمة وهياكل امالنا تملأؤها الاخفاقات.

- لا يحسننا ان ندرك نزعاتنا بشكل منفرد وقبضات ايدينا متضامنة كما الاضواء وسط الظلمات.

- لا بد من اغفال القضايا البسيطة حتى ننجح في المعاناة.

- ان النزاهة الفكرية تتقدم على استغلال وحشي للحواس.

- ان الأقدم سابق في الوجود والرتبة, وان المتأخر متأخر في الوجود والرتبة.

- ان الخصوصية تثير الفضول أكثر من المهارة.

- كل طعام يصبح شهيا بعد التعب.

كلمات لم احتج يومها زمنا اتكلف فيه عناء القراءة كي أفهم محتواها وليست صدفة ان أكتبها اليوم ولكن تشبهها حتى الالتباس.

جدي ان هذا الوعي والحب المجاني الذي أحطني به أصابني في الصميم. ان هذه الاقوال موجودة في مكان ما في قاع الذاكرة. ان هذه الاقوال لا تليق الا بالأحلام فقد اثرت في

يا جدي تأثيرا موغلا تفحصت فيه و معه تاريخ اختام الطوابع وأغنيت نفسي وأشبعتها بسلال تطفح بالفاكهة التي تلمع في الظل كطوق حمامة.

سأعود حتما الى الكتابة عن البحر الذي تبخرت مياهه ولم يتبق منه الا الصدف والقواقع.

فأنت كنت ولا زلت في أعماق قلبي وستبقى فيه حيا ولو مر على رحيلك الزمن تلو الزمن.

* هيفاء نصّار - أوتاوا, كندا

تعليقات: