لبنان.. الانهيار الاقتصادي يتسلل للمؤسسات العامة ويكشف مدى الفساد فيها

تراجع قيمة الرواتب أثر على حوافز الذهاب للعمل مما تسبب في شلل المؤسسات العامة
تراجع قيمة الرواتب أثر على حوافز الذهاب للعمل مما تسبب في شلل المؤسسات العامة


الشلل يطال مختلف الوزارات والمستشفيات والمؤسسات الرسمية في لبنان بسبب انقطاع الكهرباء وشح كبير بالمستلزمات الأولية.


بيروت –

يتسلل الانهيار الاقتصادي التاريخي إلى مختلف القطاعات في لبنان، ولعل أكثرها خطورة -وفق كثيرين- امتداده إلى المؤسسات والإدارات العامة التابعة للدولة، لارتباطها مباشرة بمصالح اللبنانيين. ولم تبادر السلطات، منذ عقود، رغم كل المطالب والمشاريع المقترحة، إلى تحديث أنظمة مؤسستها ومكننتها، بما يتواءم مع تطورات العصر، لضمان استمراريتها بالأزمات كتلك الواقعة منذ نحو عامين.


عينات الشلل الكبير

منذ أسابيع، بدأت تتوالى الأخبار عن شلل يطال مختلف الوزارات والمستشفيات والمؤسسات الرسمية بسبب انقطاع الكهرباء والتقنين الذي تفرضه المولدات الخاصة، وبسبب شح كبير بالمستلزمات الأولية ومواد القرطاسية كالأوراق والحبر والطوابع، تُضاف إليها الإضرابات المتواصلة التي ينفذها الموظفون اعتراضا على خسارة أكثر من 95% من قدرتهم الشرائية، بعد أن لامس سعر صرف الدولار بالسوق السوداء 33 ألف ليرة.

وعلى سبيل بعض الأمثلة فقط، اضطرت قبل أيام أحد مراكز الأمن العام في بيروت إلى التوقف عن إصدار معاملاتها بسبب انقطاع الكهرباء، كما حدث الأمر سابقا في وزارة الخارجية بسبب انقطاع مادة المازوت اللازمة لتشغيل المولدات، وانسحب الأمر أيضا إلى مطار رفيق الحريري الدولي الذي توقفت فيه صناديق الجمارك عن العمل ساعات بسبب فقدان الأوراق وعبوات الحبر، كما تجري أمور مشابهة بمراكز وزارة المالية، مما أدى أحيانا لعرقلة معاملات استيفاء الرسوم.

وتجلت حساسية الوضع بالمستشفيات الحكومية، إذ أعلن فراس أبيض مدير مستشفى رفيق الحريري الجامعي الحكومي عن إيقاف أجهزة التكييف، ما عدا الأقسام الطبية، معللا الأمر بانقطاع الكهرباء لأكثر من 21 ساعة يوميا، مقابل عدم توفر الفيول ومشاكل بالسيولة، قائلا "المرضى لا يستطيعون تغطية الفروقات، ولا داعي لاستعمال المخيلة ولا للتهويل، نحن في جهنم حقا".

وفي آخر جلسة عقدها البرلمان في 30 يونيو/حزيران، تعطلت أجهزة التكييف داخل قصر الأونيسكو، كما يترقب لبنان الامتحانات الرسمية للشهادات المتوسطة والثانوية، تحت وطأة نقص حاد بعبوات الحبر والأوراق، والعجز عن تغطية بعض النفقات اللوجستية، وقلق الأساتذة من الوصول إلى مراكزهم نتيجة شح المحروقات.

وتنسحب هذه الحالة إلى المحاكم المدنية ومختلف قصور العدل، إذ أفاد أحد العاملين الرسميين فيها، الجزيرة نت، باستشراء الفوضى خلال دوامات العمل، مما يؤثر على إنجاز المعاملات الطارئة ومحاكمة الموقوفين، نتيجة شح كبير بالأوراق ونماذج مذكرات التوقيف، وأن الكُتاب يتسابقون للحصول عليها، وبعضهم يلجأ لشرائها على نفقته من خارج قصور العدل، لإنجاز مهماتهم المتراكمة.

ويعاني "المخاتير" من المشكلة عينها، وتحديدا بالأطراف والمناطق البعيدة عن العاصمة بيروت. وهنا، يشير جورج روفايل، للجزيرة نت، وهو مختار في رأس بعلبك، إلى أن الكميات المتبقية من الأوراق على شفير النفاد ولا تكفي للأشهر المقبلة، مما يعيق بالتالي إنجاز معاملات إخراجات القيد التي يحتاجها المواطنون.


سوء الإدارة

يوجد في لبنان 93 مؤسسة عامة، من ضمنها المستشفيات الحكومية، إلى جانب 22 وزارة رئيسية، ويعمل نحو 210 ألف عامل مدني، بين موظف ومتعاقد وأجير بالقطاع العام، وفقا لأرقام الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، والذي يربط النقص الحاد بالمستلزمات الأولية داخل المؤسسات الرسمية، لأن اللوازم المكتبية مثلا، وهي مستوردة، ترصد كلفتها موازنة الدولة بالليرة، وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات للدولار.

ويعتبر شمس الدين -في حديث للجزيرة نت- أن تراجع قيمة الرواتب التي أثرت على حوافز الذهاب إلى العمل تسبب أيضا شلل المؤسسات العامة "باستثناء بعض الادارات، حيث تسهل إمكانية الحصول على رشاوى تفوق أحيانا قيمة الرواتب نفسها".

في المقابل، يرى مراقبون أن الشلل في مرافق الدولة لا يرتبط بالانهيار الذي يصيب لبنان فحسب، وإنما بنظام المؤسسات وتركيبتها التي تشكو من البدائية والفساد وسيطرة القوى السياسية عليها.

وهنا، تقفز التساؤلات عن دور وزارة التنمية الإدارية التي جرى استحداثها منتصف التسعينيات، واسمها التقني "مكتب وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري" وكان بهدف إصلاح الإدارات العامة بعد الحرب الأهلية، وتتكون من 4 وحدات، هي: وحدة التطوير المؤسسي، الفريق الاستشاري، وحدة التعاون الفني وقسم الإدارة. فلماذا لم تلعب دورا استباقيا لمواجهة انهيار الإدارات العامة؟


مواجهة الانهيار

يتحدث وزير التنمية الإدارية السابق طارق متري عن تجربته بالوزارة عام 2005، وهو أكاديمي شغل مناصب عدة بعدد من الجامعات وكان ممثلا خاصا لأمين عام الأمم المتحدة في ليبيا بين عامي 2012 و2014، ويصفها بـ "التجربة المخيبة جدا".

ويعتبر متري أن شلل المؤسسات العامة مؤخرا ليس نتيجة الانهيار الاقتصادي والمالي فحسب، بل يعود لسوء إدارة الدولة لها، بعد أن "أُضعفت المؤسسات وجرى الفتك بها، لأسباب طائفية وحزبية، برزت منذ نشوء لبنان الكبير (1920) وبلغت مبلغا كبيرا آخر 10 سنوات".

ويرى أنه -في حديث للجزيرة نت- أن مؤسسات الدولة توجت موتها المعلن قبل توالي الانهيار منذ منتصف 2019، معتبرا أن فقدان المستلزمات الأساسية يعد فضيحة كبيرة ستعيق تلبية احتياجات المواطنين الأساسية.

ويعود متري إلى تجربته بوزارة التنمية الإدارية، لافتا إلى أنها تتمتع بفريق من العاملين من ذوي الكفاءة، معظمهم كانوا موظفين لدى الأمم المتحدة بلبنان، وأعدوا مشاريع لتحسين الإدارة والحوكمة، وكانت تحتاج لإجراءات بسيطة لتنفيذها، كاقتراحه استحداث الشباك الموحد بالوزارات مما يسمح للمواطنين بإنجاز معاملاتهم من شباك واحد يشغله موظف واحد.

لكن هذه المشاريع جرى التصدي لها، لأنها تقطع أرزاق من يصفهم الوزير السابق بـ "بعض الموظفين المرتشين" ولأنها "تفرض على موظفي الدولة كفاءة مختلفة تتضارب مع المحسوبيات الطائفية والسياسية التي تتحكم بالبلاد".

وقال متري إن تكوين نظام لبنان السياسي أعاق الإصلاح الإداري، وإن السلطات حولت وزارة التنمية الإدارية إلى خدمات إدارية وتنفيعية للوزارات الأخرى بدل أن تعمل على إصلاحها لتحديث المؤسسات وتنميتها.


الانهيار الحتمي

وفي السياق، يتطرق زياد الصائغ، خبير السياسات العامة، إلى مشاريع الحكومة الإلكترونية، التي سبق أن أقرها مجلس النواب، مع مشاريع أخرى لهيكلة وزارات وإدارات الدولة، وتحديث توصيفها الوظيفي، وقد صرفت مليارات الدولارات من دون تحقيق أهداف المكننة.

لذا، يعتبر الصائغ -في حديث للجزيرة نت- ألا مجال للمفاضلة بين مؤسسات أكثر عرضة للانهيار، بعد أن فضح حالة الترهل والشلل والفساد التي أصابت إدارات الدولة.

ويبدو أن انهيار المؤسسات الحيوية جعل انهيار مصالح اللبنانيين حتميا، وفق الصائغ، معتبرا أن انهيار المرفق العام يصب في خانة التأكيد على أن أركان المنظومة لم تكن يوما بمرمى بناء دولة المؤسسات، بل كانت بمرمى ترسيخ نفوذها السياسي والطائفي، فتسببت بحالة تدميرية لدولة القانون وعدم احترام الدستور.

ويُفند الصائغ 5 أزمات تتحكم بالإدارة العامة:

أولا، هيكلة تقليدية ومترهلة، لم يتم تحديثها منذ أكثر من 20 عاما، وجرى إجهاض كل محاولات تطوير الإدارات التي أضحت غنيمة للسلطة.

ثانيا، لأن هذه الإدارات لا تملك التوصيف الوظيفي الحديث، ولا تواكب تطورات العصر والتكنولوجيا، فقد أصيبت بحالة تخلف، غير مرتبطة بالكفاءات التي تختزنها، بل بتطويعها سياسيا وشل حركتها.

ثالثا، خلفت الإدارات العامة اقتصادًا رديفا وجزءا مؤسسا لحالة الفساد والرشوة وسلب المال العام على جميع الأصعدة.

رابعا، لأن مليارات الدولارات صرفت على الدراسات والاستشارات، من دون تنفيذها، مما تسبب بتواطؤ غير معلن بين المنظومة الحاكمة وبعض المؤسسات الدولية في محاولة الأخيرة للمساهمة بإنجاز إصلاح بنيوي، من دون أن تنجح.

خامسا، اكتفى أصحاب الكفاءات بحماية مصالحهم الوظيفية بالمؤسسات، بدل محاولة الإصلاح من الداخل تصديا لتطويع مرافق الدولة، فيما تعد الانتفاضة لإصلاح الإدارة داخليا جزءا أساسيا من الانتفاضة على كل من دمر لبنان.

ويبقى الحل، وفق الصائغ، بإعادة هيكلة شاملة للقطاع العام، كمدخل لإصلاح الدولة واستعادة مؤسستها، ووضع الإنتاجية والمساءلة والمحاسبة والكفاءة معايير أولوية لبناء الإدارات، لأن الانهيار الذي يصيب لبنان يضعه أمام لحظة تاريخية، لإعادة تكوين مؤسسات الدولة على قاعدة أن الشأن العام هو مجال لخدمة المواطنين وليس مجالا للسياسة النفعية والنفوذ والسلطة.

المصدر : الجزيرة

يوجد في لبنان 93 مؤسسة عامة من ضمنها المستشفيات الحكومية إلى جانب 22 وزارة رئيسية (الجزيرة)
يوجد في لبنان 93 مؤسسة عامة من ضمنها المستشفيات الحكومية إلى جانب 22 وزارة رئيسية (الجزيرة)


انهيار المؤسسات الحيوية جعل ضياع مصالح اللبنانيين حتميا (الجزيرة)
انهيار المؤسسات الحيوية جعل ضياع مصالح اللبنانيين حتميا (الجزيرة)


تعليقات: