إسرائيل تفتح ملف حرب الجبل.. وقصة انشقاق في الجيش الإسرائيلي

يوسف شروف درزي فلسطيني قاتل في لبنان الى جانب الحزب التقدمي
يوسف شروف درزي فلسطيني قاتل في لبنان الى جانب الحزب التقدمي


فتح الإعلام الاسرائيلي ملف الحرب اللبنانية، إنطلاقاً من قصة جندي درزي كان في الخدمة العسكرية الإلزامية في قوات الاحتلال الغازية في العام 1982، والتركيز على حقبة قاسية من حرب الجبل، في محاولة لاستهداف إعلامي لمصالحة الجبل في مطلع القرن الحالي برعاية البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير.

وهذه ليست المرة الأولى التي تلعب فيها اسرائيل على التناقضات اللبنانية، بهدف إحياء صراعات ماضية، وإذكاء ما تستطيعه من فتنة، ككيان لا يعيش الا على التناقضات. كما لا يمكن اعتبار فتح هذا الملف الآن، من دون أي إشارة إلى المصالحة، نبشاً في الأرشيف الذي غالباً ما تحتفظ به، وتعيد فتحه لدواعٍ دعائية. فما ورد من خلال قصة جندي مُلزم بالخدمة العسكرية الإجبارية، أرسلته الى لبنان فانشقّ للقتال مع طرف دون الجيش الذي ينتمي إليه، تحاول من خلاله تغيير وقائع متصلة بتلك الحقبة، وتنبش في الماضي، في لحظة لبنانية حساسة الآن، علماً أن ما ورد ليس جديداً، وهو موثق في مذكرات صحافيين أجانب وسياسيين لبنانيين عاشوا تلك الحقبة، وطووها في مرحلة ما بعد العام 2000.

وبدا أن القناة الاسرائيلية "كان"، أكثر ميلاً الى تغذية التوتر الطائفي اللبناني، حيث أضاءت على التواصل بين دروز لبنان وفلسطين، رغم الحدود الجيو-سياسية، (وهو أمر معلوم ومفهوم ولا يمكن أن يكون تطبيعياً) عبر فيلم وثائقي من سلسلة من الحلقات، بعنوان "جندي الجبل..وثيقتي أنا"، بدأت ببثه عبر قناتها الناطقة بالعربية.

بطل الفيلم الوثائقي، البالغة مدته نحو 16 دقيقة، هو يوسف شروف من طائفة الموحدين الدروز ويتحدر من بلدة حرفيش الجليلية في فلسطين المحتلة، حيث يروي قصته كجندي إسرائيلي كان مجبراً على الخدمة الاجبارية، وأرسل الى لبنان ضمن قوات الاحتلال في غزو العام 1982، ليجد نفسه أمام واقع "صعب" اضطره لخلع اللباس العسكري الإسرائيلي، في مقابل اختيار القتال الى جانب أبناء طائفته، في أيام لبنانية كانت فيها الطائفية سيدة الموقف، حسب تعبير القناة العبرية.


يستهل شروف حديثه عن تغير مخطط إسرائيل الأولي باجتياح لبنان لمسافة دخول لا تتجاوز الأربعين كيلو متراً، لإبعاد الفلسطينيين عن جنوب لبنان، ثم سرعان ما قررت القيادة العسكرية الإسرائيلية التقدم أكثر في العمق اللبناني في تموز العام 1982. لكن المفاجأة، من منظوره، كانت عند اقترابه أكثر من جبل لبنان حيث اكتشف وجود نسبة كبيرة من الدروز في المنطقة، قائلاً إنه "لم يكن يعرف أي شيء عن الجبل، سابقاً".


الدوافع؟

الموقف الذي بدأ بإستفزاز يوسف شروف حينها، هو تكدس سيارات دروز على جانبي الشارع، وفي داخلها أطفال ونساء وكبار السن، بسبب "منهجية عنصرية" من قبل جنود "الكتائب"، حسب وصفه، في مقابل سماحهم بمرور مركبات أخرى، وتلك كانت واحدة من سمات الحرب اللبنانية التي نبذها اللبنانيون وطوعوا صفحتها في مصالحة تاريخية عرفت بمصالحة الجبل، اثر زيارة البطريرك صفير الى الشوف، في ظل عودة المهجرين.

عندها، وجه شروف سؤالاً الى أحد عناصر "القوات اللبنانية" عن الدافع من وراء هذه الإجراءات، ليجيبه: "هم مخربون". ثم، رد شروف عليه بسؤال استنكاري آخر: "هل العجوز الثمانينية مخربة"؟!

ونوه شروف بأنه توسّط مرات عديدة لمرور سيارات الدروز، بحكم علاقة الحلف القائمة بين الجيش الإسرائيلي و"الكتائب" في ذلك الوقت.

لكن فهمه على مدار أكثر من شهر لواقع الأحداث وحقيقتها في جبل لبنان، دفعه إلى الإستنتاج بأن هناك مخططاً لتهجير الدروز من الجبل. وحاول شروف بذلك أن يبرر انضمامه لاحقاً، وتحديداً في شهر آب/أغسطس قبل ثلاثين عاماً، للحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط.

وهنا، يقول شروف: "اضطررت للتخلي عن السلاح الإسرائيلي، وأن استلم سلاحاً آخر من الحزب التقدمي الذي انضممت إليه، وكنت مستعداً لدخول مع كل أهلي، في معركة الدفاع عن الجبل؛ لأنها "معركة حسم.. إما أن نخرج من الجبل ونُشتَّت، وإما الثبات في بيوتنا".

الملاحظ أن شروف تحدث في الفيلم الوثائقي بطريقة "نحن"، اي أنه تعامل مع معركة دروز لبنان، كمعركة لكل الدروز، حتى لمن يقيمون في الداخل الفلسطيني، وأي مكان آخر.

واستذكر يوسف شروف "الحواجز الطيارة" في الطرق؛ كوسيلة للخطف المتبادل بين الدروز والكتائبيين، واصفاً إياها بـ"الفترة الصعبة"، في منطقة جبلية وشوارع غير آمنة، فضلاً عن معارك تضطرهم إلى عدم خلع الحذاء مدة اسبوع كامل، مع عدم القدرة على تخصيص الوقت اللازم لدفن القتلى، والعزاء بهم.


مجزرة الشحّار

وروى شروف خلفية مجزرة الشحّار (في جبل لبنان) في شهر شباط/فبراير العام 1984، وسقوطها في أيدي "الكتائب"، مبيناً أن المنطقة تشمل قرى مختلطة مثل كفر متى، دقون، عبيّ، وغيرها. واعتبر أن خروج المسلحين الدروز من المنطقة، بناء على اتفاق الفئات اللبنانية المختلفة مع الأمم المتحدة، بضرورة تهدئة الأوضاع في الجبل، وإنهاء الحرب الأهلية، كانت عاملاً أدى إلى المجزرة؛ ذلك أن "المسلحين الدروز خرجوا بموجب الإتفاق على أن الجيش اللبناني يتكفل بحماية المدنيين، وهو ما لم يحصل"، بحسب شروف.


"مهندس تحرير الشحار"؟

وبعد أكثر من شهر على مجزرة الشحار، حيث قتل الآلاف، وفق شروف، دخل الأخير إلى المنطقة مرتدياً الزي العسكري الإسرائيلي، برفقة درزي آخر من بلدة يركا الفلسطينية، وقد تحدث مع عناصر "الكتائب" المسيطرة على المنطقة، بلهجة عربية "ثقيلة"، لتغليب الإنطباع عنهما كجنديين اسرائيليين.

وأشار شروف إلى موقف استفزه بقوة، حينما رأى امرأة درزية تعد الخبز وتطعم جنود "الكتائب" منه، بينما هم يغنون ويمرحون، كاشفاً أن "فكرة اطلاق النار عليها قد راودته، إلا أنه امتنع عن ذلك، من أجل سلامته وزميله". ووصف المجزرة بـ"البشعة".

اللافت، أن شخصاً لبنانياً في موقع مسؤولية (ليس درزياً) كان مهندس مخطط "تحرير الشحار"، لكن شروف رفض ذِكر اسمه. فكانت النتيجة بتحرير المنطقة من "الكتائب" في غضون 16 ساعة. وهنا، يجدر السؤال عن مكانة شروف القتالية حينها، لدرجة تجعله يعلم من هو مهندس تحرير الشحار!


الإعتقال السوري

وبين المجزرة وتحرير الشحار، تعرض يوسف شروف لعملية اعتقال من قبل المخابرات السورية العام 1983. وهنا، سرد التفاصيل، بقوله إن شاباً اسمه مروان انضم للحزب التقدمي، وتردد إليهم كثيراً. وفي يوم ما، دعاه مروان لتناول القهوة في البيت، لتكون حلاوة الفنجان فخاً، إذ وضعت فيه مادة أصابت شروف بالنعاس والدوخة القوية، فأحاط به أربعة أشخاص آخرون، وتم وخزه بإبرة منوم، ووضعوه في صندوق السيارة الخلفي، متجهين إلى منطقة العبادية، ثم المسير على الأقدام، وصولاً إلى سيارات سورية كانت بانتظارهم قبالة رأس المتن. فأدرك شروف أنه مختطف لدى المخابرات السورية.

باستثناء ليلة الاعتقال الأولى في دمشق، فإن فترة تواجد شروف في الأسر السوري كانت مريحة؛ لأن معاملته كانت جيدة جداً. وعلل ذلك، بأن السوريين تأكدوا من أنه لم يشكل خطراً على مصالحهم في لبنان، رغم خدمته في الجيش الإسرائيلي. وأبقى الأمن السوري عليه، على أمل مبادلته بأسرى سوريين، لكن سرعان ما تم إطلاق سراحه، بعد اتصالات مع قيادات درزية، فعاد شروف، مرة أخرى، إلى جبل الدروز اللبناني العام 1984.


الملاحقات الإسرائيلية..والهروب

تحول شروف إلى مطارد من قبل الجيش الاسرائيلي بعد هروبه من السجن الاسرائيلي مرتين، عقب اعتقاله في الأراضي اللبنانية، وذلك رغبة منه بالعودة الى الجبل، قائلاً "إنه لم يرغب بترك الجبل، بينما لم تنته الحرب".. ثم اعتقل للمرة الثالثة، ففرّ أيضاً من السجن؛ هرباً من حكم يلاحقه بالسجن مدة 18 عاماً، حيث تمثلت التهمة التي وُجهت له باقترافه مجزرة في لبنان.

لكن تدخلات رجل الدين الدرزي الراحل أمين طريف، بموازاة وساطات أخرى، أسفرت عن تسوية قضية شروف، وذلك بتسليم نفسه للسلطات الإسرائيلية، مقابل خفض حكمه لسنتين.

خلاصة الفيلم الإسرائيلي، أنه يوفر سردية درزية حول ما جرى في حرب جبل لبنان، ومجزرة الشحّار، إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، على وقع تأجج الحرب الأهلية، ويضيء على علاقة مزعومة بين المليشيات المسيحية التي كانت مسلحة آنذاك، بالغزو الاسرائيلي. حاول الفيلم أن يبرئ دولة الاحتلال مما جرى من مجازر في سياق هذه الحرب الأهلية، بالرغم من تحالف الجيش الإسرائيلي و"الكتائب" وقتها.

كما يشتمل الفيلم على غايات إسرائيلية ضمنية لترسيخ التناحر الطائفي مجدداً في الساحة اللبنانية، وصولاً إلى تقسيمات جغرافية قائمة على الطائفية، انطلاقاً من فتح جروح الماضي. ويختم شروف كلامه بالقول إنه لم يكن هناك منتصر في الحرب الأهلية اللبنانية، فجميع الأطراف خاسرون.

تعليقات: