صامدون هنا... صامدون هنا...

الشاعر حسن عبدالله
الشاعر حسن عبدالله


حسن عبد الله ركب سرفـيس بيروت – الخيامْ

محمد ناصر الدين

«إنه وهم نسمة/ أكثر ممّا هو نسمة حقيقية/ ذلك الذي جعل أوراق الشجرة تتساقط/ حتى من دون أن تشعر أغصانها بذلك/ ومع أنني شاعر أشجار/ أكثر ممّا أنا شاعر أي شيء آخر/ فلم أتمكن من التعليق على المشهد/ فليحاول القارئ - مشكوراً - /أن يعتمد على نفسه هذه المرة/ ويسجّل التعليق الذي يريد/ فإذا لم يستطع/ فلهُ أن يقول/: ليس الهواء هو الذي أسقط أوراق الشجرة/ بل الموت…».

أسقط الموت أمس، في حركة هي أقرب إلى العدوان من شجر الجنوب اللبناني وبُركه وعصافيره، الشاعر حسن عبد الله (1943-2022) ابن بلدة الخيام الجنوبية بعد معاناة مع مرض عضال وبحث دؤوب عن مادة الأوكسجين في بلاد تسوق أهلها إلى الهلاك: رحل شاعر الدردارة الذي ضاع الحد الفاصل في عالمه بين سطر الشعر وما يكتبه المزارع (بعيداً عن قصائدنا سطر فجل).

إنها لغة الينابيع الأولى الأكثر التصاقاً بالصخر والتراب كتلك النقوش التي وجدت على جدران كهوف ليسكو وألتاميرا، منذ القصيدة الأولى «صيدا» في «أذكر أنني أحببت» (دار العودة - 1978) التي تبدأ بلغة حسية تشبه نقش القصيدة بالأظافر بتراب الأرض وطينها وفخارها: «حفروا في الأرض/ وجدوا امرأة تزني/ ملكاً ينفض عن خنجره الدم/ حفروا في الأرض/ وجدوا فخاراً/ أفكاراً/ لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحر/ حفروا في الأرض/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرض». يبدو المكان الجنوبي هو متن النص يزركش اللغة ويمسّها بمسّ من الطفولة والعبث ويشكل من عناصره معجماً يدل على ذاته بذاته وتعيش مفرداته عالمها الخاص مثل الأشجار والخضر والبقول تماماً كما في الطبيعة الجنوبية المطلّة على الأرض المحتلة التي استشرف عبد الله أفق الصراع مع العدو فيها في قصيدته «شيء من 1948». غرابة أجوائها تلتقي مع ما كتبه أخيراً في زاويته في ملحق «كلمات» حول الطائرات: «كانت إسرائيل لا تزال في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها... وكنّا نلعب في ملعب المدرسة الابتدائية، عندما شاهدنا ثلاث أفاعٍ عملاقة، وبأجسام دخانية في أعالي السماء العميقة الزُّرقة. كانت رؤوس الأفاعي تلمع تحت أشعة الشمس، وأجسامها الغيمية تستطيل لمئات الأمتار، لتتلاشى شيئاً فشيئاً عند أذنابها. لم نعرف أنّ هذه الكائنات العجيبة هي طائرات، فانتابتنا رعدة بدائية كتلك التي يمكن أن تكون قد اعترَت الإنسان الأوّل عندما رأى أوّل شهاب أو عاين انفجار أوّل بركان!». إلا أنه لا يلبث في نهاية القصيدة التي ينهيها بطريقة عجيبة أن يتنبأ بغلبة إرادة الحق على إرادة البطش والغزو: «في ذلك المكان من عينيه حيث يوجد الوطن/ وهكذا/ لم يسمح المقاومون للغزاة أن...».

شكّلت مجموعة «الدردارة» الصادرة عن «دار الفارابي» النقطة الأكثر توهجاً في شعر حسن عبد الله، فمن ينسى الأسطر الأولى التي يمكن اعتبارها من أجمل افتتاحيات قصيدة الحداثة اللبنانية خصوصاً والعربية عموماً: «الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/ يقيم دقيقتين على سفوح العين/ ثم يعود في سرفيس بيروتَ – الخيامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ يا أيها الماء التحيةُ/ أيها الماء الهديةُ/ أيها الماء السلامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ وعلى الذي في القبر/ واسقِ القبر/ واطلع وردةً بيضاءَ فوق القبر/ واجعلْ أيها الماء النهار مساحةً مزروعةً جَزَراً/ وطيٌر راكضٌ تحت الشتاء/ وانني في الصيف/ من عشرين عامْ/ أفعى على برّ الخيام/ وضفدعٌ في الماء/ والدَّرداره/ عينٌ رأت حُلُماً وفسَّرَه المزارعُ لوبياء». إنها لغة بعيدة عن التهويمات النفسية والخطابات الإيديولوجية، لكنّها تبني قوتها من غرابتها وإكزوتيكيتها، تجرّنا إليها جرّاً لننظر إليها بكامل دهشة حواسنا. لغة لم يجد الحزن مدخلاً إليها إلا عند مقتل حسن حمدان (مهدي عامل) الصديق المقرّب للشاعر عام 1987. نعثر في الديوان الثالث «راعي الضباب» (1999) على مهدي في أكثر من مكان: «فاطمة/ وغيابُ عميق لمهدي كأن مات/ أما أنا/ فيقول الطبيب.../ قال لي/ قال لي/ بعدما جسّ صدري/ وحدّق في سقف حلقي/ وأصغى إلى وصلة من سعالي/ انتبه! قال/ أنت تموت رويداً رويداً». كأن الرصاصات التي أصابت الأستاذ الجامعي قد أصابت من روح شعر صديقه مقتلاً، وهو الذي يقول في حديث غير منشور: «كنا نحب المرأة ذاتها، وكلانا يعطيها موعداً في المكان ذاته، وقبل الموعِد أنا أقول له: اذهب أنت، وهو يقول لي: اذهب انت. كان يشدّني من قميصي، في النهاية ذهبتُ أنا، كنت أشدّه من قميصه، لكنه كان مشدوداً إلى قلمه».


لغة بعيدة عن الخطابات الإيديولوجية، لكنّها تبني قوتها من غرابتها

التقى حسن عبد الله بصديقه في «ثانوية صيدا الرسمية للبنات» حيث عيِّن مدرساً في أوج المد اليساري الذي أثّر فيه عقيدة وشعراً لنسمع قصائده مثل «أجمل الأمهات» و«من أين أدخل في الوطن»، ملحنة ومغناة من الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وليتردد مقطع «صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم، وفي يدِنا يلمعُ الرعب، في يدِنا. في القلبِ غصنُ الوفاء النضير» على أثير الإذاعات المقاومة في حرب تموز، حين كانت الحمم تنزل على الأرض الجنوبية من البحر والبر والجو... المقاومة التي ظل حسن عبد الله مؤمناً بفعاليتها حتى مقاله الأخير «استسماك الناس» السبت الفائت في «موجز القول» أو في ما كتبه حول الحرب:

غرب العالَم متوحش

والشرق كذلك

ومع ذلك، فلا يزال هناك من يقول

بأنك لا تحتاج إلى السلاح في قبو بيتك

من أجل الدفاع عن البيت

وأن النشيد الوطني كاف!

لم يتزوج حسن عبد الله، لكنه ترك للأطفال أكثر من ستين قصة (لم ينشر معظمها) وفازت إحداها بعنوان «لكي لا تموت الأسماك» بجائزة مخصصة للأدب الموجّه للأطفال المتوحّدين أقيمت فى فانكوفر الألمانية عام 2017، بعدما ترجمت للغة اليابانية مرفقة برسوم للفنان المصري حلمي التوني. صدقت نبوءة حسن عبد الله في ختام «الدردارة»، إذ لم يمهله تموز أن يسبق العصافير إلى أشجار التين قرب الدردارة، بلى ربما، تلك العصافير هي روحه ذاتها، والشعر نقرها في الكوز المفتوح بقلبه على السهل والماء الذي يجري مسلّماً عليه: «قد لا أكون هناك في تموز ذاك العام/ لكن/ أيها الماء الذي وثب الزمان/ الذي جاء محروراً إليّ/ سلّم عليّ/ سلّم عليّ/ وعليهما/ يا أيها الماء السلام/ عليهما/ الدردارة الصفراء/ وابنتها الخيام».

* تقام مراسم الدفن في جبانة بلدته الخيام (جنوب لبنان) عند الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم الأربعاء. تقبل التعازي قبل الدفن وبعده في منزل الفقيد الكائن في بلدة الخيام، على أن يحدد لاحقاً موعد التعازي في بيروت.



ذاكرة للجنوبيّين في آلامهم وآمالهم (مقتطفات شعرية)

رشيد وحتي

بينَ تاريخين (1981 ـــ 2012) وحدَّين شكليَّين، تراوح هذه المختارات الشعرية: بين القصيدة النَّهرية، القصيدة/ الديوان، التي صنعت لحسن عبد الله اسماً وسِمةً وسطَ ظاهرة شعراء الجنوب وفي الشعر العربي، مع «الدردارة» (كانت البداية ذات الملامح غير الواضحة) وديوانه الأخير «ظِلُّ الوردةِ»، المتشظِّي في شكل مقاطعَ صغيرة؛ تكاد تكون اللعبة اللغوية وبناء الصورة والمعجم والتَّواشجُ مع عناصر الطبيعة هي هي. ما بدأ لغةً ملحميَّةً هادرةً يجمعها خيط غنائيَّة ريفية تتوسَّلُ كَلِماً مادياً طازَجاً في فضاءات واقعية تجعل القصيدة رحلةً في زمكان الأشياء وتحوِّلاتها وتوصيفاتها السردية. تحوَّل في الديوان الأخير إلى تأمُّلٍ شَذَرِيٍّ ينطلق من مشهديات ماديَّة وحِسِّيَّة، في تَقْتِير لغوي بالغ، يُنِمُّ عن اكتمال العدَّة الشعرية ونضج مشروع الكتابة. فإذا استثنينا تأتأة البدايات، لنا أن نقول: كتب حسن عبد الله القصيدة نفسَها، بينَ إنشادٍ متقطِّعٍ وتشذيرٍ تأمُّلِيٍّ. ستصمدُ «الدردارة» طويلاً، في تاريخ الأدب، كذاكرةٍ للجنوبيين في آلامهم وآمالهم.


I. الدّردارة، 1981

الماء يأتي راكباً تیناً وصفصافاً

يقيم دقيقتين على سفوح العين

ثمّ يعود في سرڨیس بيروت - الخيام

سلّم على... سلّم على...

يا أيّها الماء التحيّة

أيّها الماء الهديّة

أيّها الماء السّلام

سلّم على... سلّم على...

وعلى الّذي في القبر

واسقِ القبر

واطلع وردة بيضاء فوق القبر

واجعل أيّها الماء النّهار مساحة مزروعة جزراً

وطير راكض تحت الشّتاء

وإنّني في الصّيف... من عشرين عاماً

أفعى على برّ الخيام

وضفدع في الماء

والدّردارة

عين رأت حلماً وفسّره المزارع لوبیاء

■ ■ ■

وهي الفضاء وقد تجمّع في إناء السّاحرة

وهي القرى اضطربت على قمم التّلال

هي القری انقلبت

وظلّت عامرة

في صفحة الماء الّتي اتّسعت لتشمل صفحة الأيّام

تمخر في محيط الذاكرة.

وهي المواسم. والفتاة العابرة

عند الصّباح

وفي يديها سهل مرجعيون

وهي الطّائرة

ضربت على كتف الفتاة... فأسقطتها...

وتدحرج الزّيتون...

طائرة تحطّ على الغصون وتلدغ العصفور

جنديّان يمتطيان جيباً هائجاً

وفراشة صفراء في حقل البصل

أحد الدخان على الجبل

والبيت أطفأ نفسه ورحل

■ ■ ■

والمرج ممدود أمام البيت

كحديقة في قبر

ويشقّه خطّ من الإسفلت

ودخّان جیش مرّ

■ ■ ■

حور بعید

قبل ذلك

يظهر العصفور يعلو

والمساء يقود شخص الشّمس نحو الغرب

تصفرّ الصّخور

ويعتم الزّيتون

فلّاحان يقتعدان جذعاً مستديراً

ينهضان

وينتهي يوم البطاطا...

ويجيء يوم النّوم...

ناما هادئين

واستيقظا في شاحنات النّازحين

وجاء يوم الخوف

صيف

ناشف

يغشى الخيام

تغادر الأشباح عتمتها وتحتلّ الصّباح العامّ

نسمع صمت أحجار تموت

وضجّة الحشرات تبحث عن مفاتیح البيوت

وفي الحديقة

حيث لا أحد يثرثر

تسقط الأوراق يابسة

كما في جنّة الشّعراء

نافذتان لا تتحادثان

وعصبة خرجوا من المقهى

وما عادوا

تظنّون الكلاب تعيش في هذا المناخ الأصفر الضّاري؟!

لذلك، لا يصحّ القول: إنّ الكلب ينبح

لا يصحّ كذلك التّحديق في الأشياء

بحثاً عن حياة ما

ألا إنّ الظّلام... مئات آلاف الظّلام

تدور من بيت إلى بيت

ومن موت إلى موت

ألا إنّ الرّكام... مئات آلاف الرّكام

تطنّ في صمت الخيام!

■ ■ ■

عشرون ألفاً ينهرون الطّائرات تقدّموا

وتقهقروا غرباً

إزاء تحصّن الأشياء في الأسماء: حارسة الحقيقة

دبّابة في الجوّ

لكن

جدّتي في الجوّ

لكن

طابتي في الجوّ

هذا الشّيء لي

وأنا الّذي سمّيته العالي

وسمّيت الطّفولة تحته

مستقبلي

عشرون ألفاً ينهرون الطّائرات

تقدّموا

وترجّل الجنديّ

مشى إلى ليل الحديقة

تستوقف الجنديّ ضفدعة الحقيقة

وتنقّ قائلة له: — طلع الصّباح...

■ ■ ■

طلع الصّباح على طريق المدرسة

طلع الصّباح على الدّجاجة والكتاب

طلع الصّباح على القمر

وعلى غصون اللّوز

وانتشر البقر

في باحة الاثنين

ثور أسود نطح الكرى

فاستيقظ التّلميذ

ثور أبيض نطح الثّرى

فاستيقظ الفلّاح

لكن

لم يجد أحد يديه

ولم يجد أحد

مکان ثیابه

ومكان

روحه.

■ ■ ■

الأربعون تساقطوا مثل الثّياب الفارغة

الأربعون تساقطوا مثل الظّلال

ولم يسل دمهم وسال

داء المفاصل

والسّعال

حملوا إليّ الأربعين وكان أصغرهم على باب المئة

حملوا البقايا المطفأه

حملوا كأكياس معبّأة سنين

حملوا إليّ الأربعين

وكان أكبرهم غلام

يحبو على صدر الخيام

وكانت الشّمس الضّحی

والمرج ممتلئاً ظلام

■ ■ ■

الماء يأتي صافياً

ويعود مسموماً بأشواقي إلى

بيتي خلا

منّي فلا...

يا أيّها الماء الّذي وثب الزّمان وبلّلا

روحاً مصوّحة

وجسماً ذابلاً

سلّم على...

سلّم على...

وعلى الّذين

سقطوا

وكانوا أربعين

وكان أضعفهم أشدّ على الخيام

من كلّ ما حملت من الأيّام...


II. ظِلُّ الوردةِ، 2012

هناك شيء تمسك به الحياة

وتخفيه وراء ظهرها

ولن أتوقف عن الكتابة

حتى أعرف: ما هو!

■ ■ ■

كان ذلك ظِلَّ شخص

ينظر إلى ظل حِرْذَوْنٍ

يركض على ظل غضن

في ظل شجرة زيتون

■ ■ ■

مكث يحدّق في الوردة

حتى انفجرت

■ ■ ■

هل ترين الفراشة؟

عجباً

كيف تضمد هذه الهشاشة

بجناحين!

■ ■ ■

تشبيه:

كان الينبوع

كعين تبكي

من الفرح

■ ■ ■

تشبيه:

أبخل

من صخرة!

■ ■ ■

عندما أتوقف عن الدهشة

أمام مشهد الوردة

فسأذهب للبحث عن القانون

الذي يقبع وراءها

■ ■ ■

انفجار البيغ بانغ نفسه

قد لا يكون بأهمية انفجار

برعم زهرة

■ ■ ■

غيمة السماء هي موجة البحر

موجة البحر هي غيمة السماء

■ ■ ■

عندما تزورينني

احملي مصباحاً في يدك

فالحياة مظلمة من حولي

■ ■ ■

لم يحدث يوماً أن غرقت

في نهر أو بحر

والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك

كانت هنا على اليابسة!

■ ■ ■

لا نملك إلا أن تتخبط

فنحن نوهب الحياة

من دون دليل يشير

إلى طريقة الاستعمال

■ ■ ■

الموتُ يروح ويجيء من حولنا

بأقدام حافية

لكي لا يحدث الجلبة

التي توقظنا من حلم الحياة



أربعون عاماً من الصداقة

جودت فخر الدين

أكثر من أربعين سنة ونحن نتسامر ونتجادل ونتفق ونختلف. والصداقة بيننا تزداد تعمقاً وتوسعاً وتنوعاً. وكنا نذهب إلى الآخرين، فيملأ كل مكان نحلّهُ ظرفاً ورشاقةً وخفة دم. كان حضوره أينما حل يشيع الغبطة والحماسة والأنس. وكم كانت مشاكساته تضفي على مجالسنا حيوية لا نحظى بها من دونه. وأما شعره فكان الصورة الصادقة لِما اتصف به من رشاقة وحيوية.

لم أره منذ بدايات الكورونا. ولكنني كنت أشعر دائماً بأننا معاً. سوف يبقى حسن عبدالله بالنسبة إليّ ذلك الصديق الذي لا تذهب خصاله ومآثره مع الأيام.



كأنْ... مات

محمد علي شمس الدين

هذه الكلمات لا أكتبها بعد موت حسن عبد الله. كنت كتبتها طوال الأسبوع الفائت مرافقاً لديوان «راعي الضباب»، وقد عدت إليه وغالباً ما أعود إليه لأنّي أحبّه. طريف ومريح وبرغم الدراما مرح وحتى مع الموت... ومع المرض ومع الحب الذي هو بالنسبة إليه جرح يدمله ويضحك، ومع الحرب. جداً طريف ومفاجئ حسن عبد الله، ولم أجد أحداً قال أو يقول ما يقوله... في الحب مثلاً، في قصيدة «مرّ عام»، يقول بعد انحلال الحب: «لا أحبّ/ لا أحبّ.. وحدتي قلعتي/ حيث جسمي قوي وقلبي منيع وسرّي مقدّس/ أية امرأة تتقدم من جنتي هذه سأواجهها بالمسدس».

يا لجمال ما أقرأ ويا للخفة والمفاجأة والطرافة وانتزاع الشوك من قلب المحب المكسور حسن عبد الله. ليس رخو الأحاسيس هو حادّ. عفوي مريح مفاجئ، يحوّل كل ما يصادفه إلى شعر، كل ما يلمسه إلى شعر ودهشة. وأيّ شعر؟ شعر حرّ بريء طازج جديد بسيط وعميق وساخر وساحر، ولا يذكّرني الا بنفسه.... وربما أوحى لك بأنّه مباشر، أي يكتب الشعر بتلقائية وبلا تكلف. تماماً كما يدخن أو يلقي بملاحظة ساخرة، لكنّ التروي في قصائده من «الدردارة» التى أذكر أنّي أحببت إلى «راعي الضباب»، يشير الى شاعر يفكر بالقصيدة ويخطط لها، وحين يتركها تمشي الهوينا يصاحبها ويراقبها ويشذّب منها... فالفكرة السابقة تمنحه السرد والحكاية والإيقاعات الخفيفة الحرة وغير القاسية والهندسة المؤكدة. لعل لشعره إيقاعات الحياة ذاتها بانتظامها ولاانتظامها. هادئ شفاف غير مفجع طريف صامت، صاحب إشارة، حزين لكن بلا تفجع، مرح يضحك على أنف الخطر والكارثة

وهو جريء. يقول في قصيدة «الطبيب الكبير»: «إنها لحظة لندخن/ نحن الرجال الظلال/ لحظة نفكر فيها بأنّ الجسوم التي حملت ثقل أرواحنا/ عملت كالبغال». ويقول بحكمة مرّة «الحياة مرض». وفي القصيدة حزن الموت، موت مهدي... ومهدي هو صديقه المفكر الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان) وذكريات الحب والتدريس في صيدا وفاطمة «فاطمة/ وغياب عميق لمهدي كأنْ مات...» ومراثي مهدي تزنّر الديوان يبدأها وينتهي بها. لكن أيّ رثاء جديد مفاجئ وعميق بلا تفجع، هذا الذي يكتبه حسن عبد الله في مهدي؟ في قصائد الفراق «مرّ مهدي ولم يرها/ مرّ بين الثلاثاء والأربعاء/ ثم اختفى». «وهو مهدي/ وهي الندم القارص العمر/ فكر بي ونهاني عن الشعر/ قلت له: إنها، ولنسيانها أنا أحتاج رطلاً من العضلات». هنا سحر وليس شعراً، بل شعر برتبة سحر يمزج بين الطرافة والحب والصداقة والموت بضربة واحدة.... وهو أخيراً يمزج بين قبر حرب وقبر مهدي: «قبر حرب أتى وجلس/ معنا ينتظر/ قبر حرب أحسّ/ فجأة بالضجر/ ومضى وانقضى عصر حرب وجاء أخوه الصغير».

الآن ونحن على مسافة لا تصدق من موت حسن عبد الله، نرغب في أن يكون موته كمثل قصيدته «وهم من أوهام الربيع» حيث تلك العناصر الأولية للحياة ربيع وجدول وفتاة دون العشرين «تمشط شعر العجل». طاب للشاعر أن يقطف عصفورين عن الشجرة. وحين لاحظ أنهما لم يخافا منه وسألهما عن سبب ذلك «ابتسما/ وأجابا من أعلى الشجرة/ عجباً/ أوَنهربُ من شخص يتخيّل؟».

هل مات حسن عبد الله حقاً، أم نحن نتخيّل أن حسن عبد الله مات؟

صورة تذكارية جمعت الشاعر حسن عبدالله والفنان مرسيل خليفة وعدد من الأصدقاء والمحبين في دارة محمد صفاوي في الخيام
صورة تذكارية جمعت الشاعر حسن عبدالله والفنان مرسيل خليفة وعدد من الأصدقاء والمحبين في دارة محمد صفاوي في الخيام



الشاعر حسن عبدالله
الشاعر حسن عبدالله


تعليقات: