فراس حمدان: خلف «ساحة النجمة» ساحةٌ للحرّيّة

فراس حمدان(علي علوش)
فراس حمدان(علي علوش)


حين أطلق حرّاس المجلس «النيابيّ» الرصاص على فراس حمدان ورفاقه يوم الثامن من آب من العام 2020، أي بعد انفجار مرفأ بيروت بأربعة أيّام، ملأ الغاز المسيّل للدموع فضاء المدينة الثكلى، حتّى إنّه كاد ينبعث من شاشات التلفزيون غماماً رماديّاً بطعم المرارة والموت.

في ذلك اليوم، عاش بعضنا خبرةً غرائبيّةً، غنيّةً بالتباساتها، معقّدةً برمزيّتها العصيّة على التفكيك. فعيون الثوّار المتعبة، التي تناثرت حول الكنائس والمساجد في احتفاليّة كأنّها مأخوذة من تراجيديا إغريقيّة، بدت أكثر رحابةً من قبّة البرلمان. لكنّ ساحة النجمة، والساحات المحيطة بها، كانت أيضاً تضيق بأنينهم ولا تتّسع لصراخنا. هذا الالتباس الذي يكاد يتفجّر من شدّة توتّره كان عنوان ذلك اليوم المضرّج بالدم، إذ كيف تمتزج وساعة العيون بالضيق الذي يصنعه الأنين، ويصنعه الصراخ، ويصنعه الغاز؟

سينطبع ذلك اليوم في ذاكرتنا بوصفه محطّةً مفصليّةً من محطّات صلف السلطة وقمعها وتنكيلها بالناس. غير أنّ بعضنا يومذاك ربّما قرأ أيضاً في الدلالات المحجوبة لإحدى عبارات فيروز العبقريّة في مسرحيّة «الشخص». «خلف الساحة في ساحة»، تقول بيّاعة البندورة جواباً عن سؤال الشاويش وليم حسوانيّ: «يا بيّاعة، شو في خلف الساحة؟». فخلف ساحة النجمة، حيث يربض مبنى البرلمان صامتاً كالضريح، مقفلاً كمدن المصابين بالبرص، مسوّراً بالبنادق والخردق والرصاص المطاطيّ، ثمّة ساحة خلفها ساحة وساحات: ساحات للموت تمتدّ من أهراءات القمح إلى بيت الكتائب في الصيفيّ؛ ساحات للعيون المفقوءة والأجساد المرضوضة والقلوب المكسورة. وثمّة أيضاً ساحة للأنين، وساحة لسيّارات الإسعاف بصفّاراتها الهادرة، وساحة لعسكريّين صامتين يجرّون أذيال الخيبة لأنّهم أضاعوا طريقهم إلى الثورة.

لكن من حسن حظّنا أنّنا، بعد الخامس عشر من أيّار 2022، ندرك أيضاً دلالة الالتباس الذي صاغته في ذاكرتنا مشهديّة الثامن من آب، في وجهه الآخر، وذلك على قدر ما نفقه معنى الرحابة التي رصدناها آنذاك في سواد العيون الثوريّة، والتي أخذت تتّسع وتتّسع حتّى ابتلعت قبّة البرلمان. فخلف ساحة النجمة، ثمّة أيضاً، ومن جديد بكلمات فيروز، ساحة للحرّيّة، وساحة للحقّ، وساحة للتغيير اللاعنفيّ، وذلك حين يقرّر الشعب انتخاب شابّ من وادي التيم اسمه فراس حمدان، مزّق الخردق صدره يوم الثامن من آب، ممثّلاً له تحت قبّة البرلمان. بلى بلى، إنّه التحوّل! بعد القاضي طارق البيطار، الذي لم يُكتب بعد الفصل الأخير من حكايته، صارت لنا حكاية أخرى نرويها لصغارنا، الذين تحوّلت «زهرة النوم» بين أيديهم إلى «سيف»، كما كتب منصور الرحبانيّ ذات يوم؛ حكاية عن الثائر الذي يطأ عتبة البرلمان حرّاً، شامخ الرأس، عريض المنكبين، فيما يلتصق الخزي والعار بالرجل الذي أمر بإطلاق النار عليه، من الآن وإلى أبد الآبدين.

لا ينخدعنّ أحد. فالحكاية لم تنتهِ هنا. إنّها مجرّد بداية. والقوادم من الأيّام ستكون حبلى بالصعوبات، مثقلة بالمخاطر، ملأى بانسداد الآفاق واسودادها. فالبلاطجة الذين حوّلوا الثامن من آب إلى مجزرة لن يرتضوا الهزيمة، بل سيسعون إلى الالتفاف على الانتصار الجديد لانتفاضة 17 تشرين، تارةً بكلامهم المعسول الذي يقطر سمّاً، وطوراً بالمخاتلة والتشبيح وكواتم الصوت. إنّه النفق العسير الذي لا بدّ من اجتيازه للخروج من جهنّم والوصول إلى الوطن، أي إلى الساحة الأخيرة التي لن يكون خلفها أيّ ساحة أخرى…

تعليقات: