الزواج المدني الإختياري:الاحتكام للاستفتاء الشعبي

تجديد النقاش والحوار حوله بعيدا عن الأفخاخ الذي ينصبها اعلاميو النظام المترهّلون
تجديد النقاش والحوار حوله بعيدا عن الأفخاخ الذي ينصبها اعلاميو النظام المترهّلون


كثرٌ من الذين يصرّون على المطالبة بقانون مدني موحد والزامي للأحوال الشخصية - مع التشديد على الإلزامي - يتصرّفون على أساس أنه يكفي التشدّد والاطلاق بالمطالبة ليصير إقرار القانون وتنفيذه أقرب منالاً. لعل بعضهم لا يدري مثلاً أنّ المشروع موجود منذ أواخر الأربعينات وقد تدرّجت حملات المطالبة ابتداء مع إضراب المحامين الشهير العام 1952 الذي نادى بأن تتولى المحاكم المدنية النظر في قضايا الأحوال الشخصية. ولم تتوقف المشاريع والحملات والتحرّكات والاضرابات منذ ذلك الحين.

كلمات موجزة دفاعاً عن مطلب القانون المدني الاختياري، كما جرى التداول به عشية الحرب الاهلية وفي سنواتها الاولى. يتعارض تطبيق التشريع المدني في الأحوال الشخصية مع عدد من الاحكام المسيحية والاسلامية، أبرزها سن الزواج، والطلاق لدى المسيحيين، وتعدّد النساء للمسلمين، وقوانين الارث والحضانة والتبنّي والنفقة، المتباينة جداً بين المذاهب. وفي تاريخ الطبقة الحاكمة تاريخ طويل من النفاق حول النظام الطائفي ونظام الاحوال الشخصية: يطالب طرف مسلم بإلغاء الطائفية السياسية فيرّد طرف مسيحي بالمطالبة بالعلمانية الشاملة فيرفض الطرف المسلم على اعتبار أنّ الزواج المدني منافٍ للشريعة الإسلامية، خصوصاً ما يتعلّق بتحريم زواج المسلِمة من كاتبيّ. ومن المرات الأخيرة التي تمّت فيها لعبة النفاق هذه عند نقاش "مشروع برنامج الإصلاح السياسي الديمقراطي" الذي تقدّمت به الحركة الوطنية اللبنانية إلى «هيئة الحوار الوطني» المنعقدة في خريف 1976، والتي ضمّت ممثلين عن القوى السياسية المعنية بالنزاع المسلح. رد ريمون اده على الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية والإدارية الواردة في الوثيقة بالدعوة إلى العلمانية الشاملة، فاعترض عبد الله اليافي بحجة التعارض بين العلمانية والشرع الإسلامي. خير هذا بشر ذا، فاذا الله قد عفا. وانتهى الأمر بدفن مشروع تجاوز النظام الطائفي مع ان «هيئة الحوار» اقرّته بالإجماع عدا صوت واحد هو صوت بيار الجميل.

ينطلق اقتراح القانون الاختياري من واقع أن القانون المدني سوف ينطوي بالضرورة على أحكام تمسّ معتقدات دينية ومذهبية لفئات من اللبنانيين من كافة المذاهب. لذا يقترح تكريس حق اللبنانيات واللبنانيين في اختيار القانون الذي يدير حياتهم الشخصية. الغلبة هنا لحرية الاختيار، بمعنى آخر للمبدأ الديمقراطي، ولأولوية التدرّج في الانتقال إلى علمنة الأحوال الشخصية. وجدير بالتذكير بأمرين بشأن المادة الدستورية المتعلقة بالأحوال الشخصية (المادة 9). الاول، أنها تؤكد أنّ حرية المعتقد (الديني) مطلقة، أي أنّ الخضوع للشرع المذهبي ليس إلزامياً، والثاني أن المادة تعيّن للدولة دور حماية تطبيق التشريعات الدينية على "الاهلين" ولا تقول بإلزامية تطبيقها. وكان في تصوّر الذين أسهموا في اقتراح القانون الاختياري في السبعينات أن تطبيقه أشبه باستفتاء عملي للبنانيات واللبنانيين بين أنصار الأحوال الشخصية المذهبية وأنصار الاحوال الشخصية المدنية. أو هكذا فهمت الطابع الاختياري في ذلك الوقت ودافعت عنه ولا أزال. هذا مع التذكير بأن القانون المدني للأحوال الشخصية سوف يصدر عن البرلمان اللبناني، ويقرّه ثلثا أعضائه المنتخبين من الشعب، وتخضع أحكامه بالتالي للتنوّع في الآراء والاجتهادات وإلى التقاليد والعادات التي لا تزال سارية في المجتمع بصدد هذا الموضوع الحسّاس.

المسألة هنا مسألة إنضاج وضع يسمح للإرادة الشعبية بأن تحيّد او تعدّل أو تبطل مفعول مواد دينية شرعية اسوة بالعديد العديد من تلك المواد التي ليست هي قيد التطبيق في الدول العربية والإسلامية الحديثة. وثمّة أمثلة عديدة عن مثل هذا الاحتكام المباشر للإرادة الشعبية في قضايا تتعلق بأحكام دينية منها مثلاً إيطاليا التي كانت قوانينها تحرّم الطلاق والاجهاض. فاقتضى الأمر عقوداً من الزمن قبل ان تنجح الحملات الداعية الى إجازة هذا وذاك، في الفوز بالاستفتاءات الشعبية التي نظمت لهذا الغرض. وليس ما يمنع على الاطلاق استلهام المثال الإيطالي بالدعوة إلى تنظيم استفتاءات حول موضوع الأحوال الشخصية المدنية في لبنان.

بقي أن يقال إنه لا علاقة سببية مباشرة بين اعتماد قانون مدني – اختياري او الزامي – للأحوال الشخصية وبين تجاوز نظام الطائفية السياسية والإدارية. ما يمكن قوله هو إن اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصية يحرم النظام الطائفي الشامل من أحد مرتكزاته، وهو عدم المساواة بين اللبنانيات واللبنانيين امام القانون"، لكن المرتكز الآخر يبقى قائمًا على تعيين موقع الفرد، أنثى أو ذكر، من النظام السياسي بناء على تحدّره بالولادة من أب معيّن حصرًا في هويته الدينية المذهبية. أي أن نظام الطائفية السياسية يخرق اول مبدأ للديمقراطية السياسية: مبدأ المساواة السياسية بين المواطنين (كما انه يخرق مبدأ المساواة في حقهم بممارسة الخدمة العامة).

لا تتغاضى هذه الملاحظات عن الوجه التمييزي والطابع البطريركي القسري لأنظمة الأحوال الشخصية كلها، ولقيامها على السيطرة على المرأة والأولاد بالدرجة الاولى. بل تطمح إلى تسهيل وتسريع مسار التحرر منها. ولا هي (الملاحظات) تتناسى معارضة علماء ورجال الدين والمؤسسات الدينية للقانون أكان اختيارياً أو الزامياً. وإن كانت تتصوّر أن الطابع الاختياري يصدّ أو يحيّد العديد من الاعتراضات والمعترضين. إنني أدافع عن الطابع الاختياري للقانون المدني للأحوال الشخصية، وعن الاحتكام للإرادة الشعبية لتبنّيه، من أجل توسيع دائرة المؤيدين، وتحييد فئات مؤمنة ومحافظة من خلال ضمان حقها في استمرار الخضوع للشرع المذهبي في أحوالها الشخصية. وأخيراً فإن اقتراح الطابع الاختياري للقانون، وتعريضه للاستفتاءات الشعبية، مساهمة في رسم خريطة طريق لإعادة طرح الموضوع، وتجديد النقاش والحوار حوله بعيداً عن الأفخاخ الذي ينصبها اعلاميو النظام المترهّلين، وعن قطعية وتقريرية الاعلانات والسجالات على وسائل التواصل الاجتماعي.

تعليقات: