يـوم »أجمـل الأمهـات« ينتظـرن احتضـان أطفالهـن الرجـال

تواكبان القافلة في الناقورة بالشوق والصور
تواكبان القافلة في الناقورة بالشوق والصور


بالكفين معا، تكوم حبات الأرز في حضن العباءة، وترميها الى الأعلى وكأنها تطلق حماماً في هواء صاف.. كيف تتوقف هذه الأم عن نثر الأرز على قافلة الشهداء في الناقورة؟ كيف تتعب يديها، وهي تتمنى أن تصل لابنها الشهيد حبة من المئات هذه. لا بد لإبنها النائم في أحد صناديق قافلة الشهداء أن يعرف أن أمه هنا.. في الخارج. وأنها لم تمل الانتظار. وأنها لم تتأفف من شمس صبغتها بسحنة سمراء، في تموز الحارق. ساعات طويلة انتظرت الأمهات جميعاً، قاومن خلالها الاختناق بدمع يشبه سنون الحزن الأول. ثم ابتسمن وزغردن وتذكرن أن اليوم هو يوم اللقاء، وهو يوم الفرح بهم. هذا كان يوم الأمهات ولا أحد غيّرهن. هؤلاء توحّدت صورهن في الأمس، في حركاتهن، وتنهداتهن، وسلال أرزهن ووردهن، والعتابا الحزينة. هؤلاء افترشن الساحل كله الى جانب شباب ورجال تولّوا حمل الرايات الحزبية، وما همّ الأمهات بالأحزاب اليوم؟ اليوم فقط لإيقاظ الذاكرة بالعين، لتذكير أنفسهن أن أطفالهن الرجال أمام أعينهن أخيراً. تعبن وعرّقن وذبلت الزهور في الأيدي المشبعة بالعمر المديد.. ولكن كيف تحلّ الراحة؟ هذه السلسلة البشرية صمدت منذ لحظة انطلاق قافلة الشهداء عند التاسعة صباحا من الناقورة، فصور (مخيما الرشيدية والبص)، فالزهراني، فصيدا، فاقليم الخروب، فبيروت التي وصلتها عند الرابعة عصراً. هناك كانت المحطة الأخيرة، عند مجمع شاهد التربوي قرب مستشفى الرسول الاعظم تحديداً. هناك تمت عملية »الفرز« وبعدها بيوم أو أيام سيحلّ نوع من الرضى. بعد استلام العائلات للأحباء، والسلام عليهم، وتمسيد الصناديق بالخدود ومباركتها بالأيدي والدموع. سيحل الرضى بعد أن يحددوا بيوت أولادهن الرجال في الأرض. بيوتهم في التراب وفي السماء. بعدها يرتحن. بعد أن يعرفن أين يرقد الشهيد، وأين سينثرن عليه الورود. وأي تراب سيشبعن بالماء.. وأي مقبرة سيلازمن لأيام طويلة.

أسماء كثيرة. مئة وتسعة وتسعون اسماً. من يخطئ بها، وأهاليها لا يحفظون غيرها؟ ولا يربطون حياتهم إلا بها وبعودتها.. وها قد عادوا. حيّوا كل مدينة قطعوها وحيّتهم. ودعوا الناقورة عند التاسعة صباحاً، عرفوا أنهم في الطريق إلى أحضان دافئة في كل مدينة. إن لامسوا التراب اليوم أم غداً، سيغمرهم بحنانه أخيراً.

ودعوا الناقورة، لتغمرهم الأهازيج عند مفرق رأس العين جنوب صور، فمفرق مخيم الرشيدية ثم عند مخيم البص ثم عند نصب الشهيد بلال فحص عند مثلث الزهراني، فساحة الشهداء في صيدا، والمحطة قبل الأخيرة عند الأتوستراد الداخلي بين مدينتي صيدا وبيروت عند مفرق بلدة برجا في اقليم الخروب، وأخيراً الى بيروت التي مجدتهم ككل المدن وكل الشهداء الذين عبروا هواءها وماءها وترابها. رفعت لهم الرايات والقبعات وعزفت لهم أناشيد الموت. الموت الذي يجعل أما تحتضن جثة وتبتسم في آن، ثم تبكي. فمن يمنع أمهات من البكاء على خبر يعرفنه من سنوات طويلة؟ من يقل لهن إن البكاء يحلّ في يوم وداع الحبيب والعودة الى التراب بعيداً عن الصندوق الخشبي المتعِب.

تعليقات: