زكي ناصيف رحل وبقيت أنشودته تزرع عالمنا رجاء ومحبة

زكي ناصيف
زكي ناصيف


قلّما وجدت مكانا حمّله ابناؤه حسرة وحنينا كمشغرة. ولكل ممن التقيت مشغرته التي يخشى ان يقارنها بالواقع الحالي للبلدة. اولئك جعلوا مشغرتهم في عالم الخيال، على غرار "الالدورادو" في اساطير شعب المايا الذي انمحى. فكان ان نشأت غربة بينهم وبين المكان الذي يمثل واقع الحال. ويشكّل هذا شكلا من اشكال الهرب، وهو هرب نتج اثر تداعيات حروب لبنان الصغيرة على الجماعات الدينية، التي كانت متموضعة ديموغرافيا، في اطرافه.

لا شك في انّ الحروب الاهلية التي رافقت دخول اسرائيل الى امكنة تعرف بـ "اطراف لبنان" في الثمانينات، كما "طيشنات" البعض ومراهناتهم الخاطئة، قد ادت الى تعكير صفو العيش. فكان ان حصلت هجرة بعض الجماعات الدينية من ارضها. هجرة ادت الى تغير ديموغرافي، وتغيرات اخرى في هويات الامكنة.

وكما يقول احدهم "انّ الارض هي لمن يحرثها لا لمن يدعي امتلاكها". قلة قليلة من مسيحيي مشغرة بقوا هناك، فعل شهادة وايمان وتعلق بالارض. وذلك لأن ناسنا فقدوا الاقتناع والايمان، فاستحالوا وحدات انتاجية بشرية في اقتصادات دول غريبة.

الدرب الى مشغرة

اضحت الطريق الى مشغرة، سبيلي الى فهم امس كما يوم مدينة، هي انشودة من كلمات والحان زكي شاكر ناصيف، غنوة لا تفارق تمتماتي. بل انها قصة من قصص رياض شرارة، علقت في ذهني. مضيت الى مشغرة وكنت متحمسا لمعاينة قمرها الذي يجاور وادي التيم وجبل لبنان الشوفي وسهل البقاع وسد القرعون.

وفي طريقي الى قبلة زكي ناصيف، رحت افتكر في كل تلك القصص والموضوعات. فكان ان امتزج اريج الفنان، الذي ولد في مثل هذه الايام (بدايات تموز من العام 1916) من رشيدة، بطلّة رياض وكلمات توفيق ابرهيم الشاعرية، الذي كان اول من رسم لي مشغرة قطعا من خيال وحسرة.

لقد كان الصبي فيّ يعشق سماع ذاك الشاعر، الذي اقترن بإيفون نسيبة جدي. نعم لقد كان يتلهف كل عام لموعده مع قصص مشغرة في صبحيات توفيق الصيفية مع حلول موسم التين والعنب. اذ انه اعتاد ان يزور جديه ابان فرصه المدرسية، فيطلب جده منه ان يحضر الى الثنائي سلة صغيرة من التين والعنب من كرم جده في "عصولا".

عاودتني تلك الامور وانا في طريقي الى مشغرة، التي اوصاني "حبقوق" في آخر ايامه بزيارتها والقاء التحية على "دباغاتها" واهلها. مشغرة التي لم أرها يوما. نعم، اشياء محببة كانت تعاودني، وما كان يوقف سيلها الا نباح كلب صديقي، "المسجون" في صندوق سيارته المتجهة الى مشغرة. واستكان الكلب بعدما قطعنا ضهر البيدر، وقد أطل البقاع المستقر ما بين سلسلتي جبال لبنان، كانه رداء ايليا الذي خلّفه لتلميذه اشعياء وهو في طريقه الى السماء راكبا عربته النارية من جبل الكرمل او ايضا جبل الشيخ المستلقي غربا بوقاره وشموخه.

وانسبنا رويدا، الى البقاع الغربي، فعرّجنا على محمية عمّيق وقد رأيتها من السيارة مزيجاً من ماء وجلد وسماء. مكونات تفاعلت، فكانت اشجار عمل فيها الدلال فعله، فبانت لوحات رائعة للناظر.

مشغرة

ثم تصل مشغرة، واول ما تدركه قبور المسيحيين التي تستقبلك كي تقول "انّ ضالتك قد أضحت من الامس، فلا تفاجأ اذا ما ادركت مكانا من نوع آخر". واستقبال القبور هذا جعل من زكي ناصيف يتلكأ في زيارتها، اذ انه اضحى في آخر ايامه يقول كلما سئل ان يذهب الى ضالته "بكير بعد بكّير عَ مشغرة... لاحق روح وضل هونيك. آه ما ابعد مشغرة، بحب اطلع لفوق، بس هالقبور لو بتزيح عن المدخل". حسب ما ابلغتني دلال ناصيف، ابنة اخيه.

ثم تطالعك رسوم لكوكبة من شهداء "حزب الله" المشغريين قبل ان تدرك العمار. رسوم تتخللها شعارات تؤكد انّ المكان قلعة صمود وتعايش بين عائلات لبنان الروحية، على ما درجت العادة في مثل تلك الامكنة.

ووصلنا أحد المنازل، وتزامن حلولنا مع اغنية "طلّو احبابنا، طلّو..." التي تسربت من اثير "اذاعة لبنان" الطالع من مذياع المنزل الموضوع على الشباك الضارب على الطريق الخالي، الا من الابواب المقفلة وبعض المعمّرين.

... حيث يستقر ويستريح

رغبت بداية في ان ازور ما كان زكي ناصيف يخشاه. وما كان يخشاه اضحى قبلة زيارتي، اذ انه يضم رفاته اليوم. نعم لقد رغبت في زيارة زكي الرائحة الذي عطّر اثير بلدي. لم اعد اشعر بالاحراج ولا التردد بقول هذه الكلمات في حضرته، اذ انه ما عاد خجولا وبسيط القلب كما كان، بل صار من النسيم.

زرته، وزرت رياض شرارة. فأضأت شمعة على قبر من اضاء بلدي لحنا وطلّة وكلمات. فدندنت لحنه "مهما يتجرح بلدنا". وناجيت الزكي الرائحة وشعبه الذي مهما قلّ لا يبكي ولا يندب على الاطلال.

جئت القبر طالبا الحياة، اذ هالني انّ كثيرين ممن يحيون اليوم هم للموت، لانهم يزرعون عالمهم خوفا وتوترا وفسادا وافسادا وكذبا وارهابا. بينما عدد كبير ممن استطونوا القبور هم الحياة. كيف لا ومازالوا يزرعون عالمنا فرحا ورجاء بموسيقاهم وكلماتهم وصدى اصواتهم التي تعانق الجبال؟ اصداء تتردّد عند الناس في كل مرة احبطت.

كان قبر زكي موحشاً ومهجوراً، كما مشغرته التي هجرها اهلها للريح والنسيان والشمس. فخلت الضيعة الفوقا الا من بعض النواطير الذي راحوا يحرسون الماضي كي يقولوا أننا ما زلنا هنا نقاوم موجات الهجرة والغبن وقلة الايمان. لقد توسّعت مدافن مشغرة على حساب المنازل المأهولة التي ما عاد يطربها الا خرير المياه. مياه جارية تروي قصص السلف من آل حجار وطرابلسي وابرهيم وشرارة والغزال والصائغ. كما تروي قصص زكي ناصيف الصغير الذي ابتاع له والده من محمد لحام (والد دريد لحام) اسطوانات وفنوغرافاً في بدايات العشرينات من القرن العشرين. ولم لا وقد احاط الوالد الميسور، أبناءه بالدلال. فوالد زكي كان تاجراً كبيراً التزم صناعة احذية الجيش الفرنسي في الشرق. فشغّل مدابغ بلدته. اسطوانات جعلت الصبي زكي يدندن والجداول لقمر بلدته العالي. راح يدندن للزارع والحاصد، كما للهوى المكتوم في قلبه في ليل القمر ونجومه. وجعلته الموسيقى اكثر شفافية، يتأمل في اسرار بلدته، مترجما حبه للحياة الحاناً وكلمات. حاولت ان اكتشف اين هي "هلا" اليوم،وقد ارقصت زكي في الامس القريب، ف"سوسن غصن باله، بخفة روحها ولطافتها وحلاها"، الا انها على ما يبدو قد كبرت وهجرت مشغرتها بعدما بارت الاراضي التي ما عادت تخضّر لمرورها.

طيفه ومنزل الطفولة

ثمّ انتقلت الى منزله، زمن الطفولة، الذي كان يخشى ناصيف الاقتراب منه عندما كبر. خشي الاقتراب منه، لانه أراد ان يبقى في باله عامرا بأبيه وامه واخوته واحبابه. والبيت اليوم اضحى مشرّعا للنسيان يناغش عين مياه كانت عامرة، وساحة شكلت "مبسم عطر" صبايا بلدته، في أزمنة العز. احسست بأنغام اسطوانات عبد الوهاب وسلام حجازي التي كانت تعشش في سقفه تخرج وتملأ المكان كي تخفف من وحشته و"بريته". لقد انحنت شرفة ذلك المنزل، بعدما ادركت ان عتب "الحقالي" مع "شق الضؤ" يزداد حتى حدود الصمت، وقد استطونها الشوك. انحنت بعدما اثقلها غياب ابنها الموسيقار الذي اغناها لحنا وكلمات لليل والقمر. اثقلها غياب وقع انغامه المائية بانسيابها الموسيقي. لم لا، والمياه بحسب زكي ناصيف هي "اساس كل روح حي على هذه البسيطة".

لقد جمعت أغاني زكي ناصيف روح بلده وعصارة ثقافة تلك المرحلة كما معارفها. فهو تلقن الموسيقى في الجامعة الاميركية التي تخرج منها مجازا في منتصف الثلاثينات. فأضحت حياته تضج كلمات والحاناً، انتج منها المئات، ولم ينشر منها الا بضع عشرات، اغنت ارث البلد الصغير موسيقيا.

الطفل الحكيم

بان علي هناك زكي ناصيف، الطفل الحكيم الذي اشتهر ببساطته واقتناعاته وايجابيته التي تخطت كل الحدود. الطفل، الذي ما انفك رغم سنيه، يدرك أنّ لبنان "راجع يتعمر". وقد كتب تلك الكلمات يوم انهارت عليه القذائف وهو في طريقه الى المنزل، فمنعته من الوصول اليه، فكان ان مكث عند شقيقته لايام.

لقد كتب كلمات اغنيتيه الشهيرتين "راجع، راجع يتعمر لبنان" و"مهما يتجرح بلدنا" في تلك اللحظات، كي لا يلعن او يشك في بلده ولبنانه. زكي ناصيف الذي عرف بكونه افضل نتاج مشغرة في ايام عزها، يوم كانت تحوي القصبة زهاء 300 مدبغة تعمل على تصنيع حاجات المنطقة من الجلود الحيوانية.

في زكي ناصيف واحزاب زمنه

ولا ينفك البعض يرى زكي ناصيف، ذاك الشاب الجامعي المتحمس الذي تأثر بأفكار زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، انطون سعادة، يوم كان الاخير يعمل مدرّسا للفلسفة في الجامعة الاميركية في بيروت.

كان زمن نشأة زكي ناصيف، عصر الاحزاب عموما والاحزاب القومية خصوصاً. فكان الحزب السوري القومي الاجتماعي (القومية السورية-سوريا الكبرى)، وحزب البعث (القومية العربية)، وحزب الكتائب (القومية اللبنانية). احزاب استلهمت فلسفاتها من نظرية الداروينية الاجتماعية التي انتشرت في اوروبا في ذلك الوقت، والتي ارتكزت على مبدأ تفوق العناصر والاعراق. انه تأثير اوروبا القديمة الناشطة سياسيا والراكنة على بعد اميال من المشرق، والناهدة الى العالم القديم.

اما الحزب السوري القومي، فكان ثمرة فكر اكاديمي في الجامعة الاميركية في بيروت (الكلية السورية الانجيلية) من الناشط السياسي انطون سعادة، الذي عرف بديناميته وثقافته و"كراسميته" ورغبته العارمة في التغيير. فكان ان سحر الزعيم عبقري مشغرة، فتحرر من ذاته وافكار البشر، اذ كتب له ان يناجي الخالق بألحانه وموسيقاه! فعرف بتقبله ومحبته الجميع على اختلافاتهم ومن دون انحياز او تمييز...

ولا تنسى عائلة الموسيقار اليوم أيدي "المؤسسة اللبنانية للارسال" البيضاء على الراحل التي حمته من العوز. اذ انّ رئيس مجلس ادارتها اعتبر ان كرامة زكي ناصيف هي من كرامة الوطن، وبالفعل كانت كذلك!

وداع ولقاء

خرجت من عالم الفنان، من مقبرته ومنزله ومشغرته، الا انّ دندنات اغنية انطونيو فرغاس لـ "امبريو ارجنتينا" التي كان يعشق زكي انشادها في جلساته العائلية والتي كان لها عنده دلالات خاصة، راحت تعاودني. اغنية فقد تسجيلها لفترة غير قليلة، الى حين بلغته من الولايات المتحدة الاميركية كهدية من نسيبه ربيع. فكان ان ابكته. ابكته، لانها تصور كيف ان مصارع الثور انطونيو اعتقد أنه غلب الثور الذي عاد فأرداه قتيلا. فأنطونيو مثل لناصيف كل داعية تغيير في هذا المشرق. اما الثور فكان رمز الخرافة والتقليد الذي يلتهم كل بطل، مهما عظم شأنه. وقد التهم الكثير من ابطال زكي ناصيف.

تركت مشغرة بعد قداس الاحد الذي آثرت ترتيله اكراما لناصيف ورغبة في لقياه في فسحة اللقاء تلك التي تتخطى الامكنة والازمنة، فأدركته بالفعل يدندن مع ملائكة التسبيح "السيرافيم": "قدوس، قدوس رب الصباؤوت...". وبان لي ينشد "حنانك يا رب الاكوان اليك رفعت صلاتي" ويداه تضبطان ايقاع ترتيلته حتى خروج روحه في الحادي عشر من آذار من العام 2004. تلك الروح التي كانت انشودة سماوية في ارضنا. انشودة زرعت عالمنا رجاء ومحبة. رحل "زكي" الذي كان معلما من معالم هذا المشرق الانسانية والحضارية. رحل وقد زال قبله زمانا، المشرق الجميل لحساب الشرق الاوسط المخيف...

رحل زكي ناصيف بالجسد وبقيت موسيقاه التي هي مزيج من طنين النحل وخرير المياه المتفاعل مع الموسيقى الاسبانية والروسية والشرقية بنفح بتهوفني (من بتهوفن).

غادرت تلك الارض على أمل ان اكون دائماً للحياة والارض، على قدر ما اعطيت. غادرت ولن تغيب عن بالي اغنية انطونيو فرغاس لـ"امبيريو ارجنتينا" بصوته الملائكي. غادرت ولن تغيب عن بالي اشياء ابن شاكر ورشيدة ناصيف.

تعليقات: