هل يتّجه لبنان إلى الدولرة الشاملة ويستغني عن ليرته المنهارة؟


يطرح وصول سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء إلى 25 ألفاً علامات استفهام حول مصير #الليرة اللبنانية وإمكانية إعادة الثقة بها وسط الانهيار الحادّ للاقتصاد. وضمن إطار الحديث عن السياسة النقدية في لبنان، تبرز دولرة الاقتصاد كحالة مَرضيّة جاءت نتيجة تراكميّة لسنوات من الحروب والفشل في إدارة البلاد وما نتج عنها من غياب للثقة بالليرة والاقتصاد حتى في ظلّ عصر تثبيت سعر الصرف. أمّا الآن، فالوضع اختلف تماماً، ومصير الليرة هو سؤال المرحلة.

وإذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طرح مجلس النقد كحلّ لتثبيت سعر الصرف والحدّ من الانهيار، فإنّ المسار الطبيعي الذي يسلكه الاقتصاد اللبناني وسط غياب السلطة والمسؤولين هو الذهاب نحو #الدولرة الشاملة والاستغناء عن العملة الوطنيّة.

يَعتَبر صندوق النقد الدولي أنّ الخطوة الأولى التي تأتي بعد الدولرة الجزئيّة للاقتصاد هي إمّا الدولرة الشاملة، وإمّا اعتماد صندوق الإصدار؛ هذا ما أكّدته لـ”النهار” الخبيرة في الشأن النقدي الدكتورة ليال منصور.

وإذا كانت الدولرة الجزئيّة تعني استخدام عملة أجنبيّة إلى جانب العملة المحليّة في البلد بشكل طبيعي، فإنّ الدولرة الشاملة تعني الاستغناء عن العملة الوطنية والإبقاء على العملة الأجنبية المعتمدة. في لبنان، حالة الدولرة غير رسمية، فلا تقبل الدولة الحصول على الرسوم في داخل البلد إلا بالليرة اللبنانية.

وتسلك الدولرة الجزئيّة طريقها نحو السيطرة بشكل كامل على الاقتصاد لتصبح دولرة شاملة. فلَم يعد يوجد أيّ رادع أمام بعض أصحاب المولّدات باستيفاء فواتير اشتراكاتهم بالدولار الأميركي، ونرى أصحاب محالّ صيانة السيّارات يفرضون التّعرفة بالدولار، فضلاً عن محالّ الأدوات الإلكترونية وبعض أصحاب المهن الحرة من أطباء وغيرهم. حالة الدولرة غير الرسمية، والتي يمنع قانون حماية المستهلك فرضها على الزبائن، تنتشر بين القطاعات إلى درجة أنّ الموطن بات يعتاد فكرة التسعير بالدولار؛ فالحديث عن إطار سيّارة بـ50 دولاراً، أفضل من الحديث عن إطار بمليون و250 ألف ليرة لبنانيّة.

اتّسعت دولرة الاقتصاد اللبناني حتى تجاوزت الـ80 في المئة وفق منصور، التي شدّدت على أنّ “الدولرة تعني أنّ طلب الليرة اللبنانية قليلٌ، وهو لا يشمل أكثر من 20 في المئة من الاقتصاد”، وتعتبر أنّ “ذلك يفسّر انهيار العملات المحليّة في الاقتصادات المدولرة، ونزول سعر صرف الدولار إلى أدنى مستوياته التاريخية في لبنان”.

وشرحت منصور أنّ “الدولرة حالة اقتصاديّة مَرَضيّة، تدلّ على أنّ اللبنانيّين ليس لديهم ثقة بعملة وطنهم، وتُشير إلى فقدان الثقة بالسياسيّين أيضاً”، موضحةً أنّه “لهذا السبب يأخذ العملاء الاقتصاديون عملة أجنبية أخرى إلى جانب عملتهم الوطنية”.

وأشارت منصور إلى أنّ “إعطاء القروض المصرفية بالدولار الأميركي هو أخطر أمر، لأنّ المصارف تخلق عملة أجنبيّة لا يطبعها المصرف المركزي الوطني”، وفي لبنان وزّعت القروض المصرفية بالدولار على الأفراد من دون التأكّد من أنّ العائد الماليّ مقابل استثماراتهم سيكون بالدولار الأميركيّ كي تدخل دولارات مقابلها على الاقتصاد.

أمّام كلّ هذه الوقائع، قالت منصور إنّ “الدولرة هي الفشل في وضع سياسة نقديّة وعجز عن السيطرة على الفوائد وإدارة عملة البلد واستخدامها، لذلك وجب الاستغناء عنها”.

ما يحصل الآن في لبنان هو استغناء عن الليرة، والاتجاه نحو الدولرة الشاملة غير الرسمية وغير المنظّمة، ليأتي ذلك كمسار يسلكه الاقتصاد بنفسه من دون تدخّل السلطة. فالحالة الطبيعيّة تقتضي الاستيراد بالعملة الصعبة؛ وكي يستمرّ الاسيتراد وجب أن يحصل المستثمر على الدولار الأميركي.

ومن جهة ثانية، أيقنت الشركات والمؤسّسات التجارية اللبنانية أن سرّ صمودها وبقائها في الوسط التجاري يكمن في الاستثمار خارج البلاد وتصدير الخدمات والسّلع للحصول على مردود بالدولار، يضمن شراء الموادّ الأولية وتحقيق أرباح مُرضية للمستثمرين، بالإضافة إلى دفع جزء من رواتب الموظّفين بالعملة الصّعبة لضمان أمنهم الغذائيّ بالحدّ الأدنى.

وضمن هذا الإطار وجدنا مطاعم ومصالح تجارية عدّة تفتح في لبنان في سبيل فتح فروع خارج لبنان أو بيع الفرانشيز إلى أجنبي مقابل الحصول على بدلات بالدولار. ونلاحظ العديد من المحالّ التي تعرض السّلع بالدولار الأميركي مثل الدراجات الهوائيّة وغيرها. كلّ ذلك دلالة على تفتيش اللبنانيين عن الورقة الخضراء والاستغناء عن الليرة اللبنانيّة التي تنهار بشكل متواصل.

ولأن الدولة اللبنانية لا تضع أيّ إطار لتوسّع حالة الدولرة في لبنان، يصف الخبراء ما يحصل بالدولرة الجزئية غير الرسمية، التي تتّجه لأن تصبح شاملة، خاصة أنّه يوجد شبه إجماع علميّ على أنّه لا يمكن تحديد أيّ قاع لتدهور الليرة في ظلّ غياب المؤسّسات والخطط الاقتصادية ورجالات الدولة القادرين على التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

مقابل الدولرة الشاملة، يطرح خبراء فكرة “مجلس النقد” باعتبارها حلّاً للأزمة النقدية في لبنان، ومنهم الدكتور ستيف هانكي الملقّب بطبيب العملات. وتؤيّد منصور نظريّته بشدّة، وكانت قد تقدّمت باقتراح قانون بخصوص إنشاء مجلس نقد بواسطة النائبة بولا يعقوبيان قبل أن تستقيل.

يقوم مجلس النقد على أساس حجز العملات الصّعبة وتحديد سعر الصرف، على أن يكون مقابل كلّ وحدة نقدية من العملة المحليّة عدد محدّد من الدولارات. وإذا قرّرت الدولة أن تطبع عملة، فعليها تأمين دولارات تغطّي الكمّية التي توّد طبعها، وتالياً سينتظم أمر الاقتصاد ويتوسّع عندما تكثر التدفّقات المالية بالعملة الصعبة من خلال التصدير واستقطاب سيّاح، وغير ذلك من الطرق، ويضيق عندما تتقلّص التدفّقات النقديّة ويكثر الاستيراد من دون تأمين دولارات مقابلة.

مؤخرّاً، ذكّر ستيف هانكي في دراسة حديثة أنّ البنك المركزي اللبناني فشل فشلاً ذريعاً، مشيراً إلى أنّه “بالرّغم من وجود المصرف المركزيّ انخفض سعر صرف الليرة مقابل الدولار ليتحوّل من 1500 ليرة لبنانية إلى 22 ألفاً”.

وشدّد هانكي في دراسته على أنّ “فنزويلا في زمن السلم هي الدولة الوحيدة التي كان أداؤها أسوأ من الاقتصاد اللبناني”، معتبراً أنّه “في ظلّ غياب مجلس نقد في لبنان سيستمرّ سعر صرف الليرة اللبنانية بالهبوط إلى أن يُصبح لبنان بلداً مدولراً بشكل مطلق، من دون أيّ إرادة رسميّة. وقال: “شريحة الناس التي ستجبرها الحكومة على التعامل بالليرة اللبنانية ستصبح من الدرجة الثانية مقارنة بمن يستطيع التعامل بالدولار الطازج أو عبر الحسابات المصرفيّة الخارجيّة”.

تعليقات: