رودينا خشيش: «ب ۷»

لبنان، رحمَكَ اللّهُ يا وطني، فإنْ كان لا زال فيكَ رمق، اتَّصِلْ بي وأخبرني بأنّكَ ستحاول النّهوض من جديد، حتّى لو أصبح أبناؤكَ يتراشقون بال «ب ۷» عند محطّات الوقود. (الصورة: محطة توتال الخيام حين تحولت الى ساحة حرب)
لبنان، رحمَكَ اللّهُ يا وطني، فإنْ كان لا زال فيكَ رمق، اتَّصِلْ بي وأخبرني بأنّكَ ستحاول النّهوض من جديد، حتّى لو أصبح أبناؤكَ يتراشقون بال «ب ۷» عند محطّات الوقود. (الصورة: محطة توتال الخيام حين تحولت الى ساحة حرب)


بين الأمس واليوم، طفلةٌ أصبحَتْ إمرأة.. ووطنٌ، كان يستند إلى عكّاز، أصبحَ اليومَ مشلولاً بالكامل..

في وَهمِ "وطنٍ" ترعرعَتْ.. كَبُرَتْ فيهِ الخيبة وصَغُرَ فيهِ الحلم...

لطالما بكَتْ عليهِ لأنّها علمَتْ بأنَّه ما من دواءٍ لمرضِهِ سوى الإستئصال، عليهمُ استئصالَ وطني من وطني ثمّ انتظار أن يولَدَ من جديدٍ منَ العدمْ...

عانَتْ فيهِ من جحودِ الأصنامِ الحاكمة، من الوساطات والمحسوبيّات والمظاهر والفوضى والنّفوس الفاسدة..

ثمّ هربَتْ، من فسادِ حكّامٍ وصمْتِ محكومين.

هربَتْ من قَتْل الأمل في عيون المولودين الجُدُد.

هربَتْ من مورفينٍ غريب يخدِّر النّفوس، مورفينٍ يتنفَّسُه الجميع، ألحاكمُ والمحكومُ على حدٍّ سواء، فأمّا الحاكم فَينتشي على إثرِه، وأمّا المحكوم فيفعل فيه العَجَبْ فلا يؤتي بأيِّ حركة مهما تتالت على جسدِهِ الضَّرَبات ومهما مُثِّلَ به حيّاً.

هربَتْ من التّكرار الّذي يُسارِعُ بها نحو الهاوية، من الزّمنِ الّذي تنقُصُ فيه الأعمارُ ولا تزيد، فيرجعُ بنا من رسالةٍ إلكترونيّة عبر هاتفٍ محمول إلى رسالةٍ ورقيّة يحملها حمامٌ زاجل.

هربَتْ من وطنٍ لا يزالُ الماضي يتمسّكُ به ويشدُّه إليه، فلا هو قادرٌ على العيشِ في الحاضر ولا مستقبلٌ له يُؤَمَّلْ.

هربَتْ من وطنٍ تتحرّك فيه عقاربُ السّاعةِ إلى الخلف، إلى الماضي الّذي تختفي فيه أشكالُ الحياةِ والعَيشِ الكريم، إلى الماضي الّذي يجترُّ فينا من جديد تلك القمامة -غيرَ التي تملأ شوارعنا- إنّها قمامة الأفكار الهمجيّة، قمامة "شريعة الغاب" والطّائفيّة والإنفلات اللّاوطني.

في "وطني" يتنافسُ الحكَّام على قتلِ "وطني"، فيَفتِكونَ بهِ كلٌّ على طريقتِهِ، ويمارسون عليهِ أقسى أساليب التّعذيب، ثمّ يقذفونَ إليهِ بقطرةِ ماءٍ واحدة ولا يزالوا يُمنِّنوهُ بها طويلاً.

ها هي اليومَ تراقبُه من بعيد، نادمةً على مراقبته، فهي قد انقطعتْ عن متابعة أخبارهِ طويلاً، لأنَّ أخبارَهُ هي هي، والممثّلون هم هم لا زالوا يتربّعون على مسرحِ مجزرةِ الوطن، يرفضون بأن تُسدَلَ السّتارةُ أو بأن يتوقّفَ المحكومينَ عنِ التّصفيقِ لهم؛ يرفضون بأن يتزحزحوا عن خشبةِ المسرحِ المتصدّعة غيرَ آبهين إذا ما انهارَتْ تحت أقدامهم، فطائراتُهم الخاصّة تحلّقُ فوق رؤوسِهم وتنتظر إشارةً منهم لإنقاذِهم من الفناء.

فعمَّ أسكتُ يا وطني وعمَّ أتحدّث؟ وإلامَ أنظرُ وعمَّ أغضّ البصر؟

لقد خيّطْتُ جُفوني منذ زمنٍ بخيوطِ النّسيان... نسيانٌ إراديٌّ ليس بدافع اللّامبالاة بل لأنّه يؤلمني ما فيكَ يا وطني، وأكثر ما يؤلمني هو أنّي لم أعرف يوماً كيف أداويكَ، فكما يقول الأطبّاء "حالتُكَ نادرةٌ من نوعِها".

لكلِّ ذلك أصبح من الصّعبِ عليَّ أن أعود إليك، فتعالَ أنتَ إليّ، تَنَفَّسْ بعضاً من هوائي، وقاسمني رغيف خبزي والحليبَ الذي في ثلّاجتي والكثيرَ الكثيرَ من الحياةْ... فأنتَ حتماً تحتاجها لِتنتَعِشَ يا وطني بما أنَّ المستشفياتِ وغُرَفَ الإنعاشِ فيكَ قد أقفلَتْ أبوابها بعد أن يئسَتْ من معالجة وطنٍ تفشّى المرضُ في كلِّ خليَّةٍ من خلاياه.

"لبنان"، رحمَكَ اللّهُ يا وطني، والرّحمةُ تجوزُ على الحيِّ والميِّتْ، فإنْ كان لا زال فيكَ رمق، فاتَّصِلْ بي وأخبرني بأنّكَ ستحاول النّهوض من جديد، حتّى لو أصبح أبناؤكَ يتراشقون بال"ب ۷" عند محطّات الوقود، أخبرني بأنَّ قذائفَهم كانَتْ من حبٍّ وورود؛ أخبرني بأنّ المحكومينَ قد فكّ خَدرُهم واستيقظوا ليضمّدوا جراحَ الوطن، وحين لم يجدوا ضمّاداتٍ في أيِّ عيادةٍ أو مستشفى، جلبوا بعضاً منها من الرّفّ العلويّ في خزانة جدّتي القديمة... ولستُ أدري إن كانت ضمّاداتٌ تلك التي كنتُ أراها هناك أم لعلّه قماشُ كَفَنٍ عتيق...

فهلْ فكَّ خدرُهُم وأتَوا لإغاثتِكَ؟! أم لعلَّ النّارَ التي استعرَّتْ في دمائِهم فجأةً لم تكن بسبب الصّحوة المنتظَرة بل مجرّد مفعولٍ عكسيّ لجرعةِ مورفينٍ زائدة!

في وطني حكّامٌ مجرمونَ ومحكومينَ يتسارعونَ نحو الهلاك... وأنا أراقب، وأنت يا لبنان تراقبْ... فما رأيُكَ أن تتركهم وتستأجرَ وطناً في مكانٍ آخر، على كوكبٍ بعيد؟ وإذا ما اشتقْتُ لرؤيتك، لم أنظر إلى سوادِ الأخبار على مواقع التواصل الإجتماعي بل نظرْتُ عالياً نحو السّماء، لأراكَ مضيئاً في سواد اللّيلِ الحالك، مهلِّلاً فرحاً لأنّك استنقذْتَ نفسَكَ من نفسِكَ.

ويبقى رجائي الوحيد أن تجعل عنوانَكَ الجديد سرّاً بيننا وأن تقرأ رسالاتي التي أبعثها إليك "من مهاجر إليكَ يا وطني المهاجر" فكِلانا غريبٌ هاجر بحثاً عن وطن.


* رودينا خشيش (مونتريال - كندا)

تشرين أوّل ۲۰۲۱

تعليقات: