أسواق البقاع الشعبية.. بلا شعب الفقراء اللبنانيين واللاجئين

أسواق البقاع الشعبية تخليها كلفة النقل من روادها المعدمين (لوسي بارسخيان)
أسواق البقاع الشعبية تخليها كلفة النقل من روادها المعدمين (لوسي بارسخيان)


إذا كان ارتفاع سعر البنزين قد انعكس خفوتاً على مجمل حركة الأسواق الاقتصادية والتجمعات التجارية، وأسقط من أولويات اللبنانيين "متعة التسوق"، بعد إدمان فئات واسعة منهم عليه ولو تسكعاً في المجمعات التجارية الكبرى، فها أبرز مظاهر البؤس تتسع وتتجلى في تزايد عدد الأسواق الشعبية.


بقاع النزوح والفقر

والتسوق في هذه الأسواق ليس للمتعة، بل هو واجب ملح لتأمين الحاجيات الأساسية بسعر يوازي ما في الجيب. وبين المترددين على هذه الأسواق امحى تقريباً الفرق بين لبناني ومقيم على الأراضي اللبنانية لاجئاً في مخيمات اللجوء، وخصوصاً في البقاع. والقاسم المشترك بين البشر في هذه الحال هو الفقر الذي يساوي أيضاً بين البائع والشاري.

وفي البقاع تحديدا، حيث تميل البيئة السكانية والأهلية إلى ما هو شعبي، تتبدل في الأسواق الشعبية المتكاثرة وجوه الزبائن بين يوم وآخر، فيما الباعة هم أنفسهم لا يتبدلون، وكذلك البضائع المعروضة، مع زيادة ونقصان في بعضها بين سوق الإثنين في المرج، والثلاثاء في سعدنايل، والأربعاء في راشيا الوادي، والجمعة في دير زنون، والأحد في المصنع.

ومنذ الأزمة السورية يسيطر الباعة السوريون على مجمل الحركة الاقتصادية في هذه الأسواق، وخصوصا مع تدهور قيمة العملة اللبنانية، إلى حد لم يعد يسمح لفئات واسعة من اللبنانيين والبقاعيين بالحصول على نوعية البضائع التي كانوا يتميزون بها عن سواهم. ومع تبدل وجوه الباعة، يتبدل أيضا إقبال الزبائن – كان معظمهم من النازحين السوريين - فتتزايد حركتهم عندما يصرفون بطاقات تمويلهم التي توفرها منظمات الأمم المتحدة، لتتراجع بعد أسبوع واحد من ضخ الأموال الجديدة.

كساد النقل بالتوك توك

وبدأ يتوسع في هذه الأسواق اختلاط الجنسيات أمام بسطات الفاكهة والخضر وبعض أنواع المأكولات. وهي كانت تستقطب فئات من اللبنانيين، خصوصا في الفترة المسائية، حين تبدأ التصفية العامة على شتى أنواع المواد المعرّضة للتلف، فتباع بأسعار توازي القليل المتوافر في الجيوب الخاوية تقريباً.

لكن فئة لبنانية جديدة من الطبقة الفقيرة والمعدمة أضيفت إلى هذه الأسواق منذ بداية الأزمة الاقتصادية. وهي فئة مستخدمي "التك توك" وسيلة نقل مشترك مستجد ومتوسع في البقاع. لكن هذه الوسيلة الأرخص للنقل منذ بداية أزمة البنزين، لم يعد رخصها يخفف من كلفة النقل على هذه الفئات، فانعكس ذلك سلباً على الأسواق الشعبية.

على مدخل سوق سعدنايل الشعبي يوم الثلاثاء تبدو لافتة كثرة "التكاتك" المنتظرة زبائن السوق لنقلهم. ويقول سائق توك توك إن المشهد غير مألوف، وخصوصا في بداية النهار. إذ يفترض أن يشهد خط السير في اتجاه السوق حركة متواصلة من أنحاء البلدة والقرى المجاورة. ويعلل سبب انعدام حركة التنقل بارتفاع كلفة النقل الجديد للفقراء في البلدة من 3 آلاف ليرة إلى عشرة آلاف، بعدما ارتفعت كلفة ملئ خزان التوك توك من 27 ألف ليرة منذ بداية استخدام هذه الوسيلة، إلى 120 ألف ليرة بعد ارتفاع سعر صفيحة البنزين.

وارتفاع كلفة النقل هو القاسم المشترك الذي يعلل به أصحاب البسطات في السوق الشعبي، تراجع حركة مرتاديها. فغالباً ما تقصد ربات البيوت أو الرجال مع عائلاتهم السوق. وفي الماضي كانت كلفة الانتقال بواسطة الحافلات الصغيرة لا تتعدى ألف ليرة للشخص. أما اليوم، فإذا قصدت امرأة السوق مع ولدين فقط، فتدفع 30 ألف ليرة حداً أدنى و 30 ألف أخرى للعودة. وهذا ما يجعل الزيارة غير مجدية، خصوصا للذين يقصدون السوق لتبضع الحاجيات الاساسية والفاكهة والخضر. لأن شراءها من أقرب دكان قرب المنزل، أوفر ثمنا رغم فارق السعر بين المكانين.


ارتفاع كلفة البسطات

لكن ارتفاع كلفة انتقال الزبائن إلى هذه الأسواق ليس السبب الوحيد لتقلص فرق أسعارها عن باقي الأماكن. فهناك تضاعف كلفة نقل الباعة بضائعهم نحو خمس مرات، بسبب سعر البنزين الجديد. أضافة إلى رفع أصحاب الأراضي المخصصة للأسواق أجرة البسطة. وعليه اضطر الباعة إلى رفع أسعار بضائعهم، بما يتناسب مع هذه التكاليف، كي لا يختموا أيامهم بخسارة بدلا من الربح.

وتتجلى تداعيات هذه الأزمات نموذجياً في سوق سعدنايل الشعبي، حيث يبرز التفاوت في حركة الإقبال بين بسطات بلا زبائن، تعرض ملبوسات للكبار والصغار وكماليات، وأوان منزلية، وبعض أنواع المأكولات كالمكسرات والحلويات والكعك، التي كانت تضفي شيئاً من البهجة على مهمة التسوق.

فبعد ارتفاع سعر "بيجاما الأطفال" من 10 آلاف ليرة إلى 100 ألف في هذا السوق، لم يعد شراءها ملحاً لكثرة من العائلات. ولم يعد يبتاع هؤلاء من الحلويات إلا لتناولها وقوفاً أمام البسطة، فيما أسقطت من أنواع القلوبات "الفواحش" - وفقا لتعبير أحد باعتها - أي الفستق الحلبي والكاجو الذين يأتيان من سوريا.


حرمان من ثياب البالة

وتشكو إحدى السيدات التي كانت تتردد إلى السوق مع ابنتها منذ سنوات، من "الغلاء الفاحش". وتقول: "كنا قبل الأزمة نبتاع حاجة منازلنا لأسبوع بمئة إلى مئة وخمسين إلف لير كحد أقصى. أما اليوم فنبدأ بخمسين ألف ليرة للوصول إلى السوق".

ويتكاثر زبائن بسطات "الباليه" أو الثياب المستعملة التي ارتفع سعرها أيضا، قياسا إلى ارتفاع سعر الدولار. يكفي مشهد الناس وهي تحاول إخراج قطعة تناسبها من بين أرتال الملبوسات المرمية عشوائياً على البسطات، للتأكيد على حاجة هؤلاء الملحة لهذه الثياب البالية. كثرة من زبائن الملبوسات الجديدة انتقلوا إلى البالات. ويشكو من كانوا زبائن معتادين لبسطات الباليه من إرتفاع أسعارها. "فبات حتى المستعمل محرما علينا" تقول إحداهن.


أسواق شعبية بلا شعب

لم تعد الأسواق الشعبية سوى مقصد للحصول المأكولات الرخيصة: محاولة للفوز بأكبر كمية من تفاح كاسد بأقل كلفة، وبكمية من الثوم الفلت في نهاية النهار، والسعي وراء عنب فرط، كمؤشر مؤلم لفقر زاحف حتى على هذه الأسواق للفقراء.

يشكو أصحاب البسطات من أن تتحول الأزمة إلى سبب لإنهاء الفورة الإيجابية التي شهدتها الأسواق الشعبية في مرحلة سابقة. وهم يتحدثون عن تجار كثر أفلسوا، لتتحول أجزاء من الساحات المخصصة للأسواق الشعبية مواقف سيارات. وحتى الزحمة التي كانت تتسبب بها هذه الاسواق اختفت من محيطها. وهذه كلها مؤشرات سلبية يخشى أصحاب البسطات أن تقود إلى تجفيف مصدر رزق آخر يعول عليه معظم من "يبسطون" في هذه الأسواق لتأمين مصدر رزق يومي لهم ولعائلاتهم.

تعليقات: