المونة البقاعية: الله يرحم إيام زمان


شارف شهر «الميم» أو شهر «المونة» في البقاع على الانتهاء، فيما إنتاجه لم يُنجز بعد. في الواقع، حلّ مشكلة المازوت لا يزال مؤجّلاً إلى حين انجلاء الصورة بشكل أوضح، خصوصاً في ما يتعلّق بالمازوت المنزليّ الإيرانيّ، والذي سيتمّ توزيعه وفق أسعار محددة.

تجهيز «المونة» البيتية يُعدّ من الأساسيات في معيشة أبناء القرى والبلدات البقاعية، باعتبارها هوية شعبية، وأحد أوجه التراث البقاعي الذي تناقلته الأجيال، نظراً إلى ضرورته وحاجة الأهالي له، والفقراء منهم تحديداً، خصوصاً في قرى الأطراف التي تُعزل في فصل الشتاء بالثلوج، وتندر المحاصيل الزراعية فيها. أما وقد بلغت الأزمة المعيشية والاقتصادية الذروة في ظل تدنٍّ كبير في القدرة الشرائية والرواتب، وجدت العائلات البقاعية نفسها أمام استحقاق قاسٍ بكلّ تفاصيله، يضاف إلى غيره من الاستحقاقات في شهر أيلول.

وترتبط المونة البقاعية بشكل وثيق بالمنتوجات الزراعية الصيفية بسائر أنواعها، إذ لا يمكن تأجيلها، وإلا سيداهمهم الوقت ويخسرون مونة شتائهم. فمن البندورة العمّانية والباذنجان إلى الكشك وأنواع المخللات (الكبيس)، والمربّيات وسائر الحبوب من فاصولياء وبازيلاء وحمّص، والملوخية وغيرها، تطول اللائحة التي تُرهق كاهل العائلات.

وأمام ارتفاع الأسعار وجشع التجار تحديداً، لم تجد العائلات البقاعية سبيلاً للمونة إلا بالتخلّي عن بعض هذه المأكولات، والتقليل من بعضها الآخر، فضلاً عن تجزئة الكميات بما يتناسب مع «بقايا الرواتب»، كما تقول غادة، الموظفة في إحدى الإدارات الرسمية والتي لا تُخفي أن الراتب «ما عم يكفي. والله يرحم مونة إيام زمان، إيام ما كان في خير».

تشرح الأم لأربعة أولاد، أنه وعلى الرغم من راتبها وراتب زوجها، لم تتمكن من إنجاز سائر أنواع المونة، بسبب التكاليف الكبيرة لتحضيرها، موضحةً أن مونة الكشك وحدها تتطلّب مليون ونصف ليرة، بكمية أقل من عشر كيلوغرامات فقط، بسبب ارتفاع سعر البرغل واللبن ستة أضعاف عما كان عليه في السنوات الماضية.

من جهتها، أنهت فاطمة غريب مونتها الشتوية، ولكن بكمّيات أقل من الأعوام الماضية. فبعدما كانت تحضّر «مدّ» من الكشك، أي نحو عشرين كيلوغراماً، تقلّص إلى نصف مدّ، بما يتناسب وسيولتها المالية. أما مكدوس الباذنجان، فتراجعت الكمية من 150 كيلوغراماً إلى 75 كيلوغراماً، بسبب الارتفاع الكبير بسعر الفليفلة والحر، والباذنجان الذي أصبح بـ8000 للكيلو، فيما بلغ سعر كيلو الجوز 150 ألفاً والفستق 100.

ولا تقتصر المونة البيتية البقاعية على الكشك والمكدوس، وإنما تشمل أيضاً أنواعاً عديدة، كالمخللات: 12 ألف لكيلو المقتي، و14 ألف للخيار. أما بالنسبة إلى المربّيات، فيبلغ سعر كيلو معقود التين 12 ألف، و8000 للمشمش، ناهيك عن ارتفاع سعر السكر.

بدورها، تُعَدّ الحبوب على أنواعها، من البازيلاء والفاصولياء والحمص والعدس والبرغل بمختلف أنواعه، من المونة الزراعية التي يجنيها المزارعون صيفاً، ولا تشكّل عبئاً عليهم، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لمن لا يزرعها. وإذا كانت غالبية العائلات الفقيرة والمحدودة الدخل قد قلّصت وجزّأت مونتها، فإن أنواعاً من المونة لم يقربها حتى أي من تلك العائلات، كالقاورما واللبنة البلدية والقنبريس والشنكليش، نظراً إلى ارتفاع أسعارها الجنوني، ما جعل الرفوف تخلو منها.

وقد فرضت أزمة المحروقات على العائلات أعباءً إضافية على تكاليف المونة، ومن بينها الغاز، ما اضطُر البعض إلى الاعتماد على الحطب، في حين رضخت الغالبية لجشع التجار واختارت شراءه بأسعار السوق.


المكدوس البقاعي معدّلاً: الفلفل بديل الجوز!

كوثر ياسين

لم تعد المؤونة البقاعية فلكلوراً يتباهى به اللبناني، بل حوّلتها الأزمة الاقتصادية إلى طوق نجاة لبعض الأسر البقاعية، التي وجدت في بيع المؤونة وسيلة لكسب المال في ظل اشتداد الأزمة، وأداة يلجأ إليها المواطنون تخوّفاً من فقدان المواد الغذائية من الأسواق، والارتفاع الجنوني للأسعار، بعد رفع الدعم كلياً عنها.

اشتهر البقاعيون بتحضير المؤن الغذائية، التي تندرج في إطار سياسة التدبير المنزلي، وأبرزها المكدوس البقاعي. في الواقع، يُعدّ هذا الصنف أحد أكثر أنواع المؤونة البقاعية انتشاراً، كونه من الأطعمة التي يتوارثها البقاعيون جيلاً بعد جيل، والذي رافقهم في الشح والرخاء. وهم يباشرون تحضيره عادة في شهر أيلول من كل عام، تزامناً مع زراعة الباذنجان.

وجرت العادة بأن تحضّر العائلة البقاعية كميّة تكفي لعام كامل من هذا الطعام، المكوّن من الباذنجان المحشو بالجوز والفليفلة والثوم والبهارات، والذي يوضع داخل وعاء زجاجي مليئ بالزيت، ويُدّخر في غرفة تعرف باسم «بيت المونة»، ويُقدَّم عادة إلى جانب أصناف الفطور الصباحي، مثل الألبان والأجبان والزعتر.

تجتمع عائلة عقيل حول موقدة سلق الباذنجان، لتعدّ مؤونتها المنزلية، آملةً بأن تخفّف عنها بعض الأعباء المعيشية الملازمة لها طيلة العام. في السياق، تقول فاطمة عقيل إن «الأزمة أثّرت على كل تفاصيل الحياة، ووصلت آثارها إلى موائد الطعام». وتتابع: «قبل بدء الأزمة، كنّا نحشو المكدوس بالجوز البلدي والزيت الطبيعي، ونحضّر أكثر من 80 كيلوغراماً من المكدوس. أما هذه السنة، فقد أبدلنا الجوز بالفستق لأن كلفته أقل، واكتفينا، في بعض الأحيان، بحشوه بالفليفلة الأرخص ثمناً، مع خفض كمية المكدوس إلى ما دون الـ50 كيلوغراماً».

تشكّل مؤونة المكدوس مورد رزق لهناء الساحلي، التي اعتادت على تحضير ما يقارب الـ 800 كيلوغرام من المكدوس المحشو الجاهز، وبيعه إلى زبائنها. بيد أن الأزمة ألزمتها بتقليص الكمية إلى 400 كيلوغرام، نظراً لارتفاع الأسعار الفادح. فقد بلغ سعر الكيلو الواحد من الباذنجان 7000 ليرة، بعدما بيع في السنوات الماضية بألف ليرة لبنانية. ووصل كيلو الجوز إلى 150 ألف ليرة، بينما كان لا يتجاوز الـ40 ألف ليرة لبنانية في ما مضى. هذا وقد تخطّى سعر كيلو الفليفلة الـ9000 ليرة لبنانية. ولم تقتصر التكاليف على هذا الحدّ، فأسعار الزيت والغاز ارتفعت أيضاً.

في المقابل، تعتبر الساحلي أن أي تقليص في المواد يؤثّر على جودة المكدوس، يعقبه إتلاف كامل للموسم، «وما زاد الطين بلّة» هو شحّ المحروقات وغلاؤها، ما أدّى إلى ازدياد التكاليف وتفاقمها، تبعها ارتفاع حتمي في أسعار المكدوس المحشوّ المهيّأ للتموين، على حدّ تعبيرها. غير أن ارتفاع كلفة المبيع لا تزيد من سقف أرباح هناء الساحلي، بل تردّ الكلفة مع هامش ضئيل من الربح. لكنها قانعة رغم تدنّي مبيعاتها بنسبة 40%.

وعن التفاوت الواضح في أسعار الباذنجان، والذي ازداد بنسبة ثلاثة أضعاف عن العام الماضي، يستعرض عبدو نصّار، أحد مزارعي الباذنجان، سبب هذا التباين، مشيراً إلى التصاعد الملحوظ في أسعار الأدوية والمواد الزراعية، إضافةً إلى الإضطرار أحياناً إلى تأمين مادة المازوت من السوق السوداء، والتي كبّدت المزارع تكاليف باهظة، ما أجبره، مثلاً، على تقليص اليد العاملة ورفع التسعيرة.

وربما ما أنقذ المزارعين هذا العام من الخسائر المتوقعة نتيجة ارتفاع الأسعار، هو حاجة القروي الشديدة لهذه المؤونة، في ظل وضع اقتصادي يعجز فيه المواطن عن تأمين أدنى احتياجاته الغذائية.

بدورها، تتّجه بعض العائلات إلى شراء مؤونة المكدوس، بدلاً من إعدادها في المنزل. وبلغ سعر كيلو المكدوس المحشوّ 70 ألف ليرة لبنانية، بعدما كان يبلغ 35 ألف ليرة لبنانية في السنوات الماضية، ما دفع إلى تقليص الكمية المخصصة للتموين إلى النصف.

المكدوس البقاعي معدّلاً: الفلفل بديل الجوز!
المكدوس البقاعي معدّلاً: الفلفل بديل الجوز!


تعليقات: