التقسيم ينفجر بأهله: محطة الحرج نموذجاً


مشهد النيران المشتعلة في محطة تحويل الكهرباء في الحرج ــــ قصقص ثبّت، بأسوأ طريقة، ماذا يعني أن تحلّ الفوضى مكان الدولة المتخلّية عن دورها في ضبط الأمن والنظام. ثماني محطات تحويل سبق أن أعلنت كهرباء لبنان أنها خرجت عن سيطرتها بعدما احتلّها «محتجّون» في مختلف المناطق، وخاصة في بيروت والجنوب والشمال. وهذا ليس سوى جزء من مشهد الفوضى المتنقلة بين أكثر من منطقة، والتي تتمثل بزيادة المظاهر المسلّحة وزيادة الحوادث الأمنية الناتجة من السعي إلى تناتش الموارد القليلة المتبقية.

عندما تعم الفوضى، سريعاً يحضر التقسيم، على قاعدة أنا ومن بعدي الطوفان. وهذا ما يحصل فعلياً. يكفي أن تكون المنشأة الحكومية، إن كانت محطة تحويل أو معملاً أو خزانات محروقات أو محطة مياه، في منطقة معينة، حتى تُعتبر من حق أهل المنطقة دوناً عن غيرها. هذا تماماً ما حصل في محطة الحرج ويحصل عندما تُصادر شاحنات المازوت لأن «منطقتنا أحق»، ومُرجّح أن يحصل في أي مكان. وآخر التهديدات طاولت معمل دير عمار، حيث وُزّعت، أمس، رسالة عبر «واتساب» موجهة إلى «أهالي دير عمار والمنية والجوار»، تدعوهم إلى الاعتصام أمام المعمل. مطلبهم هو «إنصاف مناطقنا لأن لنا أفضلية بالكهرباء عن باقي المناطق». كما حذّر الداعون إلى التحرك من أنه «في حال عدم حصولنا على حقنا في الكهرباء، سنذهب إلى التصعيد وقد أعذر من أنذر»، علماً بأن هذا التحذير لم يكن الأول، إذ شهدت المحطة ليل أول من أمس حريقاً صغيراً عند السياج، سرعان ما تم احتواؤه.

يوم السبت في 14 آب الحالي، صدر بيان عن كهرباء لبنان يعلن أن عدداً من محطات التحويل تتعرض لاعتداءات يومية، حيث يقوم مواطنون بالدخول إليها والاعتداء على المناوبين والعاملين فيها وإرغامهم على إعادة التيار الكهربائي عنوة إلى مناطق محددة. وأشارت المؤسسة حينها إلى أن المحطات التي تشهد هذه الاعتداءات هي: الحرج، البسطة، بيت ملات، صور، صيدا، بعلبك، المصيلح، الزهراني ووادي جيلو. وبالفعل، كانت النتيجة تنعّم المناطق التي تستفيد من هذه المحطات بـ 12 ساعة يومياً من التغذية، ما أدى تلقائياً إلى حرمان مناطق أخرى من ساعات التغذية المحددة لها.

بعد يوم واحد، عادت المؤسسة وأعلنت خروج المحطات الثماني عن سيطرتها بالكامل، فيما كانت التهديدات تطاول القيّمين على محطات أخرى، مناشدةً القوى الأمنية التدخل لاستعادة السيطرة على المحطات للحؤول دون الوقوع في المحظور وحصول انقطاع كامل للكهرباء.

لكن ما حذّرت منه المؤسسة (الانقطاع الشامل للكهرباء) حصل فعلاً، وليس مرة واحدة، بل 5 مرات خلال يومين. أما السبب فيعود إلى انخفاض تردد الكهرباء عن 50 هرتز، نتيجة تحويل الطاقة إلى مناطق محددة من دون مراعاة الأصول التقنية وقدرة الشبكة وحجم الإنتاج.

بالنسبة إلى محطات الجنوب، كان واضحاً أن مناصرين لحركة أمل هم من قاموا بإلزام المناوبين بتغذية المخارج المستفيدة بأكثر من 12 ساعة يومياً، تحت طائلة الدخول إلى المحطات والتحكم بالمخارج. ولذلك، عندما حصل الانقطاع الشامل، أبلغت «كهرباء لبنان» المعنيين أنها لن تعيد تشغيل المعامل إلا في حال عودة التوزيع إلى طبيعته، انطلاقاً من أن بقاء الوضع على ما هو عليه، سيعني المزيد من الانقطاعات الشاملة. وعلى هذا الأساس انتهى مفعول النعمة التي عاشها بعض الجنوب (على حساب بعضه الآخر بالدرجة الأولى) وتحديداً في عطلة نهاية الأسبوع. ومن منطق الكانتونات نفسه، نظّر البعض إلى حق أهالي الجنوب من الاستفادة من معمل الزهراني أسوة بغيرهم من المناطق.


احتراق محطة الحرج جعل المناطق التي تنعّمت بالكهرباء لأيام تقع في ظلام كامل لفترة يُتوقع أن تطول

انتهت معضلة محطات الجنوب، وبقيت مشكلة سيطرة الأهالي على محطة الحرج تحديداً، لكونها محطة أساسية تضم أربعة محولات و45 مخرج تغذية. وقد تحكّم بها شبان من المناطق المحيطة، فوجّهوا التغذية إلى مناطق الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة ومحيطهما، مقابل حرمان مناطق شاسعة في الضاحية (يتغذى 40 في المئة منها من المحطة) لأكثر من ثلاثة أيام. وتعرض الموظفون لضغوط كبيرة، اضطرت اثنين منهم إلى مغادرة المحطة خوفاً على سلامتهما، فيما بقي موظف واحد يدخل ويخرج من المحطة بمواكبة أمنية وبرفقة فعاليات المناطق الذين تدخّلوا لمنع الشغب.

مع بقاء الوضع على ما هو عليه، تدخل الجيش لإيجاد حلّ لمشكلة السيطرة على المحطة. لكن ذلك لم يف بالغرض. إذ زادت أعداد الناس داخل المحطة، وأبلغ الجيش المعنيين أنه لن يتمكن من فعل شيء. وعلى الأثر، ذهب النقاش في المؤسسة إلى احتمال إطفاء المحطة بالكامل. لكن قبل أن يُحسم النقاش، احترقت المحطة بفعل انفجار وقع في تمام العاشرة من مساء أول من أمس، جعل كل المناطق التي تنعّمت بالكهرباء لأيام، تقع في ظلام كامل لفترة يُتوقع أن تطول.

بعد الكشف على المحطة أمس، تبيّن تضرر أجزاء كبيرة منها ومن المخارج. وفيما ذهبت التحقيقات الأولية إلى استبعاد وجود أمر مُدبّر أو مفتعل، حُمّلت المسؤولية للفوضى التي شهدتها المحطة وأدت إلى زيادة الضغط على المحوّلات و«الترانسات» وتحويل التغذية إلى المناطق بشكل عشوائي من دون مراعاة الضوابط الفنية، وبالتالي إلى احتراقها قبل انفجارها، علماً بأن المؤسسة أشارت في بيان أمس إلى أن المحطة كانت تشهد «تعدّيات من قبل بعض الشبان الذين عمدوا الى الدخول الى المحطة والعبث بلوحات التحكم والحماية، وهي كانت خارجة عن سيطرة المؤسسة طوال الأيام الأخيرة».

كذلك من الفرضيات التي لم يتم التركيز عليها هو احتراق المحطة، نتيجة رمي جسم حديدي تسبب باحتكاك نجم عنه شرارات كهربائية قوية وحرائق. لكن الفنيين كانوا واضحين في عدم حسم أي فرضية بانتظار التحقيق الموسّع.

وبحسب الكشف الأولي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوضع الحالي للمحطة لا يسمح بتقييم دقيق للأضرار قبل القيام بأعمال التنظيفات، تم التأكد من أن غرفة خلايا التوزيع الرئيسية التابعة للمحول رقم واحد على 220 ك.ف. (تتضمن المحطة أربعة محولات، اثنان منها على 220 ك.ف. واثنان على 66 ك. ف) متضررة بشكل محدود. ومن أصل 45 مخرجاً (يغذي شارعاً أو مجموعة أبنية أو حيّاً)، تبين أن عشرة مخارج لحق بها الضرر بشكل كبير، مقابل 30 مخرجاً ضررها محدود، فيما بقيت خمسة مخارج سليمة لبُعدها عن مركز الحريق. وفيما لم تحدد مصادر المؤسسة الفترة التي تحتاج إليها لبدء عودة التيار، أكدت أنه طالما أن الضرر لم يطل المحولات (شبكة النقل)، فإن إعادة العمل بالمخارج (شبكة التوزيع) قد لا تحتاج إلى وقت طويل. وهو سيبدأ، تدريجياً، مباشرة بعد إجراء كل الاختبارات اللازمة، فيما يتوقع أن يحتاج العمل في المخارج العشرة المتضررة إلى وقت طويل نسبياً.

وقد أعلنت المؤسسة أن التحقيقات الداخلية جارية بغية معرفة أسباب الحادث، مع العلم بأن المناوب قدم إفادته لدى الأجهزة الأمنية فور حصول هذا الحادث، وهي قيد المتابعة من قبلها. كما أوضحت إن إعادة التغذية الكهربائية عبر هذه المحطة الى جزء من المشتركين متوقعة خلال أيام قليلة، ولا سيما أن أعمال التنظيف انطلقت منذ اليوم (أمس)، كما أن المؤسسة تسعى إلى تأمين القسم الآخر بالحد الأدنى الممكن من خلال خطة عمل عبر ربط بعض المخارج بالمحطات المجاورة في الحازمية والضاحية والأونيسكو والبسطة.

تعليقات: