الملاهي والمطاعم تعجّ باللبنانيين رغم المآسي

الملاهي والمطاعم تعجّ باللبنانيين (لقطة من مطعم في بيروت- نبيل اسماعيل)
الملاهي والمطاعم تعجّ باللبنانيين (لقطة من مطعم في بيروت- نبيل اسماعيل)


سرعان ما استبدلت ستيفاني غنطوس (41 سنة) صورتها على "فايسبوك" أمام شاطئ البحر، ممهورة بفلتر "ناطرينكن نصيّف سوا"، بأخرى "بدون مظاهر سعادة وترفيه؛ باتت صور نزهاتي الصيفية أو خروجي إلى الملهى أو البحر تستفزّ المحيط"، تقول زوجة التاجر المقيمة في منطقة البترون، التي تشهد موسمًا سياحيًا يصنّف الأقوى في لبنان. وبطبيعة الحال، يستمتع أهالي المدينة بمن فيهم الزوجان غنطوس بالموسم السياحي، ويقصده لبنانيون للسياحة الداخلية كأنّ البلاد على خير ما يرام.

وفق ستيفاني، التردّد نابع من "شعور متناقض بين محاولتي بأن أستمتع بالصيف، وسؤالي الدائم لنفسي: هل هذه النشاطات تجعلني حقًا سعيدة؟ لا أعتقد أنّ خروجي الموقت من الجحيم اليومي أستحق أن أُحسد عليه. ثمّ إنّ شعوري عند التمتع بسهرة أو بعشاء فاخر في مطعم، مزدوج ومتعب، بين أن أعيش اللحظة، وبين عدم قدرتي على عيشها كما قبل، لأنّ غيري يعاني ولا يملك المال".

أمّا سمر حولي (32 سنة)، فتوقّفت منذ شهور عن مشاركة صورها بثيابها الجديدة، وهي من هواة التسوق، أو تناولها العشاء يوميًا مع صديقاتها في المطعم، لأنّ "السؤال "من أين لك هذا؟" بات محرجًا، إلا أنه مشروع ومفهوم، لأنّني معلمة في مهنيّة رسمية. لكنني غير قادرة على الغوص بمأساتي اليومية. أريد أن أعيش"، موضحة "لولا حوالة شقيقي الشهرية من أوستراليا، لما تمكّنت من الحفاظ على هذا النمط. لكنه بلا طعم ولا لون ككلّ الأيام التي تصنع أعمارنا المهدورة".

تجسّد المواطنتان صورة نمطية عن اللبناني الذي تلازمه تهمة "بيتديّن ليتزيّن"، على ما يقول المثل الشعبي. لكنّ فرحه المؤقت، السطحي، سرعان ما تتبخر، إلا أن من يراقبه يحسده على حالة "انفصام" أو انفصال عن واقعه. من زاوية أخرى، هل قدرة اللبناني الخارقة على التأقلم مردّها "المرونة" المعروف بها، حتى جعلته التجسيد الانساني لأسطورة "طائر الفينيق" الذي ينتفض يوميًا من رماد الأزمات المستفحلة والمستجدة؟


هروب وخيبة

المحلل النفسي ورئيس قسم الطب النفسي في مستشفى جبل لبنان، الدكتور شوقي عازوري، يفسّر هذا الواقع بالقول: "لا نستطيع الكلام عن "انفصام" أو "مرونة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إنما يبدو من الصواب تشخيص هذه الحالة كردّ فعل ملازمة للجماعات الانسانية، حين تعاني عذابًا شديداً ومتجذراً كحروب أو أزمات هائلة أو #حداد على موتى، فهي تلجأ إلى طريقة من أجل تخفيفه أو الانعتاق منه من خلال إنكار هذه المعاناة، متظاهرة كأنّ شيئًا لم يحدث؛ قياسًا، يلجأ لبنانيون للترفيه عن أنفسهم والسهر والتسوق ويترددون إلى أماكن اللهو ليخففوا من وطأة الوجع"، في مثال تبسيطي عن هذه الحال "حين يريد الحزين أن ينسى، يسكر".

إزاء استمرار هذا الإنكار، يتساءل كثيرون عن مآل الغضب الشعبي، في ظلّ لجوء الناس الى متنفسات، أي دور يلعب "الهروب إلى الأمام" في تنفيس غضبهم أيضًا، الذي اشتعل في 17 تشرين بسبب خدمات الواتساب، فيما لم تشهد الساحات أي تحرك بالزخم الذي حدث منذ سنتين بالرغم من تضاعف الأزمات وتقاطعها مع صدمة 4 آب.

برأي الدكتور عازوري، إنّ أجيال 2005 شهدت محاولة تغييرية غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، احتشد لها أكثر من مليون مواطن في ساحة الشهداء، جسّدوا وعيهم وتضامنهم في رفض الوضع السياسي. إلّا أنّ الخيبة سيطرت على هذه الشريحة الواسعة، حين تبيّن لها أنّ الأفراد والتكتلات السياسية المنضوية تحت 14 آذار سعت لتحقيق مصالحها الخاصة لا الوطنية مثلما كانوا يعتقدون.

ومنذ ذلك الحين، "لم يتوقّع أحد أن تعود صورة "الثورة" بهذا الزخم الى الشوارع في عام 2019، ذلك أنّ توقيت تبلور الوعي لدى الناس من الصعب تفسيره للإجابة عن سؤال "لماذا الآن؟".


حداد الشعب واعتراف المسؤولين

يرى الاختصاصي النفسي أنّ الحلقة الأساسية المفقودة في تكوين الوعي لدى اللّبنانيين، هي في أن يخوضوا في "الحداد" الذي لم يعيشوه في مراحله كافة.

هذا الحداد، يرتبط "ليس فقط ب#انفجار 4 آب حديث الوقوع، إنّما ينسحب على الحرب الأهلية في عام 1975 مرورًا بكلّ المحطات التي حصدت ضحايا وشهداء ومفقودين بسبب صراعات الطبقة السياسية. لو عرفت هذه الطبقة ورؤساء الحرب الموجودون في سدّة الحكم، أنّ ذكرى 4 آب كانت فرصة أخيرة أجهضها هؤلاء في مصالحة اللبنانيين معهم، كان من شأنها أن تقلب الصفحة الموجعة من تاريخ لبنان إلى الأبد".

ويوضح: "لو ظهر المتورطون من السلطة واعترفوا قائلين: "نحن المجرمين"، "أنا من تغاضيت عن وجود نيترات الأمونيوم"، "أنا من تراخيت في مسؤولياتي ولم أجنبكم هذه الفاجعة"، ثم طلبوا السماح، لحصلوا على هذا السماح ولتسكّرت كلّ الجروح المفتوحة والمتوارثة منذ حرب الـ75.

بمعنى أنّ "اللبنانيين يجب أن يعرفوا حقيقة مأساة 4 آب ومثيلاتها: عليهم أن يعرفوا ما حدث بالفعل ومن فعل هذا، ومن اتخذ أي قرار بأمر مِمَّن"، إذ "لا مصالحة بدون مصارحة. ولتحقيقها من الضروري أن تتخذ العدالة مجراها حيال الطبقة السياسية. هذه المصالحة، ستسمح للبنانيين بأن يعيشوا حدادهم حتّى النهاية، ويرتبطوا مع الواقع بعلاقة غير مضطربة. أمّا الآن، فغالبية اللبنانيين يعيشون كالأشباح، أي لا هم أحياء ولا موتى، وهذه من أصعب الاضطرابات النفسية التي يعيشها الإنسان، وها هي تستفحل مع الأجيال اللبنانية".

ويعطي عازوري مثالًا عن أحد ملفات لجنة "الحقيقة والمصالحة" التي تشكلت في تحديد وكشف أخطاء الماضي التي ارتكبتها حكومات على أمل الاعتراف بالأخطاء وجلاء "التوضيح التاريخي"، بهدف حل النزاعات التي خلفها الماضي في الدول الخارجة من اضطرابات داخلية أو حروب أهلية.

وفي أحد الملفات: اقترحت اللجنة، على متورطين في القتل والتعذيب ضمن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا المعروف بـ"الأبرتايد"، أن يظهروا في "شبه محكمة" أمام الأهالي، ومصارحتهم بتفاصيل الممارسات الشنيعة التي قاموا بها ضد أولادهم. المفاجأة أنّ الأهالي سامحوا المتورطين على الفور.

والتفسير لهذه المصالحة الفورية، وفق عازوري، هو أنّ "الحقيقة سمحت للأهالي بأن يعيشوا حدادهم. لأنّ قبل معرفة الحقيقة، يبقى الحداد مستحيلًا. فالحداد، بخلاف الشائع، يمرّ بمرحلة أولى من البغض أو الغضب الدفين يشعرها الشخص تجاه المتوفى، لسان حاله يقول "لماذا تركني؟".

لكن، "حين يقتل أحدهم فردًا من عائلتي، كيف أستطيع أن أبغض هذا الأخير وبالتالي البدء بالحداد؟ كما أنه في حالات كثيرة من الحروب والأحداث الأليمة التي دارت في لبنان، لا وجود لجثة يدفنها الأهل، ففعل الدّفن مفتاح أساسي للحداد، وغياب الجثة يجعل الحداد مستحيلاً".

ففي واقعة أخرى سجلتها اللجنة، "رجل كان يعذب أحد الصحافيين السود، اعترف لوالدة الضحية أنه هو من بتر يديه، وعندما سألته الأم ماذا حصل للجثة، اعترف أنه حرقها. فما كان من الأم إلا أن قالت له: "لا أريد سوى يديه اللتين لم تُحرقهما حتى أتمكن من دفنهما والبكاء عليه"، وسامحت المرتكب.

وواقع الحال، أنّ لا بوادر لانجلاء حقيقة أو اعتراف بانفجار 4 آب، بينما تتضافر الجهود المعيقة للتحقيقات، في ظلّ تقاذف الطبقة السياسية المسؤوليات بين "محاولة التسييس" ورفض رفع الحصانات. ويبقى جرح المواطن اللبناني والحال هذه مفتوحًا إلى الأبد، والحداد شفاء بعيد المنال.

تعليقات: