كلفة السكن أضعاف الرواتب.. المستأجرون والمُلاك في الفوضى والانهيار

استوديو صغير في الحمرا بـ600 دولار نقداً، مع الدفع سلفاً لشهرين بالدولار (علي علّوش)
استوديو صغير في الحمرا بـ600 دولار نقداً، مع الدفع سلفاً لشهرين بالدولار (علي علّوش)


انتقل أحمد وزوجته وولداه للسكن مع أهله في المنزل نفسه بمنطقة الكفاءات. عائلتان في منزل واحد من أربع غرف. القرار لم يكن سهلاً بداية، ولكن بعد ثلاث سنوات من إبرام عقد الإيجار بقيمة 750 ألف ليرة لبنانية شهرياً، أي ما يعادل 500 دولار قديم وفق سعر صرف الدولار الرسمي، قرر المالك أن يرفع قيمة الإيجار ليدفع المستأجرون 500 دولار نقداً، أو بالليرة وفق سعر صرف السوق السوداء، والتي تعادل سبعة ملايين و500 ألف ليرة تقريباً اليوم.

راتب محمد لا يتعدى مليونيّ ليرة لبنانية. وزوجته خسرت عملها في حضانة للأطفال بداية سنة 2020. والإيجار الجديد الذي طلبه المالك يشكل أضعاف راتبه. وحسب أحمد، فإن المالك هو من المغتربين في أستراليا، وقال له أن قيمة الإيجار باتت لا تتعدى 50 دولاراً.."ومش محرزة ضل مأجّر الشقة بهالمبلغ".


سكن جماعي

بعد ثلاثة أشهر من البحث عن منزل للايجار، يناسب دخل أحمد المحدود، رأى أن معظم الإيجارات تشكل نصف راتبه أو أكثر. ولذا صار مجبراً على اللجوء إلى منزل أهله للسكن مع أمه وأبيه. باع معظم أثاث منزله القديم، واحتفظ فقط بما يعوزه في الغرفتين المخصصتين لأسرته في منزل العائلة. "الانتقال إلى هنا يبقى موقتاً"، تقول زوجة أحمد، آملة أن تجد عملاً، ليتمكنوا من استئجار منزل صغير بقيمة مليون ليرة على الأكثر. فلا يوجد منزل بغرفتين أقل من هذا السعر، حتى في المناطق الشعبية.

بدأت أزمة السكن تحط رحالها في لبنان بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية. وأحمد هو مثال لحال كثيرين من اللبنانيين، انتهت عقود إيجارهم ولم يستطيعوا تجديدها نظراً لرغبة المالك برفع السعر أضعاف ما كان عليه. وهم الآن أمام رحلة طويلة من البحث عن منزل بإيجار يناسب قدرتهم المعيشية.


إيجار بلا عقود

فمروة مثلاً انتقلت من منزل أهلها إلى بيروت للعمل، منذ سنتين تقريباً. أي في بداية الأزمة الاقتصادية. وخلال السنتين في بيروت غيرت مكان سكنها 6 مرات، وارتفع مبلغ الإيجار من 350 ألف ليرة لبنانية إلى مليون و100 ألف ليرة. وراتب مروة يبلغ مليوناً و800 ألف ليرة لبنانية فقط. وبدل إيجار منزلها اليوم في منطقة الحمراء ببيروت، يشكل معظم راتبها، هذا عدا عن المصاريف الأخرى. "يطير راتبي قبل منتصف الشهر تقريباً". هذا ما تقوله مروة في حديثها إلى "المدن"، وتشرح ما واجهته وصادفته في كل مرة، بحثت عن منزل: "هناك عروض خيالية. استوديو صغير في الحمرا مثلا بـ600 دولار نقداً، مع الدفع سلفاً لشهرين نقداً بالدولار. وأيضا هناك عروض لاستوديوهات بالليرة اللبنانية، ولكن مرتفعة جداً تصل أحياناً لحد 3 ملايين ليرة. وأنا أفضل أن استأجر في الحمراء تحديداً كونها مكان عملي ولا أريد تكبد مصاريف المواصلات".

لا يوجد عقد واضح مبرم بين مروة ومالكي البيوت طيلة هذه الفترة. وهذا ما يضعها تحت خطر رفع الإيجار في أي لحظة يريدها المالك. واذا حاولت التفاوض مع المالك يكون الرد واضحاً: "كل شي بات باهظ الكلفة علينا، يمكنك البحث عن مكان آخر". وحسب مروة، خلال أشهر الصيف يفضل المالكون تأجير استوديوهاتهم وغرفهم للسياح الأجانب الذين يرتادون رأس بيروت، بشكل موقت، وذلك ليستفيدوا من الدفع بالدولار.


مطالبة بدعم الملاك

بيانات وإشكالات وبيانات مضادة تصدرها دائماً كل من نقابة مالكي الأبنية المؤجرة واللجان المدافعة عن حقوق المستأجرين. ولكن منذ سنة ونصف السنة تقريباً، لا يوجد أي بادرة حل تنصف المستأجر والمالك.

رئيس نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة، باتريك رزق الله، يقول في حديثه لـ"المدن" إن مالكي الشقق السكنية وغير السكنية "خسروا 90 في المئة من قيمة إيجاراتهم، بعد الأزمة الاقتصادية في لبنان. هذا، ولم يتم احتساب الخسائر التي يتكبدها المالكون القدامى في عقود الإيجار القديمة. وهي تشمل 25 ألف وحدة غير سكنية و9 آلاف وحدة سكنية". ويطالب رزق الله دعم قطاع تأجير الأبنية السكنية كبقية القطاعات، لأن المالكين ليس من واجبهم دعم المستأجرين. بل هذا دور الدولة.


عزوف عن التأجير

ويتخوف المالكون الآن، حسب رزق الله، من تكرار سيناريو الإيجارات القديمة. خصوصاً في ظل غياب دور القضاء والدولة في حمايتهم. وهذا ما دفعه إلى إطلاق صرخة تطلب من المالكين العزوف عن تأجبر البيوت إلى حين وضوح الصورة واتخاذ القرارات اللازمة لحماية القطاع. كما أن المالكين يفضلون عدم تأجير منازلهم بسبب ارتفاع كلفة الصيانة. ولدى سؤال النقيب عن الاعتراضات الموجهة ضد رفع الإيجارات، قال إنه من الطبيعي رفعها نظراً إلى أن الكثير من المالكين يعتاشون من إيجارات منازلهم، وتقع عليهم أعباء تأجير البيوت. فكيف يحق للسوبرماركت رفع أسعارها وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ولا يحق للمالكين هذا الأمر؟


فوضى وقلق المستأجرين

وفي حديث مع المستشارة القانونية للجنة الأهلية لحماية المستأجرين، المحامية مايا جعارة بردويل، توضح لـ"المدن" أنه من غير المنصف تسعير إيجارات المنازل بالدولار، أو حسب سعر صرفه في السوق السوداء. مشيرة إلى أن السكن هو حق، وليس سلعة يتم استيرادها من الخارج كالسلع الغذائية ليتم رفع أسعارها. وحسب المواثيق الدولية فإن كلفة السكن على المواطن يجب أن تشكل فقط 20 في المئة من دخله الشهري، لا نصفه كما هي حال كثرة من اللبنانيين. وأضافت، أن هذه المواثيق تقسم الدخل الشهري للمواطن على ثلاثة أجزاء: ثلث للسكن، ثلث للطبابة والتعليم، وثلث آخر للمأكل والمشرب.

وشرحت جعارة لـ"المدن" أن المالك لا يمكنه رفع الإيجار إلا بعد انتهاء مدة العقد، والمشكلة الأساسية الآن هي في عدم وجود نص قانوني ينظم ويمنع حتى إبرام عقود الإيجار بالدولار، أو يضع حداً لارتفاعها، أو حتى تحديدها وفقا للحالة المعيشية للمستأجر.

في ظل غياب كل هذه الإجراءات، تبقى الأمور فوضوية، ويضع اللبنانيين عموماً في أزمة سكن. ولفتت جعارة إلى أن المشكلة ستتطور بعد سنة تقريباً، وتصبح مستعصية، لأن ثلاث سنوات على الأزمة تكون قد مضت وانتهت معها أيضاً مدة العقود المبرمة سابقاً (وهي تقليدياً ثلاث سنوات). وحسب جعارة، فقد قرر العديد من المواطنين بعد انتهاء عقود الإيجار عدم تجديدها، نظراً لرغبة المالك برفع الإيجار ضعفأ أو ضعفين. ومنهم من عاد للسكن مع أهله.

"يعيش المالكون والمستأجرون أصعب الظروف". هذا ما قالته جعارة. وتابعت أن صرخات المالكين ومطالبتهم برفع الإيجارات وتحديدها حسب سعر الصرف غير منطقية، لأن المالك والمستأجر سوياً، تآكلت مداخيلهما. وهذا هو حال اللبنانيين جميعاً. فالقدرة الشرائية انخفضت، كما أن 90 في المئة من اليد العاملة اللبنانية تقبض راتبها بالليرة اللبنانية، وكلفة المعيشة ارتفعت إلى حد لا يقوى المواطن العادي على احتماله.

تعليقات: