البارد من الداخل: منازل وأحياء متروكة لرائحة الموت

منفذ جنوبي وحيد للنازحين وإجراءات أمنية مشددة!

البارد:

ماذا بعد؟ سؤال ملح يفتقر إلى جواب شاف في الوقت الراهن يريح قلوب الآلاف من لاجئي مخيم البارد، ويعطيهم بصيص أمل من خلف تلك السحابة السوداء يستدلون من خلاله على مستقبلهم ومصيرهم اللذين باتا بحكم المجهول، بانتظار معجزة ما تلهم من بيدهم الحل والربط، للوصول إلى خاتمة سعيدة تضع حداً لمعاناتهم.

هكذا هو حال أبناء البارد، الذين أخرجوا من «ديارهم» مرات ومرات على التوالي، ولكن بظروف ميدانية وأسباب سياسية مختلفة كلياً عن سابقاتها، وإن كانت متشابهة في المعاناة والمآسي وفي الطريقة التي بدت أشبه بصورة مستنسخة عن الرحلة الأولى.

جيل جديد كتب عليه أن يخطو خطى الآباء والأجداد.

كلمات مقتضبة، تلخص جانباً بسيطاً من معاناة نازحي البارد، الذين فضل قسم منهم يوم أمس، الرحيل ومغادرة منازلهم هرباً من واقع معيشي وإنساني مأساوي، وخوفاً من انهيار الهدنة وتجدد الاشتباكات وما يترتب على ذلك من مخاطر وتداعيات نفسية وجسدية، لخصتها الصورة على أرض الواقع داخل البارد، والتي تجسدها صور البيوت المدمرة، والأزقة والطرقات التي تغيرت ملامحها بشكل جزئي، ومعهم الجرحى والقتلى، كلها مسائل تبدو كنتيجة حتمية لحماوة المعارك التي دارت رحاها على مدى ثلاثة ايام متتالية.

هناك، داخل المخيم تركت الشوارع للسكون الموحش. بعض الجثث المتروكة تعزز الشعور برائحة الموت والرصاص تجتاح الأنفاس فيما تتلقفك مشاهد الدم وأثار الإشتباكات على جدران المنازل والمحلات. هنا قفزت النوافذ لتحتل منتصف الطريق. هناك قطة جائعة تبحث عما يسد جوعها. هذا شارع قريب من تمركز نقطة للمسلحين تحول إلى خراب. من أخر شارع آخر يخرج رجل يتكئ على عصاه: «لا يمكنني السير لملاقاة الحافلات فبقيت هنا». غادرت عائلة ابو شادي وتعذر عليه اللحاق بها: «انشاء الله يكون وقف إطلاق نار نهائي» هي امنيته وامله الوحيد بالنجاة.

الدخول والخروج من البارد، اقتصر بالأمس، على المدخل الجنوبي من ناحية المنية، الذي تحول إلى ثكنة عسكرية. عناصر من الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي على طول الطريق المؤدية إلى المدخل، تفتيش وتدقيق، اجراءات يفرضها الجيش على كل من سمح له بالدخول إلى المخيم الذي بات العبور إليه هدف كل إعلامي رغم حرمان الكثيرين منهم.

جسر البارد، او «خطوط التماس» هي المحطة الأولى التي تصادفك لدى وصولك إلى المخيم، حيث الدمار والخراب شبه كامل، منازل ومحال تجارية مهدمة بنسب متفاوتة، سيارات محترقة على جانبي الطريق، كل شيء تغير، حتى شكل الناس الذين بدا الارهاق والتعب واضحاً على ملامح وجوههم. خرجوا من منازلهم وتوزعوا افراداً ومجموعات على الطرقات والمفارق وفي اماكن حددت مسبقاً لنقلهم، وامضوا ساعات تحت اشعة الشمس بانتظار القوافل التي تولت عملية اخراجهم من المخيم، لا احد من هؤلاء يعرف متى سيعود إلى منزله، المهم ان يخرج في هذه اللحظة وبعد ذلك «يحلها الحلال».

امور عديدة تدفع هؤلاء للخروج: أمنية وباتت معلومة للجميع، واجتماعية ولها علاقة بالظروف المعيشية الصعبة داخل المخيم الذي يعاني من انقطاع في التيار الكهربائي ومياه الشفة منذ اندلاع المواجهات، فضلاً عن النقص المتزايد في المواد الغذائية والأدوية.

أما في ما يتعلق بالجانب التنظيمي، فإن العائلات التي ينتمي افرادها الى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية قررت المغادرة، باعتبار ان المعركة لا تعنيها بشكل مباشر وليست على استعداد لدفع فاتورة عن احد.

الحركة خارج المخيم، وتحديداً عند المدخل الجنوبي المعبر الوحيد الذي بدا سالكاً أمام المغادرين، تحول إلى محطة اجتمع فيها الأهل والأصحاب والأصدقاء، الكل ينتظر خروج القوافل. لحظات عصيبة على من تركوا قريباً او عزيزاً لهم، وتقطعت بهم السبل للتواصل معه والاطمئنان عليه، فغدا هذا الممر الملاذ الذي لجأ إليه المئات واحتشدوا على جانبي الطريق بانتظار خروج القوافل من داخل المخيم.

عند الساعة السادسة صباحاً، استأنفت القوافل رحلة الخروج التي بدأتها مساء امس ألأول، سيارات وحافلات وشاحنات من كل الأحجام تنقل أكثر مما هو مخصص لها بالأصل. وما أن تقترب من مكان التجمع وتتخطى حاجز الجيش اللبناني، حتى تبدأ جموع المواطنين بالالتفاف حولها: ينهالون على ركابها، ومعهم مندوبو وسائل الإعلام بالأسئلة والاستفسار عن اقرباء عن اخبار من الداخل وعن ما يشبع فضول الكثيرين. بقي الحال على نفس الوتيرة حتى وقت متأخر من عصر أمس، حيث هدأت الحركة نسبياً، إلا من بعض السيارات التي لم تتوقف عن سلوك تلك الطريق باتجاه مخيم البداوي ومناطق أخرى، حيث سجل وبحسب آخر الاحصاءات خروج ما نسبته 20 في المئة من عدد سكان المخيم البالغ تعدادهم نحو 35000 ألف نسمة.

وكان ابناء البارد شيعوا امس، بأوقات مختلفة جثامين سبعة قتلى مدنيين سقطوا في الايام الماضية، ووروا الثرى في مقابر الشهداء.

تعليقات: