الحريات الديمقراطية في فلسطين.. والرسالة التي لم تصل!

جريمة اغتيال بنات تفتح سجل اغتيالات السلطة السياسية
جريمة اغتيال بنات تفتح سجل اغتيالات السلطة السياسية


ما يميز الدولة عن غيرها من الكيانات والاطر المجتمعية والسياسية، هي انها وحدها من تمتلك الحق في استعمال القوة ضد مواطنيها، في اطار سعيها لتطبيق القانون والحفاظ على النظام العام.. وخوفا من تغول الدولة بأجهزتها المختلفة، الامنية والاستخباراتية وغيرها، وتعسفها في استعمل ذلك الحق، وجد القضاء المستقل والنزيه، العادل والشفاف، ليكون حكما بين المواطنين وبينهم وبين دولتهم وبين مؤسسات الدولة وافرادها.. وهذا هو مغزى الابتكار العظيم للمفكر الفرنسي مونتسكيو الذي ضمنه في كتابه "روح الشرائح" عام 1748 ومنه قدم للعالم نظرية الفصل بين السلطات.

ما حدث في محافظة الخليل في الضفة الغربية يوم 24 حزيران امر يستحق ان نتوقف عنده، ليس من زاوية تصفية حسابات كما يسعى بعضهم الى تصويره، بل من زاوية القلق والتخوف المشروع من ان تصبح الاغتيالات السياسية ظاهرة قد لا يستطيع احد تحمل تبعاتها، خاصة ونحن في قلب معركة وطنية ضد الاحتلال ومستوطنيه وممارساتهم في طول البلاد وعرضها.. فقد قام عناصر من جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية باختطاف المعارض السياسي نزار بنات وقتله دون توجيه اية تهمة له، الامر الذي ولد نقمة شعبية ترجمت بتحركات شعبية، اختلط فيها حابل الحق بنابل الاستغلال والابتزاز السياسي..

ومن الطبيعي في ظل اشتداد حدة الصراع بشقيه، مع الاحتلال وعلى المستوى الداخلي، ان تدخل العديد من الاطراف على خط توسيع حدة الصراع الداخلي، بصب الزيت على النار. لكن بالمقابل، لم يلمس ان السلطة الفلسطينية، بحكومتها واجهزتها وقضاءها، تصرفوا بحكمة تسحب فتيل الانفجار وتهدئ غضب الشارع الذي لا يستطيع ان يرى انه وفي قلب الصراع المتفجر في القدس وفي نابلس وفي العديد من المناطق في الضفة الغربية، يأتي بعضهم ليفتعل هذه الجريمة، وكأن المطلوب تحويل انظار الرأي العام الفلسطيني وشده باتجاه قضايا تلهيه هن معركته الاسية في مواجهة الاستيطان والاقتلاع والتهجير..

كما اخطأت السلطة مرة اخرى حين اعتبرت ان هناك من يسعى لاستغلال الجريمة لتحقيق اهداف سياسية. وهذه مسألة طالما حذرنا منها، بأن الهوة بين الجماهير ومطالبها وتطلعاتها وطموحاتها الوطنية، وبين خيارات القيادة الرمسة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير آخذة بالاتساع. ومن الغباء اعتقاد ان البعض ان مثل هذه الجريمة، البعيدة عن تقاليد العمل السياسي الفلسطيني، لن تكون محل استغلال البعض، بل على العكس، فالمنطق والعقل والحكمة كلها تقول بأن بأن اية قضية ومهما كانت بسيطة وصغير، فهناك اطراف خارجية اسرائيلية وغيرها ستدخل على خط التوتير الدائم، انطلاقا من ضعف مناعة وحصانة المجتمع الفلسطيني، بسبب الانقسام اولا والممارسات الاسرائيلية ثانيا وسياسات السلطة المنافية للحد الادنى من الديمقراطية.. لكن المشكلة هي في طريقة الرد على هذا الاستغلال، الذي اقتصر على أن هناك محاولة للنيل من الشرعية ومن الرئيس، وعلى هذه الارضية نظمت مسيرات دعم لـ "الشرعية" وجرى شيطنة التحركات الشعبية واتهام المشاركين فيها بأنهم ينفذون اجندات خارجية..

هذا يعني انه ممنوع على الفلسطيني ان يحتج وينتقد ويرفع صوتا رفضا لظواهر يعتقدها البعض انها خاطئة، وكأن القيادة والسلطة والاجهزة الامنية منزهون عن ارتكاب الاخطاء، بل هم فوق المواطنية ولا يمكن محاسبتهم.. وهنا يأتي دور الحكماء، وما اقل عددهم في واقعنا الفلسطيني، الذين هم وحدهم كانوا قادرين على معالجة تداعيات ما حدث بقليل من الحكمة والتبصر، بعيدا عن لغة التحدي والتخوين. فكم من قضايا صغيرة، وبسبب جهل وعناد قائد ومكابرة اجهزة، تكون سببا في اشعال ثورات كبرى تؤدي لاحقا الى قلب المجتمعىرأسا على عقب، وعلى العكس تمال، كم من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية وامنية كبرى، تستحق ان تندلع بسببها ثورات، تتحول الى قضية بسيطة بسبب حكمة قائد.

لم نكن بحاجة الى دعوات امريكية واوروبية ومن مؤسسات حقوقية كي نفتح تحقيقا في ملابسات الجريمة، وكان يمكن للحكومة او الرئاسة او حتى النيابة العامة، الذين يعلمون جميعا حساسية الواقع الفلسطيني وتداخله مع الشأن الاسرائيلي والاقليمي والدولي، ان يفتحوا تحقيقا سريعا، ويتخذوا من الاجراءات التي يمكن ان تشكل رسالة ايجابية للشارع بأن هذه الجريمة لن تمر دون عقاب، وفي هئه الحابة وبدلا من الهتافات ضد السلطة ورموزها كان يمكن للمتظاهرين ان يهتفوا للاجهزة الامنية وللقضاء ولسرعة تحركهم... لكن ما حصل كان مناقضا ومختلفا لما نقول، وكأن هناك من يسعى الى محاولة تلميع صورته وسط الرأي العام الفلسطيني الناقم على سياسات وممارسات لا تمت للقانون بصلة..

لا ينبغي النظر الى ان التحركات الشعبية كأن سببها كان اغتيال بنات فقط، فقد حدثت ممارسات مماثلة في الضفة وفي غزه، ولم تكن له تداعياتها كبرى كالذي حصل مؤخرا، وهذا ما يجب ان يكون محل دراسة من قبل القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة. فما حصل من تحركات شعبية عفوية ومنظمة، داخل فلسطين وخارجها، كان عبارة عن ردة فعل شعبية وطبيعية على تراكم في الخطايا المرتكبة بحق الشعب والقضية منذ سنوات، وعلى تجاهل الدعوات الصادقة الى التغيير.

انتقدنا جريمة اغتيال بنات، كما انتقدنا الجرائم المماثلة التي حدثت في قطاع غزه، بل اننا لا زلنا حتى اللحظة نعتبر بأن ما حدث في القطاع عام 2005 كان انقلابا دمويا مرفوضا نظرا للفظائع التي ارتكبت، بغض النظر عن التبريرات التي قدنت من حركة حماس، لأن العبرة هي في تحريم اراقة الدماء الفلسطينية لأسباب سياسية.. وحتى لو حصلت اخطاء وجرائم في غزه، فان الاغتيال السياسي امر يجب ان يكون محل ادانة ورفض في الضفة الغربية وفي غزة ايضا، ووجب محاسبة ومعاقبة كل من ارتكبه ومن وفر له الغطاء السياسي، بل معاقبة كل من يبرر الجرائم السياسية التي تعني في واقعنا قتل وطن !وكان يمكن للسلطة الفلسطينية، رئاسة وحكومة واجهزة امنية، ان يكون تصرفها اكثر حكمة في امتصاص واستيعاب الحدث باجراءات سريعة مثل وضع بعض المسؤوليين في تصرف الحكومة وتشكيل لجنة تحقيق سريعة والدعوة لاجتماع طارئ لقادة الحركة الوطنية وللفعاليات والشخصيات الوطنية لانهاء ذيول الجريمة وترك الامر للقضاء ليقول كلمته خلال فترة زمنية محددة.. لكن شيئا من هذا لم يحصل، اذا لما العجب حين تأخذ التحركات المنحى الذي اتخذته..

الرسالة الاساس التي يبدو انها لم تصل بعد الى المستوى السياسي الفلسطيني والى الاجهزة الامنية، هي ان الجريمة السياسية ممنوعة، بل ان ما ميز ساحة العمل السياسي الفلسطيني خلال اكثر من خمسين عاما من نضالها، انها كانت واحة للتعدية، في محيط عربي استبدادي لا يحترم حرية ولا ديمقراطية لمواطنين، بغض النظر عن مستوى هذه التعددية والنتيجة التي وصلتها.. وهذا التحريم يجب ان يكون جزءا لا يتجزا من عقيدة الاجهزة الامنية التي هي اداة لحماية الشعب ومصالحة في مواجهة العدو الاسرائيلي فقط وليست اطار مقدس خارج عن المحاسبة والعقاب..

يجب تكريس مفهوم الحوار في كل تفصيل من تفاصيل عملنا الوطني، فهو الحل وبه نضع قدما في المسار السليم. لكن لا نريد حوارا على شاكلة الحوارات التي اتعبت وارهقت شعبنا طيلة اكثر من عشرين عاما. فقد تحاورت الفصائل الفلسطينية مرات ومرات، ولم يعد لنا طاقة على تذكرها، من كثرتها، وفي كل مرة كنا نخرج بنتائج ونتائج وبيانات ختامية ومخرجات، لكن النتيجة ان كل ما توافقنا عليه بقي حتى اللحظة حبرا على ورق: من قرارات المجلس الوطني في دورته 20 الذي انعقد في الجزائر في الفترة من 23 إلى 28 أيلول 1991 محددا شروط المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد، الى عشرات وثائق الحوار الفلسطيني من اعلان القاهرة 2002، الى لقاء الامناء العامين ومخرجاته في 3 ايلول 202، مرورا باللقاءات العربية في الدوحة ومكة الى قرارات المجلس الوطني بتاريخ 30 نيسان 2018، وقرارات المجلس المركزي في دورتي (2015 و2018) الى قرار اللجنة التنفيذية بوقف العمل بالاتفاقات مع اسرائيلي بتاريخ 19 ايار 2019، وكلها قرارات ووثائق ما زالت حتى اللحظة حبرا على ورق.

يبدو واضحا ان هناك من لا يريد للشعب الفلسطيني وقضيته ان يتقدموا الى الامام في ميدان مواجهة الاحتلال وممارساته.. لدرجة وصول فئات واسعة من الشعب الى درجة عدم الثقة بالهيئات الوطنية الجامعة التي لا تحترم ولا تلتزم بما تقره.. وليس سرا القول ان شعبنا الفلسطيني في قطاع غزه وفي الضفة الغربية، بما فيها القدس العاصمة، يصارع على خطين متلازمين: خط المواجهة الميدانية مع المشروع الاسرائيلي وترجماته المباشرة المتمثلة بالاستيطان والتهويد والقتل والاعتقال والضم، وخط الصراع الديمقراطي والاجتماعي المتمثل بتثبت دعائم وركائز المجتمع الفلسطيني ليكون اكثر قوة ومنعة لتحقيق الهدف الاول المتمثل بطرد الاحتلال من فوق الارض الفلسطينية، وهنا ترجمة للحكمة والمثل الشعبي الفلسطيني: انا واخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب، وهي نفس المقولة المعروفة سياسيا على المستوى الفلسطيني بأن الصراع والتناقض الاساسي هو مع الاحتلال، وان الخلافات الداخلية الفلسطينية هي مجرد تباينات وجب تجاوزها لصالح تغليب التناقض الرئيسي على اي شيء آخر.

* فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين


تعليقات: