المركزي سيفقد حصانته.. ولبنان سيخسر الذهب والاحتياطي والميدل إيست

قد يخسر المصرف المركزي ممتلكاته من ذهب وسيولة ومؤسسات (الأرشيف، المدن)
قد يخسر المصرف المركزي ممتلكاته من ذهب وسيولة ومؤسسات (الأرشيف، المدن)


حتّى اللحظة، مضى أكثر من سنة وربع السنة على إعلان الدولة تخلّفها عن سداد سندات اليوروبوند، التي يحمل أكثر من نصفها دائنون وصناديق استثمار أجنبيّة، فيما مضى نحو 19 شهراً على توقف المصارف عن إجراء التحويلات الماليّة لمصلحة مودعيها في الخارج. حملة سندات اليوروبوند لم يضربوا ضربتهم القانونيّة بعد في محاكم الولايات المتحدة، رغم أن عقود اكتتاب السندات تعطي محاكم نيويورك صلاحيّة البت بأي نزاع ينشأ مع الدولة اللبنانيّة، في حين أن الدولة لم تبادر حتّى اللحظة إلى طرح خطة ذات مصداقيّة لإعادة هيكلة ديونهم. أما أصحاب الودائع في الخارج، ورغم بعض الدعاوى المتفرّقة التي تم الحديث عنها في وسائل الإعلام، فلم يبادروا إلى خطوات أكثر أثراً، من قبيل استهداف موجودات مصرف لبنان في الخارج عبر دعاوى جماعيّة متمكنة من الناحية القانونيّة.

الخبراء القانونيون يؤكّدون أن حملة سندات اليوروبوند تكتلوا منذ البداية في مجموعات ضغط مشتركة لتنسيق خطواتهم المقبلة. وجزء كبير من هؤلاء المستثمرين هم فعلياً من الصناديق الاستثماريّة المتخصصة في هذا النوع من المسارات الشائكة، أي تحديداً تلك الصناديق التي تشتري سندات الدول والشركات المتعثرة بأثمان زهيدة لمحاولة تحصيل قدر أكبر من قيمتها لاحقاً. ولهذا السبب، عمد الدائنون حتّى اللحظة إلى التربّص بلبنان بانتظار اللحظة الأفضل، إما لفتح المسارات القانونيّة في محاكم نيويورك، أو للدخول في مفاوضات مع الدولة اللبنانيّة باستعمال المسار القانوني كوسيلة ضغط.

بالنسبة للدائنين، اللحظة الأفضل لفتح المسارات القانونيّة في وجه لبنان تعتمد تحديداً على الحصانات التي تملكها الدولة اللبنانيّة ومصرفها المركزي أمام المحاكم الأجنبيّة. وهذه الحصانات ليست مسألة ثابتة عبر الزمن، بل تتغيّر وفقاً للأخطاء والعثرات التي ترتكبها الدولة والمصرف المركزي، وصولاً إلى حد سقوط بعضها كلياً في بعض الحالات. وفي الوقت الراهن، يبدو أن الدولة اللبنانيّة ومصرف لبنان ارتكبا مؤخراً ما يكفي من أخطاء لتسهيل مهمة حملة سندات اليوروبوند، في حال أرادوا وضع اليد على موجودات مصرف لبنان في الخارج، سواء في ما يتعلّق بمخزون الذهب الموجود في الولايات المتحدة، أو احتياطات العملة الأجنبيّة المودعة لدى المصارف المراسلة.


حصانات الدولة ومصرف لبنان.. وحدودها

بالنسبة إلى حملة سندات اليوروبوند، يمثّل القانون الأميركي المرجعيّة الأساسيّة التي ستبت بأي خلاف يبرز بينهم وبين الدولة اللبنانيّة، كون عقود السندات حددت أساساً محاكم نيويورك بوصفها المحاكم التي تملك صلاحيّة البت بأي دعوى متعلّقة بهذه السندات. القانون الأميركي، أعطى ممتلكات الدولة المتعلّقة بأعمالها الدبلوماسيّة والعسكريّة حصانة شبه مطلقة، بمعنى أن الدائنين لا يملكون القدرة على المطالبة بوضع اليد على هذه الموجودات على خلفية تعثّر الدولة في سداد ديونها. وبما أن الدولة لا تملك فعلياً موجودات أخرى ذات طابع استثماري أو تجاري وازن، فمن الصعب توقّع أي مساس بموجودات الدولة المباشرة بشكل عام.

الهدف الآخر للدائنين سيكون حتماً موجودات مصرف لبنان الموجودة في الخارج، خصوصاً كون المصرف مازال يمتلك سيولة تتجاوز قيمتها 15 مليار دولار مودعة في المصارف المراسلة الأجنبيّة، كما يملك احتياطي من الذهب تتجاوز قيمته 17 مليار دولار، تم إيداع جزء كبير منه في الولايات المتحدة الأميركيّة، أي تحت يد النظام القضائي الأميركي. بالإضافة إلى كل ذلك، يمتلك مصرف لبنان شركة طيران الشرق الأوسط، التي تمتلك أسطولاً من الطائرات التي تجوب مطارات العالم، والتي يمكن وضع اليد عليها في حال نجاح الدائنين بإقناع المحاكم الأجنبيّة بجواز استهداف ممتلكات الشركات المملوكة من المصرف المركزي.

القانون الأميركي يعطي موجودات المصرف المركزي حصانة نسبيّة، أي حصانة غير مطلقة، على نحو يعتمد نطاقها على درجة استعمال هذه الموجودات من ضمن مهام المصارف المركزيّة المعتادة. بمعنى آخر، إذا وجدت المحاكم الأميركيّة أن هذه الموجودات لا يتم استعمالها من ضمن أعمال المصارف المركزيّة، بل يتم استعمالها كموجودات تابعة للدولة، أو كموجودات استثماريّة أخرى، فسيتم اسقاط الحصانة عن هذه الموجودات تلقائياً، وسيصبح من الممكن أن تكون عرضة للحجز من قبل الدائنين الباحثين عن حقوقهم.

علماً أن مصادر قانونيّة تؤكّد أن إشكاليّة الحصانة التي يملكها المصرف المركزي ترتبط بإمكانيّة تعريض سيولته وذهبه للحجز سواء من قبل حاملي سندات اليوروبوند أو من قبل أصحاب الودائع الموجودين في الخارج، إذا تمكنوا من الربط بين أوجه استعمال موجودات مصرف لبنان وطريقة تبديد أموال المودعين.


حصانة مصرف لبنان على المحك

من حيث المبدأ، بدأت قدرة مصرف لبنان على فرض الحصانة على موجوداته بالتراجع منذ تشرين الأوّل 2019. فالاحتياطات التي يمكن استعمالها للتدخّل في سوق القطع عند الحاجة، كما هو الحال في الغالبيّة الساحقة من المصارف المركزيّة حول العالم، تحوّلت إلى أحد مصادر التمويل الدائم لدعم الاستيراد، من دون وجود أي خطّة للخروج من هذا الواقع. لا بل تحوّلت هذه الاحتياطات إلى مصدر لتمويل مسائل أخرى كالبطاقات التمويليّة وصناديق تمويل الصناعات وغيرها، وهو ما لا ينسجم مع المهام التي تُناط عادة بالمصارف المركزية أو موجودات هذه المصارف، بل تبدو هذه المهام أقرب إلى الأدوار التي يفترض أن تمولها الحكومات خلال الأزمات. وهكذا كان حملة اليوروبوند يراقبون تراكم هذه الأخطاء خلال الأشهر الماضية، بما يمكنهم استعمالها في أي دعوى قانونيّة يمكن أن تستهدف موجودات المصرف المركزي، أو في وجه الدولة خلال أي مفاوضات مستقبليّة.

لكن خلال الأيام الماضية، أضاف مصرف لبنان إلى هذه الأخطاء والعثرات مسألة جديدة، تمثّلت في موافقته على إقراض الدولة من الاحتياطات الالزاميّة التي أودعتها المصارف لديه، بالاستناد إلى مواد خاصة في قانون النقد والتسليف. عملياً، يمكن القول أن اقتراض أي حكومة من مصرفها المركزي مسألة معتادة تنسجم مع مهام المصارف المركزيّة، لكن استعمال الاحتياطات الإلزاميّة، التي يفترض أن تكون ضمانة المودعين الأخيرة في النظام المالي، لغاية تمويل انفاق الحكومة، لا تعني سوى عدم الفصل ما بين خزينة المصرف المركزي والسيولة المتاحة للإنفاق من قبل الحكومة. وهو ما يتناقض مع طبيعة موجودات المصارف المركزيّة، ما يفتح الباب أمام استهداف موجودات مصرف لبنان في الخارج.

تكمن خطورة هذا التطوّر في كونه لا يفتح فقط الباب أمام استهداف موجودات مصرف لبنان من قبل حملة سندات اليوروبوند، بل أيضاً من قبل دائني النظام المالي الأجانب، أي المودعين في الخارج، خصوصاً كونهم يُعدون من الناحية القانونيّة أصحاب الحق الاقتصادي في هذه الاحتياطات، التي تم إلزام المصارف إيداعها لدى مصرف لبنان كضمانة للمودعين. ومن وجهة النظر القانونيّة، لا يمكن استعمال هذه الضمانات لأي غاية غير تلك التي جرى على أساسها إلزام المصارف إيداع هذه السيولة لدى مصرف لبنان، أي ضمان حق المودعين في أموالهم.


الدائنون واللعب بأعصاب باردة

يخيّم الغموض على حملة سندات اليوروبوند، الذين لم يبادروا حتّى اللحظة إلى القيام بأي تصريح، أو إبداء أي رأي، لا بل حتّى أن هويّة الكثير من هؤلاء مازالت مجهولة تماماً. ببساطة، يتقن هؤلاء المستثمرون اللعب بأعصاب باردة، ويدركون أن الوقت لمصلحتهم، بالنظر إلى الأخطاء القانونيّة القاتلة التي تتراكم في سجل الدولة ومصرف لبنان. مع العلم أنهم يدركون أيضاً أن قيمة احتياطات الذهب والسيولة الموجودة في الخارج، التي يملكها مصرف لبنان، مازالت تتراوح عند مستويات أعلى بكثير من قيمة سندات اليوروبوند التي يحملونها، ما يسمح لهم بتحصيل قيمة السندات بمجرّد رفع الحصانة عن موجودات مصرف لبنان في المستقبل.

في الوقت المناسب، ستأتي لحظة المواجهة القانونيّة في المحاكم الأجنبيّة، أو على الأقل لحظة التفاوض مع الدولة اللبنانيّة باستخدام الأوراق القانونيّة المتاحة بين أيدي الدائنين. وتلك اللحظة، ستتحمّل البلاد كلفة كل تلك الأخطاء والعثرات القانونيّة القاتلة، التي بدأت أساساً بالتوقف عن السداد من دون وجود أي خطة واضحة لكيفيّة التفاوض لإعادة هيكلة الدين العام، ومن ثم الدخول في نفق الانهيار من دون السير بأي خطة للخروج منه. المأزق الجديد لن يكون كيفيّة إدارة احتياطات السيولة والذهب وحسب، بل ربما كيفيّة الحفاظ عليها وحمايتها أيضاً.

تعليقات: