الارتطام الكبير يبدأ: صدمة رفع الدعم عن البنزين قريباً

البلاد في طريقها إلى مشهد سوداوي خلال الأيام القليلة المقبلة (علي علّوش)
البلاد في طريقها إلى مشهد سوداوي خلال الأيام القليلة المقبلة (علي علّوش)


بات من الواضح للجميع أن كل ما يجري على مستوى أزمة المحروقات، وتحديداً في ما يتعلّق بشح البنزين والطوابير على المحطات، ليس سوى تمهيد طبيعي لرفع الدعم عن هذه السلعة، من دون أي إجراءات تكفل ضبط سعر الصرف، أو حماية الأسر الأكثر حاجة بعد رفع الدعم. فانقطاع هذه المادّة الحساسة بهذا الشكل، سيجعل من رفع الدعم أهون الشرور بالنسبة للمواطن، طالما أنّه سيعيد هذه المادّة إلى الأسواق.

هذا التوجّه بالتحديد، تؤكّده اليوم جميع المعالجات المطروحة للأزمة، والتي تصب جميعها في سياق المسرحيات الخارجة عن أي منطق اقتصادي أو إداري مفهوم، ما يجعلها مجرّد أقنعة لعمليّة رفع الدعم، أو إبقائه شكلياً ورفعه من الناحية الفعليّة. أما أخطر ما في هذه الطروحات، فهو الثغرات التي تفتح أبواب الكسب غير المشروع وإساءة استعمال الاحتياطات، ما يطرح السؤال عن الغاية منها طالما أنّها لن تقدّم أي فائدة للمستهلك.


الطروحات الهجينة

منذ بداية شهر شباط من هذا العام، بدأ بنزين 98 أوكتان ينقطع تدريجياً من المحطات، فيما انحصرت عمليات الاستيراد ببنزين 95 أوكتان. مع العلم أن الفارق بين سعر صفيحة 98 أوكتان و95 أوكتان بالكاد يبلغ حدود 1200 ليرة للصفيحة الواحدة حالياً. ما يعني أن هذا القرار لم يصب فعلياً في خانة ترشيد إنفاق الدولارات المتوفّرة للاستيراد، بل كان له أهداف أخرى بدأت تتكشّف لاحقاً. فمع اشتداد أزمة المحروقات، بدأ التداول بأفكار عديدة، من بينها فتح باب استيراد بنزين 98 أوكتان بحسب سعر صرف الدولار في السواق السوداء، أي بسعر غير مدعوم، من باب معالجة النقص في مادة البنزين. وخلال اليومين الماضيين، تطوّر الحديث عن هذه الفكرة بالتحديد إلى حد عقد اجتماعات في وزارة الطاقة والمياه، بهدف بلورة آليّة تنفيذ هذه الخطة بالتحديد. علماً أن هذه الفكرة يمكن تسويقها على شكل معالجة ظرفيّة لأزمة شح البنزين، من دون الإعلان عن رفع الدعم عن هذه المادة بشكل صريح وعلني.

عملياً، ثمّة لائحة طويلة من الإشكاليّات والمحاذير المتعلّقة بهذه الخطة: فمن يضمن عدم بيع بنزين 95 أوكتان، المدعوم، على أنّه بنزين غير مدعوم وبسعر بنزين 98 أوكتان؟ خصوصاً أن السوق السوداء مفتوحة أساساً على مصراعيها، رغم وجود سعر رسمي واحد لمادة البنزين بكل أنواعها في الوقت الحالي. وهل ستلجأ الجهات الرقابيّة إلى أخذ عينات من المواد المباعة للتأكّد من مطابقة التسعيرة للنوعية المعلن عنها؟ وهل سيتم تصنيف المستهلكين ما بين مواطنين مقتدرين، قادرين على شراء المادة بالسعر غير المدعوم من دون عناء يُذكر، وآخرين سيحتاجون إلى الانتظار بالطوابير لشراء بنزين 95 أوكتان المدعوم؟ وما الذي سيمنع المستفيد من البنزين المدعوم من بيعه في السوق لاحقاً بسعر أعلى، بوجود هذا الفارق الكبير بين السعرين؟

كل هذه التعقيدات تشير إلى أن آليات دعم البنزين ستكون، في حال تطبيق هذه الخطة، شبيهة بآليات دعم شراء المواد الغذائيّة، بمعنى أن يبقى الدعم حبراً على ورق، من دون أن يتمكّن المواطن من الاستفادة منه بشكل مباشر. المستفيدون من الدعم، سيقتصرون على شبكات النفوذ المعروفة، القادرة على إساءة استعمال هذا الدعم لاحقاً في السوق السوداء، فيما ستنهي هذه الأزمة الشح الموجود في السوق عبر دفع المواطنين لشراء البنزين غير المدعوم. باختصار، ستكون البلاد قد دخلت عملياً مرحلة رفع الدعم الفعلي عن البنزين، لكن وفقاً لأسوأ الآليات، ومن دون أي تدرّج يضمن تأقلم السوق تدريجياً مع هذه العمليّة، ومن دون أي رؤية لكيفيّة حماية الفئات الأكثر هشاشة من هذا الارتطام القاسي.

إلى جانب هذا الطرح، تم التداول بطروحات أخرى، من قبيل إبقاء الدعم على البنزين بالنسبة لقطاعات معينة كوسائل النقل المشترك أو سيارات الأجرة، مقابل رفعه عن سائر المستهلكين. وهنا تُطرح إشكاليات أكبر وأكثر تعقيداً، فأي آليّة تملكها اليوم تضمن الرقابة على هويّة المستفيدين من هذا البنزين المدعوم وفقاً للأولويات المحددة؟ وكيف تتأكّد الدولة من تساوي الفئات المستحقة للدعم بفرصة الحصول على هذا البنزين من دون أي شكل من أشكال الاستنسابيّة؟ كما ينطوي الطرح أيضاً على شوائب أخرى، فالنسبة للمستفيدين من الدعم حسب هذه الخطة –أي أصحاب وسائل النقل المشترك وسيارات الأجرة- ستكون عملية إعادة بيع البنزين المدعوم في السوق السوداء أكثر ربحاً من استعماله في أعمالهم اليوميّة، خصوصاً بالنظر إلى الفارق الكبير بين سعر البنزين المدعوم والبنزين غير المدعوم.


كلفة الارتطام

وفقاً لأسعار السوق العالميّة اليوم، من المرتقب أن تتجاوز كلفة صفيحة البنزين مستوى 200 ألف ليرة، في حال بيعها وفقاً لسعر دولار السوق السوداء، أي في حال بيعها بسعر غير مدعوم، فيما لا تتجاوز كلفة الصفيحة اليوم وفق آخر جداول أسعار المحروقات حدود 41,800 ليرة للصفيحة. وصفعة من هذا النوع، ستترك بلا شك أثرها المعيشي الكبير بالنسبة إلى الموظفين الذي يعتمدون في معيشتهم على الأجور بالليرة اللبنانيّة، والتي لم يتم تصحيحها حتّى اللحظة لتتناسب مع الارتفاع الحاصل في سعر صرف الدولار. لكنّ الصفعة الكبرى ستكون بلا شك مع رفع الدعم عن المازوت، الذي سيؤدّي إلى رفع كلفة اشتراكات كهرباء المنازل وتكاليف تشغيل المؤسسات التجاريّة والإنتاجيّة بمختلف أنواعها، وهو ما سيمثّل أصعب أشكال الارتطام وأكثرها قسوة على المستوى الاجتماعي. أما البطاقة التمويليّة، التي يفترض أن تقلّص من قسوة هذا الارتطام، فما زالت أسيرة السجالات ومشاريع القوانين المتضاربة في المجلس النيابي، والتي لم تحسم حتّى اللحظة آليات عملها.

لكنّ كلفة الارتطام هنا لن تقتصر خلال الفترة المقبلة على هذا الجانب فقط. فكلفة استيراد المواد المدعومة تخطت خلال العام الماضي حدود 6 مليار دولار، ذهب الجزء الأكبر منها لدعم استيراد المحروقات بالتحديد. ورفع الدعم، سيعني زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء بمعدّل 16 مليون دولار على أساس يومي، وهو ما سيمثّل ضربة قاسية لكل توازنات العرض والطلب في هذه السوق، مما سيؤدّي إلى ارتفاع غير مسبوق في سعر صرف الدولار. مع الإشارة إلى أن تدخّل المصارف في السوق السوداء في الوقت نفسه، عبر امتصاص دولاراتها لتمويل السحوبات النقديّة وفقاً لبنود التعميم 158، سيضاعف من حدة هبوط سعر صرف الليرة اللبنانيّة.

البديل الوحيد الذي يمكن أن يقي سعر صرف الليرة من هذا الانهيار بعد رفع الدعم، سيكون تدخّل مصرف لبنان لتأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه السلع عبر منصّته المستحدثة، والتي مازالت تعمل ضمن حدود ضيقة جداً. لكن هذا الخيار، وإن أدّى إلى تقليص حجم استيراد السلع المدعومة بسبب ارتفاع أسعارها، سيعني عملياً الاستمرار باستنزاف احتياطات مصرف لبنان لتمويل الاستيراد، ما يناقض الحجة الأساسيّة التي يعتمد عليها مصرف لبنان لرفع الدعم.

كل ما سبق يشير إلى خلاصة واحدة، البلاد في طريقها إلى مشهد سوداوي خلال الأيام القليلة المقبلة، كون كل الحلول المطروحة حالياً لا تصب إلا باتجاه رفع الدعم من الناحية العمليّة، وإن تم الإبقاء عليه شكلاً. مع العلم أن رفع الدعم بحد ذاته، كان من الممكن أن يتم من خلال آليات أكثر سلاسة، لو أن الحكومة والمصرف المركزي تعاونا خلال المرحلة الماضية، للدخول في هذا المسار بشكل متدرّج ومدروس، بشكل يكفل ضبط سعر الصرف على الطويل، ويضمن وجود شبكات حماية اجتماعيّة للفئات الأكثر فقراً. لكن انتهاج سياسة تأجيل التعامل مع عوارض الأزمة، والتعامل مع المشاكل بمنطق شراء الوقت، سيجعلان من رفع الدعم صدمة يصعب استيعابها في المرحلة المقبلة.

تعليقات: