جثة في حقيبة.. فظاعات يعيشها أكراد تركيا

أمّ تتسلم رفات ابنها بالبريد.. وفظاعات أخرى
أمّ تتسلم رفات ابنها بالبريد.. وفظاعات أخرى


"جثة في حقيبة"، هذا ليس عنوان رواية بوليسية أو فيلم رعب. ليس قصة لإدغار آلان بو أو جون لو كاريه. هذا فعل حدث في الواقع لا في مخيلة كاتب... فيقول الخبر إن امرأة تلقت رفات ابنها في صندوق سلمته لها خدمة البريد.

السيدة خالصة، تلقتْ اتصالاً من السلطات القضائية، أبلغتها فيه أن هناك ملفاً بإسمها. عندما اتصلوا بها قالوا لها بأن هناك أمانة في قصر العدل، ويجب عليها أن تذهب لاستلامها. طلبوا منها أن تذهب إلى البريد المركزي لاستلام الأمانة. في البريد طلبوا منها أن توقع على وصل استلام. سألتهم ما الذي يوجد في الحقيبة قالوا: هذا رفات ابنك، خذيه. كان الرفات داخل صندوق يحمل رمز البريد. ولم تستطع الأم أن تقول شيئًا.

هذا الأمر لم يحدث في أحد بلدان أميركا اللاتينية، التي تفتقت قريحة ديكتاتورييها عن موبقات فاقت الخيال، فولدت الواقعية السحرية لأن غرابة الواقع بلغت حدوداً سحرية. هذا حدث في البلد الذي أنجب أليف شافاك، التي أرادت أن تعلّم القراء في بلدها، وخارجه، "قواعد العشق".

آغيت إيبك، كان ناشطاً كردياً يسعى إلى أن ينال الأكراد في تركيا الحق في أن يكونوا أحراراً، يتعلمون بلغتهم ويمارسون العيش من دون قمع وإجحاف. لكن أي نشاط يحمل صبغة قومية كردية في تركيا أمر بالغ الخطورة. تابو فظيع. أن تعلن عن نفسك كردياً، أن تهمس بأنك كردي، أن تقول إنك لا تريد أن تكون تركياً وترفض أن تردد كل صباح: ما أسعد من يقول أنا تركي، يعني أنك متمرد. وإذا خطر لك أن تركب رأسك وتعلن مقاومة الظلم، تصير إرهابياً ويصير قتلك حلالاً، تصادق عليه الدولة ووزارة الشؤون الدينية وينفذه الجيش، من أجل الوطن ونقائه.

الكردي في تركيا ينتهك القانون والعرف والدين لأنه كردي. بل إنه ينتهك الشرط الإنساني لأن العنصر التركي، في عرف الدولة التركية، هو التجسيد الأول والأخير للإنسان. الكردي الذي يصرّ على البقاء كردياً، ناقص في صفته البشرية. إنه، في عين الدولة، كائن بلا روح أو مشاعر. مجرد شيء. والشيء يمكن أن يتم التخلص منه. الكردي على قيد الحياة إرهابي، وإن مات، أي قُتل، يتحول إلى غرض نافل يمكن إرساله إلى أصحابه بالبريد.

في حضور الموت، يفترض أن يغيب الغل والحقد والتشفي. تقام للميت طقوس دفن في رهبة وخشوع. للقتلى من الجيش تقام طقوس حربية خاصة. يلفون القتيل بالعلم وتوضع جثته على مدافع تجرها خيول في موكب حافل، يصطف على جانبيه ضباط وجنود. تحتضن الأم التابوت. تبكي. تذرف الدموع، ثمّ يأتي من يرفعها بهدوء ويبعدها قليلاً ليوارى الميت الثرى فيما المدفعية تدوي بطلقاتها.

لقد تمردَ آغيت، وعاند، فاستحق القتل، وحين قُتل أهين جسده. انتقموا من جسده لأنهم لم يفلحوا في إهانته وهو حي. تجرأ على التمرّد وتمكن من الإفلات حياً، فلما قُتل أفرغوا فيه ما تجمع في صدورهم من رغبة عارمة في الإنتقام.

بهذه الشاكلة البربرية والمهينة تعامل الجنود الأتراك مع المقاتلة الكردية بارين كوباني في مدينة عفرين شمال سوريا أيضاً. أُسرت بارين كوباني وهي على قيد الحياة، ثمّ قُتلت. تسربتْ لقطتا فيديو تظهر فيهما بارين. في اللقطة الأولى، على قيد الحياة، ملقاة ومحاطة بجنود يصرخون بها ويصفونها بـ"الخنزيرة". وفي اللقطة الثانية، ميتة، عارية ومضرجة بالدماء، يدعس أحد الرجال على صدرها.

يظهر دوماً من يبرر الفظاعات في أن الحرب لا تعرف الأخلاق. لكن الحرب على مَن؟ مِن أجل ماذا؟ حسناً. حرب على الإرهاب. آغيت وبارين رفعا السلاح في وجه الدولة؟ مباح إذن قتلهما والتمثيل بجثتيهما؟ لكن من قال أن المقاتلين وحدهم يقتلون؟

يلماز غوناي، نجا بجلده وهرب لأنه أخرج أفلاماً كردية. وموسى عنتر قُتل لأنه ألّف كتاباً باللغة الكردية. وقُتلتْ شيرين طوسون لأنها تحدثتْ باللغة الكردية، هي القادمة من الجنوب الشرقي الكردي. وباريش جاكان، في العشرين من عمره، قتل في أنقرة، لأنه كان يستمع إلى الموسيقى الكردية. لم يحمل سلاحاً. لم يمارس دعاية مناهضة للدولة. لم يقمْ بإهانة الحكومة. ما فعله هو أنه جلس في شرفة بيته في ورفع صوت الموسيقى الكردية. جلسته تلك كانت عملاً إرهابياً لأن الناس في ظل الحكومة الإسلامية الراهنة، مثلما كانوا في ظل الحكومات التي سبقتها منذ قيام الدولة على يد أتاتورك، يتربون بشكل يومي، في كل لحظة، في المدارس والجامعات والشارع والثكنات، على كره كل ما له علاقة بالأكراد. مجموعة من الشباب التركي، الحريص على كرامة الأمة التركية، لم تتحمل إهانة سماع أغنية كردية في العلن. ماذا فعل الشبان؟ قتلوا باريش.

وآراس خليل؟

آراس خليل خرج ليتفقد أرضه، وعاد نصف ميت.

والدة آراس بكت وهي تسرد قصة ابنها، الذي رموه على الطريق بعدما أفقده التعذيب السمع ومُزقت أحشاؤه. اغتصبوه بخازوق أدى إلى تشققات حادة في منطقة الشرج بالكامل. أراس مازال غير قادر على الجلوس، ولا يستطيع المشي إلا بمساعدة، ويظل طوال الوقت مستلقياً على ظهره، لا يتحرك ولا يطلب طعاماً أو ماءً، فإذا لم تطعمه أمه أو تعطيه ماءً يظل على تلك الحالة أياماً. الآن تعتني الأم بآراس كطفل صغير، هو الذي يبلغ الثلاثين من عمره، وتقوم بتبديل حفاضاته ثلاث أو أربع مرات يومياً، لأنه لم يعد يتحكم بجسده.

هذه الفظاعات من القتل المجاني، ليس لها أي معنى، ولا يمكن أن يتقبلها ذهن إنسان سويّ في أي بقعة من الأرض (نحن في القرن الحادي والعشرين). لكن، في خضم الدم والهتك والتمثيل، لا مكان للدهشة إن تلقت أمّ رفات ابنها في طرد بريدي. لا مكان للرحمة ولا لاحترام مشاعر الأم، إذا كانت الأم والإبنة والأخت تقتل وتنتهك... الفظاعات التي يعيشها الأكراد في تركيا، تبدو وكأنها خارجة من صفحات كافكا وأورويل ومارغريت أتوود مُجتمعة.

تعليقات: