عن المهنة التي لا تطعم الخبز ولا تحمي كرامة


قادتني الصدفة الى العمل الصحافي، كنا ابناء جيل مراهق يحمل قضية ويحلم بتغيير، جيل حاول ايجاد طريقه وحيدا في ظل انهيار الدولة والمجتمع اللبناني والانحدار نحو حرب كانت تدور وتدور لتخطف الارواح والاحلام والمستقبل. كان ذلك في العام 1978 عندما اخترت اللجوء الى كلية الاعلام لتقديم طلب امتحان دخول بعد قرار اتخذته وزارة التربية يقضي بان من ينجح في امتحانات دخول للجامعة لا يعيد تقديم شهادة الثانوية التي لم تجر في ذلك الحين بسبب اغتيال النائب طوني فرنجية، فحار التلامذة في خياراتهم، قبل ان يتخذ قرار اعطاء افادات للجميع.

عندما بدأت الدراسة تماهيت مع هذه المهنة ولم انتظر التخرج، بدأت اعمل وانا في السنة الثانية، اغامر، اخاطر، اقتحم الصعوبات، لا اسأل عن شىء سوى ملاحقة الحدث اليومي والكشف عن اسراره ونقل ما تراه عيني للناس وعرض خلفياته بتجرد، ورغم اني كنت اكتب فقط الا ان كاميرتي الصغيرة لم تكن تفارقني، كنت في قلب طاحونة جولات القتال طوال سنوات، وفي كواليس الحدث السياسي الذي كان في زمن الحرب أمنيا بامتياز ربما، نقلت صورا عن اوجاع الناس والمجازر الطائفية وجولات القتال المدمرة، تجرأت في حواراتي مع السياسيين على التحرر من الايديولوجيا فلم اترك شخصية دون الاضاءة على الاخطاء ولم احاب حزبا او مسؤولا رسميا وان تقاطعت الاراء احيانا الا اني كنت بالفعل محامية الشيطان في كل مرة, لا اكل ولا امل من استفزازهم في محاولة لتشغيل ماكينة العقل لا اخذ بيان البروباغندا الجاهز عند معظم هؤلاء وكنت مهنيا صوت ضميري فقط.

تخرجت من الجامعة في سنة الاحتلال الاسرائيلي للبنان عام 1982، ثلاث سنوات قبل ذلك قضيتها وانا اعمل في وكالة فلسطينية تراسل صحفا عربية، كنت اعمل واعمل واعمل دون ان اسأل عن حقوقي في العمل حتى اقفلت الوكالة نتيجة التطورات السياسية وخرجنا بخفي حنين، لم نسجل في الضمان ولم نقبض تعويضات الصرف من العمل، ولم التفت انا الى اهمية الوظيفة وضرورة عدم اضاعة الوقت من اجل هوس المهنة التي تاخذك الى ابعاد كثيرة وتجارب معرفية غنية في الفكر والسياسة والثقافة وهذا ما كنت اعتبرته مكسبا لي.

لاحقا عملت لمدة تسع سنوات في جريدة حزبية "النداء" كان زمن المقاومة قبل "حزب الله" والحرب الطائفية، زمن الانقسام والحواجز السياسية والنفسية وزمن انهيار الدولة وسقوطها امام الدويلات الطائفية، وتحول الاحزاب بهذا الشكل او ذاك الى احزاب مرتزقة للخارج، لا تخرج عن طوع السيناريوهات الدولية المرسومة، في العام 1992 وبعد عمل تسع سنوات، قرر الحزب الشيوعي اغلاق دكانته اي جريدته، وابقى على جزء قليل من العاملين الحزبيين المقربين من القيادات، وتم طرد "المشاغبين"، فجأة اكتشفنا اننا لم نسجل في الضمان الاجتماعي، كنا شباب لا امراض مزعجة لدينا ولم نفكر في آخرة، ولكن من جديد كان السؤال اين حقوقنا؟!. لم نسكت اجتمعنا وراجعنا قانون العمل واستشرنا محاميا، انتخبنا لجنة عمالية وتابعنا قضية صرف تعويضات لنا، ونجحنا في تحصيل 6 اشهر تعويض بينما لم يكن هناك اي صوت لنقابة تدافع عنا فالانقسام نال الجسد الصحافي اعطوا نقابة الصحافة للإسلام ومقرها الغربية ونقابة المحررين للمسيحيين ومقرها الشرقية على طريقة 6 و6 مكرر.

في ذلك العام كانت الصحافة الورقية مزدهرة، وكان الطلب على الصحافيين كبيرا وكانت الصحف غنية، وعليه انتقلت الى صحيفة "السفير" في مرحلة محاولة تكون الدولة مرحلة حل مشكلة المهجرين واعادة البناء واحتدام الصراع السياسي بعد الطائف، مرحلة الانفتاح على الاخر وكسر الحواجز بين اللبنانيين وكنت من اوائل من كسر تلك الحواجز في العبور الى النصف الاخر من الوطن المقسم بناسه وسياسييه وقياداته الدينية والحزبية ونخبه الثقافية.

كانت "السفير" مؤسسة ملتزمة لها قانونها ونظامها الداخلي ينص على وجود لجنة منتخبة من العاملين فيها وكانت هناك برنامج لزيادة الرواتب، ثلاثة اشهر تسجلت في الضمان، انتبهت الى وجود نقابة كما قيل لي للصحافيين هي نقابة ملحم كرم، اي نقابة المحررين، عن طريق زميل عضو في مجلس النقابة اراد ان يعمل خير معي فقال لي قدمي طلبك للنقابة، طالما عندك ورقة ضمان شرط الانتساب وهو شرط تعجيزي لان معظم المؤسسات لا تسجل صحافييها في الضمان وتتهرب قدر الامكان من الموضوع وتخترع صيغا للتعاون يخلصها من التفتيش ومن الالتزامات والنقابة ليست هنا، وكانه ليس من مهامها ملاحقة اصحاب الصحف على مخالفتهم للقوانين بل ربما التعاضد معهم، المهم تقدمت بطلب لم يبت به وقيل لي ضاع وان اللجنة المشتركة بين نقابة الصحافة اي نقابة اصحاب الصحف ونقابة المحررين لم تجتمع. تقدمت بطلب اخر جرى البت به والموافقة عليه بعد سنوات من ذلك الحدث.

تنقلت من مؤسسة اعلامية الى اخرى وجربت العمل في الامارات والكويت، اينما كان هناك عرضا افضل كنت أذهب على امل ان يتحسن وضعي المالي، وكنت اعمل بنفس الروحية واقدم افضل ما عندي، الا ان المقاييس المهنية بدأت تتراجع، لاسيما بعد انتشار وسائل الاعلام المرئية، وصعود نجم المذيعات على حساب معدي البرامج السياسية وان كن لا يفقهن شيئا في السياسية، كل صاحب مؤسسة يفرض مقدمات برامج من المقربات الى مزاجه ولاعتبارات شخصية في معظم الاحيان، وانا خضت تجربة العمل التلفزيوني من خلال اعداد برامج سياسية ضاربة ولم يكن يذكر اسمي لان الاعداد يصدر بصيغة مديرية البرامج.

تجربة العمل في مؤسسة تلفزيونية محلية "نيو تي في" لمدة سنتين قيل لنا ان تسجيلنا بالضمان سائر لاكتشف عندما سحبت تعويضي بعد عملية الصرف التعسفي من المستقبل اخيرا ان اسمي غير موجود على هذه المؤسسة، كما عملت لاحق في مجلة اجتماعية على اساس انهم سجلوني بالضمان فاذا بي اكتشف ايضا عدم تسجيلي.

اخيرا كانت لي تجربة في العمل بجريدة المستقبل، بدا كل شىء جميلا وجيدا في البداية راتب يراعي سنوات الخبرة، ليس عاليا وانما يحفظ كرامة المرء، 14 شهر سنويا، تنافس في العمل على العمل الافضل، ولكن بعد اقل من 3 سنوات تم الغاء شهري 13 و14 وبهذا نقص راتبنا ولم يزد الراتب طوال 17 عاما من العمل سوى زيادة غلاء المعيشة مرتين التي اعطتها الدولة وقيمتها 500 الف، لماذا اتكلم عن هذا الامر، لان لا رقيب ولا حسيب عما تقوم به معظم ادارات المؤسسات الصحافية، ولا احد يسال عن حقوق الصحافيين او يحاول ان يهديهم الى طريق يضمن حقوقهم، لا وزارة عمل ولا نقابة ولا احزاب ولا زعماء يختارون صحافيين كمستشارين ويحسنون من اوضاعهم المالية، من دون السؤال عن وضعية الاخرين وحاجاتهم. ولذلك فان العمل الصحفي في لبنان "خبيصة" مثل حال البلد.

معظم الصحافيين الذي يعملون في مؤسسات يملكها سياسيون قليلو الحيلة، اذا لم يداهنوا فهم متهمون ورهن التاشير سياسيا او دينيا عليهم ممن هم اقل كفاءة او موهبة واكثر تعصبا وعصبوية. وفجاة يمكن للصحافي ان يصبح في الشارع لوحده عرضة للبطالة والمرض والجوع ربما، وياتي من غيره من اصحاب المهن الاخرى لياخذوا مكانه حينا او خريجين جدد يعملون كما يعمل المياوم دون حقوق او تثبيت على القطعة.

من خلال عملي في الصحافة طوال اكثر من 35 عاما، عشت فيها قلقة على مستقبلي المهني نتيجة الضغوط التي يتعرض لها الصحافي من اصحاب المؤسسات وعدم وجود قوانين تحمي الصحافيين من الصرف التعسفي وتضمن حقوقه. اما النقابة فهي تطرد المنتسب اليها استنسابيا لمجرد انه تجرأ عن هواجسه وانتقد نقابة المحررين او تجرا على الترشح للانتخابات النقابية ضد لائحة النقيب كرم او خلفه الجاهزة والتي تطبخ في مطابخ السياسيين وليس الصحافيين. لقد ووجه انتقادي للنقابة في مقالات صحفية الى طردي انا والزميل الراحل يوسف الحويك لكن هذه المسالة قادتنا الى الترشح بوجه لائحة النقيب لاول مرة في تاريخ النقابة، طبعا لم نخرق او نفز بسبب ان معظم الاعضاء الذين يحق لهم الانتخاب غير صحافيين فيما الصحافيون لا يستطيعون الحصول على عضوية النقابة بسبب النهج السائد.

نظرة على الواقع المهني ايضا تبين لنا ان هناك تباينا كبيرا بين رواتب الصحافيين الذين يتولون مواقع سكرتير تحرير أو مدير تحرير أو محررين بشكل عام، وهناك غياب للعطاءات أو البدلات التي تقدم إليهم أسوة ببقية الأطر النقابية لأصحاب المهن الحرة في ظل حالة التضخم المتواترة، ما يؤدي إلى خلل كبير يؤثر في طريقة عيش الصحافيين ويعرضهم لمخاطر البطالة أو الاضطرار إلى العمل وفقا للشروط التي يفرضها صاحب العمل.

كما ان الرعاية المفترضة والحماية المطلوبة من نقابة المحررين غائبة، فيما ينحصر دور وزارة الإعلام بوصفها وزارة الوصاية على التمنيات والآمال.

ولكن هل يمكن القيام بعملية إصلاح نقابي، حاولنا وفشلنا لا سيما وان النقابة تقسيمة بين السياسيين لكن لا بد من تعديل النظام الداخلي للنقابة بما يتيح انتساب كل العاملين في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والرقمي إلى نقابة المحررين، ما يؤمن لهم الرعاية الجدية والحماية الحقيقية والحصول على حقوق كانت وما تزال حتى اللحظة مجرد أحلام مستحيلة التحقيق، وهي شبيهة بتلك التي يحصل عليها تلقائيا كافة المنتسبين إلى نقابات المهن الحرة للأطباء والمحامين والمهندسين. وهنا لا بد من عقد عمل جماعي يلزم اصحاب المؤسسات الالتزام به.

واليوم ايضا الحاجة ملحة لمواكبة عمل الصحافيين والتحرك من اجل تامين التواصل بين العاملين في القطاع الإعلامي، وذلك يتحقق من خلال إيجاد شبكة الكترونية تتيح إمكانية التشاور بين الصحافيين وتبادل وجهات النظر حول شؤونهم وشجونهم المتعلقة بالعمل وفي واقع المهنة، إضافة الى إمكانية الاطلاع على الاقتراحات والأفكار الملائمة التي يتقدم بها الزملاء من أجل تطوير القطاع الإعلامي، وتحسين ظروف العاملين فيه. وهنا لا بد من الاشارة الى عدم حماسة الصحافيين في التفاعل مع بعضهم البعض وقد قمت بانشاء غروب على الفيسبوك "صحافيون من اجل نقابة للجميع" لم يتجاوب الصحافيون بالشكل الكافي لنقاش قضاياهم وعكس هواجسهم.

وربما هناك حاجة لتطوير هذه التجربة بالتحول الى انشاء موقع الكتروني يشكل صلة وصل بين الصحافيين اللبنانيين والأطر النقابية الإعلامية والصحافيين في الوطن العربي والعالم. ويمكن التوصل الى هذا الامر من خلال تقديم مخطط الى مؤسسات اوروبية داعمة، ومنها الاتحاد الاوروبي او "برنامج الامم المتحدة الاعلامي" او اي هيئة يمكن ان تفيدنا في هذا المجال عربية ام دولية وهذا امر يخضع الى النقاش فيما بعد.

وايضا لا بد من السعي إلى إيجاد اتحاد نقابي موسع يضم كل الأطر النقابية للعاملين في القطاع الإعلامي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر نقابة المصورين الصحافيين والمخرجين والطباعة وسواهم.

* المصدر: alsawt.org

تعليقات: