المفاجأة الكبرى الصادمة: أرباح المصارف تتضاعف بحيلة مذهلة

ألاعيب وحيل محاسبيّة متنوّعة على حساب المال العام وعلى حساب حقوق المودعين (الأرشيف، ريشار سمور)
ألاعيب وحيل محاسبيّة متنوّعة على حساب المال العام وعلى حساب حقوق المودعين (الأرشيف، ريشار سمور)


بعد سنة ونصف من حصول الانهيار المالي الكبير، لم تعد القروض الممنوحة للقطاع الخاص المقيم تمثّل أكثر من 16.23% من موجودات المصارف اللبنانيّة، كما تظهر ميزانيات القطاع في آخر شهر آذار الماضي. أما النسبة الأكبر من الموجودات، والتي تتجاوز قيمتها 71% من ميزانيّة المصارف، فباتت تتركّز اليوم في توظيفاتها لدى مصرف لبنان وفي سندات الدين السيادي. بمعنى آخر، ومع تصفية القروض المصرفيّة بشكل متدرّج، باتت المصارف تعتاش بشكل أساسي من المال العام، وتحديداً من المال الذي يخلقه مصرف لبنان لسداد فوائده للمصارف، أو إقراض الدولة لتسدد فوائد سنداتها للمصارف. ولعلّ هذه الخاصيّة هي ما يمنح المصارف اللبنانيّة بجدارة لقب "المصارف الزومبي"، أي المصارف التي لا تملك مقومات الحياة الطبيعيّة، لامتلاء ميزانياتها بالفجوات، لكنّها تستمر بالحياة كأنصاف الأموات عبر امتصاص المال العام، كما يمتص الزومبي –النصف ميّت- دم ضحاياه للبقاء نصف حي.


الخسائر على حساب المودع والمال العام

الحكاية لا تنتهي هنا. من يراجع الميزانيات المصرفيّة الصادرة للربع الأوّل من العام 2021، سرعان ما سيكتشف أن المصارف تحقق بالفعل أرباحاً وازنة وجيّدة من الفوائد، نتيجة الهامش الكبير بين نسبة الفوائد الضئيلة التي باتت تدفعها لأصحاب الودائع، ونسبة الفوائد الوازنة التي تحصل عليها من توظيفاتها لدى المصرف المركزي وفي سندات الدين. لا بل بإمكان المتابع أن يكتشف أيضاً –وهنا المفاجأة الكبرى الصادمة- أن المصارف حققت زيادات ضخمة وغير منطقيّة في حجم هذه الأرباح خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام بالتحديد، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، رغم أن المصارف يُفترض أن تكون في حالة أزمة لا تسمح بتحقيق هذا الحجم من الأرباح.

في النتيجة، لا تعكس الحصيلة النهائيّة للميزانيّات هذه الأرباح، لكون المصارف تستعمل أرباح الفوائد لتكوين المؤونات المطلوبة منها لتتعامل مع خسائرها لاحقاً. لكنّ هذا الأمر يعني ببساطة أن المصارف تصفّي خسائرها، أو تكوّن المؤونات المطلوبة لتصفية الخسائر، من المال العام، ومن تنامي الفارق الشاسع في الفوائد بين ما تدفعه للمودعين وما تتلقاه من مصرف لبنان والدولة. من يدفع كلفة هذه العمليّة في النهاية هو المودع، الذي يتلقى اليوم فوائد شبه معدومة على وديعته، والموطن العادي الذي يدفع اليوم كلفة خلق النقد لدفع الفوائد من قبل مصرف لبنان، على شكل تهاوي كبير في سعر الصرف. وبذلك، تكون النتيجة مرّة جديدة رسملة المصارف على حساب اللبنانيين.


أرقام الربع الأوّل من 2021

خلال الربع الأوّل من سنة 2021، تمكّن بنك بيبلوس من زيادة صافي الإيرادات من الفوائد إلى نحو 268 مليار ليرة لبنانيّة، مقارنة بنحو 153.7 مليار ليرة في الفترة المماثلة من العام الماضي، ما يعني أن المصرف تمكّن بين الفترتين من زيادة هذه الأرباح بنحو 74% من الفترتين. وعمليّاً، يمثّل صافي الإيرادات من الفوائد الفارق بين ما دفعه المصرف من فوائد للمودعين، وما تلقاه من إيرادات توظيفاته لدى مصرف لبنان وفي الدين العام، ومن القروض الممنوحة للقطاع الخاص. أما ارتفاع الإيرادات بهذه النسبة فلم يكن سوى نتيجة للفوائد المنخفضة جدّاً التي بات يتم دفعها لأصحاب الودائع هذا العام، والتي تقلّصت قيمتها بين الفترتين من 392 مليار ليرة إلى نحو 147 مليار ليرة فقط، في حين أن أن إيرادات المصرف من توظيفاته لدى مصرف لبنان وفي أدوات الدين العام لم تنخفض بهذه النسبة.

بنك لبنان والمهجر تمكّن من زيادة صافي إيرادات الفوائد بنسبة 49% في الربع الأوّل من هذا العام، لتبلغ هذه الإيرادات نحو 363.63 مليون دولار. هذه الأرباح الضخمة، التي تأتّى معظمها من المال العام، سمحت للمصرف بتكوين مؤونات بلغت قيمتها أكثر من 229 مليون دولار في أوّل ثلاثة أشهر من هذه السنة، في حين أن المصرف لم يكن قد تمكّن من تأمين سوى 95.89 مليون دولار من المؤونات في الفترة المماثلة من العام الماضي. بمعنى آخر، تمكّن المصرف، من خلال الزيادة في هذه الأرباح، من تكوين المؤونات المطلوبة للتعامل مع خسائره في بداية هذا العام، في مقابل حجم المؤونات المحدود الذي تمكن من تأمينه خلال العام الماضي.


هامش الفوائد

على هذا النحو، تمكّنت الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة من زيادة إيرادات الفوائد خلال بداية العام، على حساب الفوائد الضئيلة المدفوعة للمودعين، وعلى حساب الأموال الضخمة المدفوعة للمصارف كفوائد من المال العام، مقابل التوظيفات في مصرف لبنان وسندات الدين السيادي. وهو ما سمح بتكوين مؤونات وازنة في هذه المصارف. عمليّاً، يمكن تتبع حجم هذه الأرباح الإجمالي للقطاع ككل من خلال مؤشّر تنشره المصارف تحت مسمّى "هامش الفوائد" الذي تستفيد منه المصارف. وهو مؤشّر يقيس بالنسبة المئويّة الفارق بين متوسّط نسبة الفوائد المدفوعة لأصحاب الودائع، ومتوسط نسبة الفوائد التي تتلقاها المصارف من توظيفاتها في مصرف لبنان والدين العام وقروض القطاع الخاص.

هذا الهامش، ارتفع بالنسبة للودائع والتوظيفات بالليرة اللبنانيّة من 0.53% في تشرين الثاني من العام 2019، إلى أكثر من 3.52% في بداية هذا العام. كما ارتفع بالنسبة للودائع والتوظيفات بالدولار الأميركي من 0.34% في تشرين الثاني من العام 2019 إلى ما يقارب 2.89%. بمعنى آخر، تضاعف الهامش الذي تستفيد منه المصارف لتكوّن الأرباح بنحو 6.64 مرات بالنسبة للودائع والتوظيفات بالليرة اللبنانيّة، وبنحو 8.5 مرّات بالنسبة للودائع والتوظيفات بالدولار الأميركي، وهو ما يمثّل تطوّراً غريباً وغير مألوف بالنسبة إلى مصارف تمر بأزمة ماليّة.


أزمة المودعين ومشكلة خلق النقد

عملية زيادة الهامش هذه، ارتكزت بشكل أساسي على تخفيض الفوائد المدفوعة للمودعين من جهة كلفة الودائع. فالأرقام تظهر أن متوسط هذه الفوائد المدفوعة انخفض من 9.4% في تشرين الثاني من العام 2019، إلى أقل من 2.11% في شباط الماضي، بالنسبة إلى الودائع المقوّمة بالعملة المحليّة. كما انخفض بالنسبة إلى الودائع المقومة بالدولار الأميركي من 6.31% في تشرين الثاني 2019، إلى أقل من 0.54%. وهكذا، دفع أصحاب الودائع ضريبة زيادة أرباح المصارف عبر تخفيض عوائدهم من الودائع الموجودة في النظام المصرفي.

في مقابل هذه التطورات، لم تتم إعادة هيكلة الدين العام أو ميزانيات مصرف لبنان، ما سمح للمصارف بالاستمرار بتقاضي معدلات الفوائد نفسها على توظيفاتها في سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة، وشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، من دون أن يستفيد المودعين من هذه الفوائد. لا بل سمح مصرف لبنان بإجراء هندسات ماليّة جديدة للمصارف، سمحت لها بمضاعفة العوائد التي تحققها من توظيفاتها لديه. وكل ذلك كان يجري عبر خلق النقد في عمليّة تركت نتائج كارثيّة على مستوى سعر صرف الليرة اللبنانيّة.


الخسائر المعلّقة

كل ما سبق، لم يكن سوى ألاعيب وحيل محاسبيّة متنوّعة للتعامل مع خسائر المصارف في المرحلة الراهنة، على حساب المال العام وعلى حساب حقوق المودعين. علماً أن هذه المناورات تُضاف إلى لائحة طويلة من العمليات المتنوّعة التي كانت تجري طوال الوقت، للغرض نفسه، بعيداً عن أي قرار رسمي أو حكومي، وبعيداً عن أي مساءلة أمام الرأي العام. وقد يكون السير بهذا النوع من المقاربات والأساليب الملتوية، هو تحديداً ما استهدفته المصارف واللوبي الذي يدور في فلكها، يوم أسقطت في المجلس النيابي أي خطة متكاملة للمعالجة الماليّة.

في المقابل، لا يبدو أنّ هناك أي اتجاه لإعداد خطة ماليّة بديلة للتعامل مع هذه المسائل في قريب العاجل. لا، بل يبدو أن الجميع سلّم بمرجعيّة حاكم مصرف لبنان وحده للتعامل مع الجوانب الماليّة المتعلّقة بالانهيار. وبذلك، يصبح من الأكيد أن ثمن الانهيار سيُدفع في المحصّلة من جيوب اللبنانيين، لا من جيوب الذين استفادوا من السياسات التي أدّت إلى الانهيار الحاصل.

تعليقات: