سلامة يخلق نظاماً مالياً بديلاً: ودّعوا ودائعكم

وعود إيجابيّة لا يمكن تحقيقها (المدن)
وعود إيجابيّة لا يمكن تحقيقها (المدن)


تعوّد اللبنانيون أن لا يصارحهم حاكم مصرفهم المركزي بما يضمر من خطط، حتّى حين يمتلك تصوراته الخاصّة والمتكاملة للمعالجات النقديّة والماليّة. وبعد أن ينهمر من حاكميّة مصرف لبنان وابل التعاميم المتفرّقة، يصبح بالإمكان تركيب قطع أحجياته عبر تعاميمه، ليكتشفوا في كل مرّة هويّة الطرف الذي سيدفع ثمن هذا الجزء من الأزمة أو ذاك.

هذا بالتحديد حالنا اليوم أمام منصّة مصرف لبنان الجديدة لتداول العملات الأجنبيّة، وترابطها بتعاميمه الأخيرة حول الأموال الطازجة الواردة إلى النظام المصرفي. في زحمة هذه التعاميم، سيكون رياض سلامة قد خلق نظاماً مصرفياً بديلاً، بسيولته وسعر صرفه وآليات التحويل والقطع الخاصّة به. وسيكون بإمكانه طبعاً أن يأخذ وقته في تنويم أصحاب ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019.


المنصّة والدولارات الطازجة

وفقاً للتعميم الأساسي رقم 157، سترتبط منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، بحسابات "الفريش دولار"، أو الدولارات الطازجة الواردة إلى النظام المصرفي بعد الأزمة، حين سيكون بإمكان عملاء المصارف تحويل أموالهم النقديّة بالليرة اللبنانيّة إلى ودائع بالعملات الأجنبيّة في هذه "الحسابات الجديدة" (اعتمد التعميم عبارة "الحسابات الجديدة" للإشارة إلى هذه الحسابات). وفي المقابل، ستتمكن المصارف من شراء دولارات هذه الحسابات، مقابل سداد قيمتها بالليرات النقديّة للعملاء.

وبذلك سيكون نظام "الحسابات الجديدة" مرتبطاً بتوازنات العرض والطلب على الدولار الأميركي في سوق القطع الذي تنظّمه المنصّة، فيما ستكون هذه الحسابات حرّة من أي قيود على السحب النقدي، عكس حسابات ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019. باختصار، لن تكون المنصّة مجرّد آلية لبيع الدولار النقدي وشرائه، كما تم تسويقها في البداية، بل ستكون غرفة التداول بالعملات الأجنبيّة المرتبطة بنظام مصرفي رديف ومستجد، إسمه "الحسابات الجديدة" أو حسابات الفريش دولار.

في المقابل، وضع رياض سلامة منظومة كاملة لحسابات "الفريش دولار" أو "الحسابات الجديدة"، في تعميم آخر وسيط رقمه 580، يوجب على المصارف وضع مؤونات توازي قيمة هذه الحسابات لديها لدى المصارف المراسلة، من دون أن ترتبط منظومة الحسابات الجديدة بمصرف لبنان أو حسابات المصارف لديه. وهكذا، سيكون بإمكان العملاء تبادل الدولارات "الطازجة" في "الحسابات الجديدة" بين المصارف اللبنانيّة المختلفة، بإجراء تحويلات تمر عبر المصارف المراسلة في الخارج، من دون العبور بالنظام المصرفي "القديم" في مصرف لبنان أو بمقاصّته. كما سيكون لهذا النظام المصرفي الجديد ضماناته الخاصّة في المصارف المراسلة، بشكل منفصل عن الاحتياطات الإلزاميّة المودعة في مصرف لبنان.

علماً أن المصارف بدأت أساساً العمل بمعظم الآليات التنظيميّة الواردة في تعاميم الحسابات الجديدة. إذ صار بإمكان أصحاب هذه الحسابات تبادل الدولارات الطازجة بين المصارف المختلفة بموجب حوالات خاصّة. كما وضعت المصارف جميع التعاميم الداخليّة لتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها، لضمان تحويل هذه الأموال كدولارات طازجة لا دولارات قديمة.


انسوا دولارات ودائعكم

كل ما سبق يقودنا إلى استنتاج واحد: رياض سلامة يخلق نظاماً مصرفياً جديداً منفصلاً عن نظام ما قبل تشرين الأول 2019. لا بل حتّى أن تعاميم سلامة أصرّت على ضمان حق السحب النقدي للحسابات الجديدة، وكأن حبس أموال الحسابات القديمة كان مسألة مشروعة قانوناً أو حتّى منظمة بتعاميم مصرف لبنان. وهذا النظام المالي، سيحدد في المحصّلة سعر صرف الليرة مقابل الدولار الفعلي، والذي على أساسه سيتم الاستيراد في المستقبل.

المقربون من سلامة والمصارف يحاججون بأن هذه التدابير ستساهم في إعادة الثقة بالمصارف، وبإعادة الدورة الماليّة إليها. لكن النتيجة العمليّة لهذه التعاميم، ستكون تطبيع فكرة تخطي حقوق أصحاب ودائع ما قبل تشرين الأول 2019، وبدل الاعتراف بخسائر المصارف وتصحيح وضعها المالي لإعادة حقوقهم، ستكون المصارف قد عملت بقاعدة "عفى الله عن ما مضى"، لتحث العملاء على العمل من داخل النظام المصرفي الجديد. كما سيكون بإمكان المصارف ملء الفجوة الاقتصاديّة الناتجة عن تعثرها، والمتمثلة بعدم وجود نظام مالي فاعل وقادر على تقديم الخدمات، من خلال طرح نظام مالي يتجاوز حقوق المودعين وحقيقة تعثّر المصارف، ويبدأ بالعمل "من الصفر" وكأن شيئاً لم يكن.


تمهيد لتعويم الليرة

عملياً، يعلم رياض سلامة أن الحفاظ على أسعار صرف مدعومة إلى ما لا نهاية مسألة غير ممكنة على المدى البعيد، خصوصاً أن قدرة احتياطاته على تحمّل الدعم محدودة. وعند نهاية حقبة الدعم، وأسعار الصرف المتعددة، من المفترض أن يكون هناك سعر صرف معوّم جديد، من داخل النظام المالي. وطوال الأشهر الماضية، تغاضى سلامة عن التخطيط مع الحكومة في طبيعة الإجراءات الواجب اتخاذها خلال الفترة الانتقاليّة ما بين حقبة الدعم وأسعار الصرف المتعددة، وحقبة سعر الصرف المعوّم. مع العلم أن هذه الإجراءات كانت ضروريّة لضمان انتقال سلس، يقلّل أعباء هذا الانتقال على أصحاب الدخل المحدود. وهكذا، اكتفى سلامة بمراسلة الحكومة لرفع المسؤوليّة عنه، ولإبلاغها باقتراب لحظة رفع الدعم، رامياً الكرة في ملعبها.

اليوم، تبيّن أن سلامة كان يعد منفرداً رؤيته الخاصّة لهذا الانتقال، بمعزل عن أي تصوّرات حكوميّة لهذه العمليّة، ومن دون أن يصارح الرأي العام بخطّته الكاملة لهذا الملف. فعند إطلاق المنصّة، وبعد ربطها بالنظام المالي الجديد الذي وضع أسسه وآلياته، سيكون سعر المنصّة هو سعر الصرف العائم والموحّد على المدى الطويل، بعد الخروج تدريجيّاً من حقبة الدعم وتعدد أسعار الصرف. وهنا يمكن القول أن فكرة توحيد أسعار الصرف وتعويم سعر الليرة ليست الإشكاليّة بحد ذاتها. إذ أن توحيد أسعار الصرف على المدى الطويل مسألة مطلوبة لإعادة الانتظام إلى سوق القطع والنظام المالي، بينما تكمن المشكلة في الإصرار على الانتقال إلى هذه المرحلة، من دون أن يترافق هذا الانتقال مع أي خطة يعمل عليها مصرف لبنان مع الحكومة، لتقليل تداعيات هذه المرحلة على اللبنانيين.


الثقة الفقودة

بمعزل عن كل تصوّرات سلامة، ثمّة ما يكفي من مؤشرات للدلالة على عدم واقعيّة استعادة مصداقيّة المصارف في القريب العاجل، حتّى من ضمن نظام "الحسابات الجديدة". فالتزامات المصارف في الخارج اليوم تفوق موجوداتها في المصارف المراسلة بنحو مليار دولار، ما يعني أن المصارف ما زالت في حالة تعثّر حتّى في ما يخص حساباتها في الخارج. وبذلك، لا يوجد ما يضمن عدم الحجز على سيولة النظام المصرفي في المصارف المراسلة، حتّى في ما يخص الأموال المتأتية من "الحسابات الجديدة" التي يعمل رياض سلامة على إنعاشها اليوم. وهكذا، حتّى أموال الفريش دولار الموجودة في النظام المصرفي قد تصبح في مهب الريح قريباً، لتلحق بأموال ودائع ما قبل تشرين الأول 2019.

على أي حال، ترتبط كل هذه التطورات بمحاولة هروب رياض سلامة إلى الأمام، والابتعاد عن أي خطة حكوميّة شاملة للحل، يمكن أن تمس مصالح النافذين في القطاع المالي، من خلال الاعتراف بخسائر المرحلة السابقة ومعالجتها. ولهذا، يصبح البديل طوي صفحة المرحلة السابقة كليّاً، وصياغة معادلات جديدة تقوم على مبدأ الدولار الطازج. ومن هنا، يمكن فهم البيان الأخير غير الواقعي، الذي بشّر بدفع الودائع القديمة تدريجيّاً، رغم أن موجودات القطاع الحاليّة لا تسمح بتحقيق هذا الأمر بأي شكل من الأشكال. باختصار، وبعد فهم أحجيات وتعاميم سلامة الأخيرة، يصبح من الأكيد أن غاية هذا البيان لم تكن سوى تسويق وعود إيجابيّة لا يمكن تحقيقها، للتمهيد للصفعات التي سيتلقاها أصحاب الودائع وسائر المودعين، من خلال رفع الدعم أوّلاً وطوي صفحة الودائع القديمة ثانياً.

تعليقات: