القداسة… والسياسة


لا شكّ أنّ لبنان، هو بلد غير مألوف وغير عادي، مساحته ضيّقة، لكنّ الأرض كلها قد ضاقت بأبنائه، امكانياته محدودة، لكنه بسواعد أبنائه قد تخطى حدود الممكن، وهو بلد للقداسة أيضا”، فمن صوامعه المتواضعة رفعت أسماء قدّيسيه عاليا” من على صدور أهم الحواضر والمقامات الدينيّة، ومن فوق مذابح العبادة والصلاة في كل مكان من هذا العالم.

خلال حضوري لأحتفالات التكريم والتطويب والتقديس المتكررة، كانت تغمرني أحاسيس الأعتزاز والفرح، فأغمض عينيّ على فيض من دمع التأثر، غائصا” في عمق تأملاتي، مستعرضا” لما كان يختلط في ذاكرتي من الصور والأحداث عن هذا الوطن الصغير، القديم منها والحديث، الجميل والقبيح، البهيج والأليم. فكنت أرى في وجهه المضيء قداسة الروح المتوهجة في حياة أبنائه القديسين، الذين وصلوا إلى القمة في التقوى والصلاح ونكران الذات والذوبان في الذات الألهيّة. وفي قداسة العمل المتألقة أبدا” والملازمة لمسيرة رجالاته وأعلامه وكباره خلال كل مراحل تاريخه ، والتي تطهّر الأنسان من شوائب النقص والأنانيّة , وتزيّنه بالحسنات والفضائل من صدق واستقامة، وأمانة ووفاء، وأخلاق وتواضع، ليكون مفيدا” ومثمرا” لمجتمعه ووطنه، فيحسب بالتّالي قديسا” في عمله يكرّم وتحمد ذكراه، ويصبح في نظر الشعب مثالا” ومنارة ، تتمثّل وتستنير بمآثره الأجيال القادمة من جيل الى جيل ، في كل مجالات الحياة وميادينها واختصاصاتها:

في الأدب والشعر، الفنون والعلوم، الصناعة والتجارة، الأبداع والأختراع، وحتى في الأدارة والسياسة لكن فقط في دنيا الأغتراب. أمّا السياسة في لبنان، فهي التي تجسّد له الوجه الآخر المظلم، فقد حشرت فيها كل أرهاط الأبالسة والشياطين، فلم تمر في ذهني أزمة حلّت بنا، أو مصيبة أصابتنا، أو بليّة ابتلينا بها، الا وكان وراءها السياسة والسياسيون . بفسادهم ومكرهم وكيدهم، بارتباطاتهم الخارجيّة المشبوهة القريبة منها والبعيدة، بقصر نظرهم حتى العمى عن استدراك واستباق الأخطاء والأخطار قبل وقوعها، بقدرتهم المذهلة على سماع حفيفهم وفحيحهم وبصّم آذانهم عن صراخ وأنين المحتاجين والفقراء من شعبهم ، بحساسيّة أنوفهم لشم ما هو بعيد لصالحهم وبانعدام هذه الحاسة عندهم لشم ما هو مضر وقاتل لا يعنيهم ، بطول أياديهم للجمع واللّم والضّم من أموال وخزائن واحتياطات بلدهم وبقصرها عن تقديم المساعدة ولو بفلس واحد الا اذا كان في موضع يرضي غرورهم وكبريائهم ، بهرولة أرجلهم المستعدّة دوما” للأنطلاق بالسفر في رحلات الأستجمام والأسترخاء والسياحة وببطئها في التّوجه الى ما تحتّمه عليهم واجباتهم ومسؤولياتهم ووظائفهم، بتلمسهم لأدق الخيوط لنسج أحلامهم الى واقع وامتناعهم عن لمس الحبال الا في سبيل الشد على رقاب مواطنيهم، برقيّهم في تذوق ما لذّ وطاب من المأكل والمشرب متجاهلين جوع من يسعى ويكد بمرارة لتأمين رغيف خبز بالكاد يجده ليسد به رمقه، بضيق صدرهم للألتفات الى المطالب المحقّة وبسعتها لأجل كل ما يخدم أهدافهم ومشاريعهم .

مصلحة الوطن هي شعارهم لما قبل وصولهم الى مراكزهم، ومصلحتهم تبقى نصب أعينهم حتى رحيلهم، هذا اذا لم يؤمّنونها لخلفهم من بعدهم فيسلمونها لأولادهم أو محاسبينهم.

وأخيرا” وليس آخرا”

أما آن الآوان بعد، في لبنان، بلد القداسة، أن نطّبق شيئا” ما من القداسة، في السيّاسة.

تعليقات: