أوّل أيار: لا عمل ولا عمّال!


أوّل أيار: لا عمل ولا عمّال!

الهجرة والبطالة و«الهروب» الى أعمال متدنية الأجر وتفتقد الى مقومات الحماية الإجتماعية، أبرز سمات الواقع العمالي حالياً. صحيح أن حال العمال لم يكن بخير منذ ما قبل الأزمة، بسبب التشوهات البنيوية في سوق العمل، إلا أن الأزمة الحالية فضحت الفجوات في نظام الحماية الإجتماعية، وكشفت ضعف الإطار القانوني الناظم لعلاقات العمل، وهو ما يفسّر كيف أن عمال القطاع غير المنظّم كانوا اكثر عرضة للتسريح التعسفي وخفض الأجور والحرمان من ظروف عمل آمنة.

اشتداد الأزمة لن يعني الا مزيداً من التردّي في أوضاع العمال، خصوصاً أولئك الذين «يستهدفهم» انهيار النموذج التنموي والاقتصادي القائم، كالنساء والشباب والعاملين ذوي المهارات الضعيفة والأجور المتدنية والعمال المهاجرين واللاجئين. أما بقية العمال، ومن ضمنهم العمال المهرة، فإن بوصلتهم خارج البلاد. أما من سيضطر الكثير للبقاء، فسيكون في صفوف المعطلين عن العمل في بلد تشير التقديرات الأولية إلى أن نسبة العاطلين من العمل فيه تجاوزت 36%. بلد يكاد يخلو من العمل، ومع تزايد الهجرة سيخلو من العمال!



المديرة الإقليمية في «العمل الدولية»: رفع الدعم... هرولة نحو الهاوية

هديل فرفور

قبل الأزمة الاقتصادية، كان أكثر من نصف الشباب اللبنانيين العاطلين من العمل يبحثون عن عمل منذ أكثر من عام، وفق مُنظّمة العمل الدولية، وكانت معدلات البطالة بين الشباب تبلغ ضعف معدلاتها بين البالغين. المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات حذّرت من الآثار البعيدة للبطالة على الشباب، وهي الفئة التي تكون غالباً أول من يتعرّض للصرف، وآخر من يعود الى العمل بعد التعافي. ولفتت الى أن ارتفاع معدلات البطالة غالباً ما ينتج «تنافساً سلبياً» بين العاملات والعمال على القبول بشروط وظروف عمل أقلّ من الحد الأدنى الذي أقرّه القانون. أما «المبادرات الفردية» المعتمدة على المهارات فـ«ليست تنويعاً للاقتصاد، بل مجرد محاولات يائسة للصمود». في ما يلي نص المقابلة:


ما هي فئات العمّال الأكثر تضرّراً جرّاء الأزمة؟

عموماً، كان العاملون في الاقتصاد غير المنظّم يشكّلون 55% من إجمالي العاملين قبل الأزمة، وهؤلاء من أكثر الفئات تأثراً لأنهم لا يستفيدون من الحماية التي يوفرها قانون العمل، ولا يحصلون على تقديمات اجتماعية كالإجازات المرضية والضمان الاجتماعي. هذا جعلهم أكثر عرضة للصرف التعسفي ولظروف عمل غير آمنة ومن دون تغطية طبية.

العاملون الشباب، أيضاً، تضرّروا بشدة. فمنذ ما قبل الأزمة، كان معدل البطالة بين هؤلاء يبلغ ضعف معدل بطالة البالغين، وكان أكثر من نصف الشباب العاطلين من العمل يبحثون عن عمل منذ أكثر من عام. على الأرجح أن هذه الأرقام شهدت زيادة كبيرة. ففي أزمات كهذه، يكون الشباب غالباً أول من يتعرض للصرف بسبب انخفاض مستوى خبراتهم. وللسبب نفسه أيضاً، يواجهون، بعد بداية التعافي، صعوبة أكبر في إيجاد عمل لأنهم يتنافسون مع مجموعة كبيرة من العاطلين من العمل الأكبر سناً والأكثر خبرة. ويخلّف ذلك آثاراً طويلة الأمد، فقد ثبت أن فترات البطالة الطويلة لدى الشباب تخلّف أثراً سلبياً على مسيرتهم المهنية.

كما تأثرت النساء بشكل غير متناسب. إذ يشكّلن أكثر من 60% من العاملين في قطاعَي الصحة والعمل الاجتماعي، ما وضعهنّ في الخطوط الأمامية في مواجهة «كوفيد-19»، مع معاناتهنّ من انخفاض القوة الشرائية لأجورهنّ. كما زادت تدابير الإغلاق العام عبء العمل المنزلي عليهنّ.

العمال المهاجرون واللاجئون، الذين عانوا دائماً من التهميش وغياب الحماية الاجتماعية وظروف عمل غير مستقرة، تأثّروا أكثر من غيرهم بسبب الصرف وتراجع قيمة الأجور وقلّة البدائل. ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، دفع أسراً كثيرة الى خفض أجور عاملات المنازل المهاجرات أو التفاوض معهنّ على أجور جديدة أو إنهاء عقود عملهنّ من طرف واحد. ووجدت كثيرات من هؤلاء أنفسهنّ من دون عمل أو سكن أو أيّ وسيلة للعودة إلى بلدانهنّ.

- أيّ القطاعات الأكثر تضرراً؟

تسببت هذه الأزمة في ضرر شمل كل القطاعات من دون استثناء، بدرجة أو بأخرى. لكننا حددنا ستة قطاعات مرتفعة الخطورة، كانت قبل الأزمة تشغّل 820 ألفاً، وكانت خسارة الوظائف فيها الأعلى مقارنة بغيرها، وهي: الفنادق والمطاعم، الصناعة التحويلية، البناء، تجارة الجملة والتجزئة، العقارات والتجارة، والفنون والترفيه.

- يواجه من تبقّى من العمّال التعرض للاستغلال مع تضاعف حاجتهم إلى العمل. ما تداعيات ذلك


على العمال وسوق العمل؟

كل العاملات والعمال في لبنان يعانون من تحديات كبيرة بسبب غياب ظروف العمل اللائق. توسّع العمل في الاقتصاد غير النظامي في القطاعين العام والخاص، في غياب الحماية الاجتماعية الشاملة، وضعف إنفاذ قانون العمل وعدم تطابقه مع معايير العمل الدولية، إضافة الى غياب سياسات متوافق عليها للتشغيل والأجور وضعف مؤسسات الحوار الاجتماعي وانعدام المفاوضة الجماعية بين أطراف الإنتاج ــــ كلها ساهمت في تعميق هذه المعاناة، علماً بأن هذه الأسباب سابقة للأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي يشهدها لبنان حالياً. للأسف، عمقت الظروف الجيوسياسية المعاكسة في المنطقة وما نجم عنها من نزوح، فضلاً عن تفشي جائحة الكورونا وما رافقها من انكماش اقتصادي من معاناة العمال، وأدت إلى ما نشهده اليوم من تردّ في أوضاعهم المعيشية.

وطبيعة الأزمة المركبة التي يواجهها المجتمع اللبناني حالياً، زادت من حالات الإقفال النهائي للمؤسسات، وأدت إلى تراجع مخيف في ظروف العمل اللائق في تلك التي استمرت بالعمل. وارتفاع معدلات البطالة في ظل غياب أي حماية ــــ كالتأمين ضد البطالة مثلاً ــــ ينتج تنافساً سلبياً بين العاملات والعمال لجهة القبول بشروط وظروف عمل أقل من الحد الأدنى الذي أقرّه القانون، كما يدفع بقسم كبير منهم، وبالأخص العمالة الماهرة، إلى البحث عن فرص عمل لائقة خارج البلاد، أو قد يضطرّ البعض منهم إلى البقاء فترة طويلة في صفوف المعطّلين عن العمل.

المستويات العالية من البطالة والعمالة الناقصة والمستويات المتدنّية من القدرة على تأمين الدخل تزيد من نسب التفاوت الاجتماعي والفقر، وتؤدي إلى توسع أكبر في عمل الأطفال، وتسهم في اختلال علاقات العمل، وبالتالي إضعاف قدرة مؤسسات سوق العمل، وهي من العوامل الأساسيّة التي تزيد من انعدام الاستقرار الاجتماعي الذي قد يهدد ويعيق قدرة الدولة اللبنانية على تحقيق تطلّعات جميع مواطنيها بالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.


ما هو تقييمكم للأعمال «المُستحدثة» بفعل الأزمة (العودة إلى أعمال الخياطة والصناعات اليدوية الصغيرة وانتشار البسطات وغيرها)؟

أجبرت الأزمة كثيرين على إيجاد طرق جديدة للصمود. وبسبب نقص فرص العمل، اتخذ كثيرون خطوات فعلية وحاولوا استخدام كل ما لديهم من مهارات وموارد لكسب الدخل. هاجسنا الرئيسي في منظمة العمل الدولية هو نوعية تلك الأعمال. فمن الضروري أن نتذكّر أن هذه الخطوات اتخذت بدافع اليأس، وأن معظم هذه الوظائف متدنّية الأجور، ولا تقدّم أي ضمان اجتماعي. وأغلبها بالتأكيد ليست «شركات». ومع أنها قد تبدو مبادرات ريادية جديدة، فإن معظمها مجرد أعمال غير مستقرة في القطاع غير المنظم، وهي الخيار المتوفر في ظل غياب فرص العمل في القطاع المنظّم في مكان آخر.


ما نشهده من «مبادرات» فرديّة ليس تنويعاً للاقتصاد، بل محاولات يائسة من أشخاص يحاولون الصمود

الى ذلك، قد يكون هذا الاتجاه مؤشراً على وجود مشكلة أكبر. فلجوء أشخاص يمتلكون مهارات أو تعليماً عالياً إلى أعمال منخفضة الإنتاجية أو لا تستغل إمكانياتهم ومعارفهم بشكل كامل يعني خسارة صافية للاقتصاد والبلد. لا يجوز وضع مهارات يتطلب اكتسابها وصقلها سنوات طويلة جانباً لتأمين لقمة العيش. ففي نهاية المطاف، يتطلب إنعاش الاقتصاد استغلال إمكانيات السكان بشكل كامل، وليس أن يعمل ذوو المهارات في أعمال ضعيفة الإنتاجية وغير مستقرة في القطاع غير المنظّم. ما نشهده اليوم ليس تنويعاً للاقتصاد يمكن الاعتماد عليه لتحديد معالم «الاقتصاد اللبناني الجديد»، بل محاولات يائسة من أشخاص يحاولون الصمود في بلد يعدّ فيه التضخم الشديد والبطالة تهديداً حقيقياً وخطيراً. بالطبع، لا نقبل تصنيف الأعمال كـ«وضيعة» أو «رفيعة المستوى». لكن ما يهمُّنا هو عدم اعتبار هذه الاستراتيجيات البائسة للتأقلم قطاعات اقتصادية جديدة، لأن ذلك يخفي مستويات عالية من تدنّي الاستفادة من العاملين والتدهور العام في جودة العمل.


هل ستكون للأزمة تأثيرات على العمال في المدى البعيد؟ ما هي آليات ضمان انتقال اقتصادي عادل؟

شكلت الأزمة رسالة تحذير واضحة بضرورة تطبيق أنظمة حماية اجتماعية شاملة للجميع. وأبرزت الجائحة أهمية نظام الضمان الاجتماعي في أوقات الأزمات، وكيف أن العمال في القطاع غير المنظم أكثر عرضةً للتسريح التعسفي، وخفض الأجور، والحرمان من ظروف عمل آمنة.

وحتى قبل الأزمة، كان نظام الحماية الاجتماعية في لبنان يعاني من فجوات كبيرة من حيث تغطيته القانونية وفعاليته، ومن نقص دائم في التمويل. فهذا النظام القائم على الاشتراكات لا يغطي إلا العاملين في القطاع غير المنظم، ويقدم مزايا محدودة في حالات الطوارئ الأساسية خلال حياة العاملين، في ظل تأخر كبير في إصلاحات ملحّة لتقديم معاشات شيخوخة دورية، وتأمينات ضد الإصابات أو البطالة. كما أن لبنان هو من بين أقل دول المنطقة استثماراً في الحماية الاجتماعية غير القائمة على الاشتراكات للفئات الهشة. فمثلاً، لا يقدم لبنان تقريباً أي ضمانات ممولة من الضرائب لضمان أمن الدخل الأساسي للأطفال أو ذوي الإعاقة أو المسنّين. أضف الى ذلك أن التوقف المزمع عن دعم الأسعار سيفاقم انعدام الأمن للفقراء والقريبين من خط الفقر والطبقة الوسطى. ومن الضروري إدراك أن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة الهرولة نحو الهاوية من دون مظلة إنقاذ، وستتسبب في كارثة اجتماعية على الفئات الهشّة، وتدمّر عافيتها وعافية البلد لسنوات عديدة. الاستثمار الحاسم في الحماية الاجتماعية ليس ضرورياً لكبح الزيادة الكبيرة في نسبة الفقر واللامساواة فحسب، بل أيضاً لتشجيع تحول اقتصادي أكثر إنصافاً، والحفاظ على التماسك الاجتماعي. يجب أن تكون تدابير الاستجابة قصيرة الأجل كشبكة الأمان الاجتماعي الطارئة المعلن عنها مصحوبة بخطط لبناء نظام حماية اجتماعية متعدد المستويات للجميع، ووضع أسس لأرضية حماية اجتماعية دائمة.


ما هي نتائج فقدان رواتب الموظفين في القطاع العام «قيمتها» مع تدهور سعر الصرف؟

موقف منظمة العمل الدولية من العمل المتدني الأجر واضح. فأجندة العمل اللائق في المنظمة تؤكد على ضرورة توفير دخل منصف في كل القطاعات والوظائف. وبعد الانخفاض في قيمة الليرة، تعدّ مستويات الأجور التي بقيت كما قبل الأزمة، غير كافية حتى لتلبية أبسط الاحتياجات الأساسية. وينطبق هذا على موظفي القطاعين العام والخاص.

عادة، يؤدي تدني الأجور إلى وقوع الأشخاص في شرك الفقر، ويقلل فرص ارتقائهم الاجتماعي، ويجبرهم على العودة إلى استراتيجيات تأقلم مؤذية مثل خفض نسب الالتحاق بالمدارس أو اللجوء إلى عمل الأطفال الذي يخلّف آثاراً طويلة الأمد على التنمية الاجتماعية. كما أن تدنّي الأجور الذي يؤثر على قطاعات كبيرة من اليد العاملة يؤدي حتماً إلى انخفاض الطلب المحلي، وهذا يزيد تعقيد التعافي الاقتصادي.

لذلك، يعدّ التشغيل في القطاع العام في لبنان مسألة معقدة. ولطالما تعرّض لبنان لانتقادات بسبب غموض عملية التوظيف في القطاع العام وعدم كفاءتها. ومن شبه المؤكد في هذه المرحلة أن التشغيل في القطاع العام سيشكل جزءاً جوهرياً من جهود الإصلاح. لذا، نأمل أن تنجح الأطراف المعنية، وهي في لبنان الدولة وموظفو القطاع العام، في إدارة هذه القضية المهمة بطريقة تضمن سلامة المؤسسات العامة التي ستؤدي دوراً حاسماً في إخراج البلد من أزماته الحالية.


كيف تصفون الواقع العمالي الحالي في لبنان؟

عادة ما يعكس الوضع العمالي الواقع الفعلي للدولة والمجتمع. وليس سراً أن الواقع العمالي في لبنان ليس بخير منذ ما قبل الأزمة الحالية، وخصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار صغر سوق العمل اللبناني والتشوهات البنيوية القائمة فيه؛ لجهة غلبة قطاع الخدمات وحجم العمل غير النظامي ونسبة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر، وكذلك محدودية الحماية الاجتماعية للعمال، وضعف الإطار القانوني الناظم لعلاقات العمل، وبالأخص عدم احترام المبادئ والحقوق الأساسية في العمل بما في ذلك حق التنظيم والمفاوضة الجماعية. هذه الأسباب، مع أسباب أخرى، أدت إلى شلل كبير في قدرة الحركة النقابية على تطوير قدراتها عبر توسيع تمثيليّتها لتضمّ إلى صفوفها فئات من العمال لا تزال محرومة من حقوقها النقابية (كالعمال المهاجرين والموظفين في القطاع العام مثلاً) بما يمكنها من تحقيق العدالة الاجتماعية والعمل اللائق.

وقد أتت الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية والصحية الحالية لتفاقم من تردي أوضاع العمال، وبيّنت بوضوح نقاط العجز في النموذج التنموي والاقتصادي القائم، والتي يجب العمل على معالجتها بسرعة عبر تبني سياسات تستهدف دعم انتعاش قوي وواسع القاعدة يركز على فرص العمل والدخل وحقوق العمال والحوار الاجتماعي، وسياسات محورها الإنسان تستهدف الفئات الأشد تضرراً: كالنساء والشباب والعاملين ذوي المهارات الضعيفة والأجور المتدنية والعمال المهاجرين واللاجئين. لذلك، تعمل المنظمة مع أطراف الإنتاج الثلاثة في لبنان من أجل اتباع سياسة ملائمة للاقتصاد الكلي لدعم الدخل والاستثمارات تبعاً للموارد المتوفرة والممكنة وبالأخص سياسة تشغيل وطنية، وإصلاح تشريعات العمل لتتوافق مع معايير العمل الدولية، وتطوير منظومة الحماية الاجتماعية وضمان دعم الفئات الأشد تضرراً (خصوصاً الشباب والنساء والعمال ذوي الأجور والمهارات المتدنية) في إيجاد وظائف لائقة وعدم تعرضهم لأي آثار على المدى الطويل، وتحقيق توازن بين احتياجات شتى القطاعات مع اتخاذ تدابير فعالة في مجال السياسة العامة دعماً للمنشآت (ولا سيما الشركات الصغيرة) ولعمليات انتقال العمال إلى سوق العمل، وتنفيذ استراتيجيات للانتعاش تستند إلى الحوار الاجتماعي وتعزّز التحوّل إلى عالم عمل شامل ومرن ومستدام.



عمّال النظافة اللبنانيون: «بدنا وقت لنتعوّد»!

رحيل دندش

يُسهب قاسم علام في رواية تفاصيل «الرحلة» التي قادته إلى عمله الحالي، عامل نظافة في شركة «سيتي بلو»: «عملت مشرفاً على مطعم الأطباء في مستشفى الحريري الحكومي تسع سنوات، وتوقفت بعدما بدأ تعثر دفع الرواتب للمتعاقدين. اشتغلت عنصر مكافحة في الريجي لسنة إلى أن صرفت الإدارة 40 موظفاً كنت من بينهم. بعدها، عملت مساعد أستاذ في مستشفى الكفاءات الاجتماعية للاحتياجات الخاصة خمس سنوات إلى أن وجدت نفسي بين 35 مصروفاً قبل 17 تشرين الأول بأيام». كل عمليات الصرف هذه «لم تترافق مع تعويضات صرف أو غيرها من الحقوق». في أيلول الماضي، بدأ علام عمله الجديد. «بالتأكيد، كثر من حولي لا يتقبلون فكرة أنني صرت عامل نظافة»، المهنة «الموصومة» في المجتمع اللبناني.

«صرنا فقراء، علينا أن نعترف بذلك»، يقول. لكنّ واحدة من الصعوبات التي تواجهه هي أن يشرح للناس أنه لا يجد حرجاً في عمله الجديد، لأن «الناس بتحب البرستيج». وهو يتقاضى مليوناً و200 ألف ليرة شهرياً، «والحمد لله أنني لا أزال عازباً. أي عاقل يتزوج في ظروف كهذه؟».

الوضع أكثر صعوبة بالنسبة إلى ربّ العائلة حسن حمود. «ماذا يفعل المليون و200 ألف ليرة في مثل هذه الأحوال؟»، يسأل، ويجيب: «أسدد بدل إيجار المنزل. أما الأكل فمندبّر حالنا». لحمود «رحلة» مشابهة لـ«رحلة» علام: «عملت في قسم الصيانة في الجامعة الأميركية، بلا تأمين أو ضمان اجتماعي. قدمت استقالتي وسافرت لأجرب حظي، لكن ما مشي الحال. عملت بعد عودتي موظف أمن في شركة سوكلين. بعدما أُقفلت الشركة، نُقلنا إلى سيتي بلو وصرت عامل نظافة».

علام وحمود من بين آلاف قادتهم عمليات الصرف الجماعي في مئات الشركات إلى تقديم طلبات عمل لدى «سيتي بلو» بعدما «هجرها» نحو 1200 عامل نظافة أجنبي في الأشهر الأخيرة من عام 2020 بعد تدنّي قيمة الليرة اللبنانية. ما إن أعلنت شركتا جمع النفايات، «رامكو» و«سيتي بلو» عن حاجتهما إلى عمال نظافة، حتى «اصطفت طوابير من المتقدمين إلى العمل»، بحسب مدير «رامكو» وليد بو سعد. إذ «تقدم نحو 1200 شخص للعمل، بقي منهم 400 فقط. والغالبية منهم عملوا أسبوعاً أو اثنين قبل أن يتركوا». والسبب؟ «العمل جديد على اللبنانيين وهو متعب وليس لكثيرين طاقة عليه».

آلاف تقدموا للعمل لدى شركتَي جمع النفايات في مهن كانت تقتصر على عمال أجانب

بدوره، مدير شؤون العمال اللبنانيين في «سيتي بلو» عصام حجار لفت إلى أن الإقبال على تقديم الطلبات «كان كبيراً في البداية. تقدم نحو 800 شخص للعمل، بقي منهم 300»، مشيراً إلى أن «كثيراً من العمال اللبنانيين غير جديين. يتغيّبون كثيراً ويهدرون الوقت على الهاتف وبدهم عزيمة على الشغل».

تشكو الشركتان من استقالة كثيرين بعد فترة وجيزة من انضمامهم إلى العمل «رغم بعض التحفيزات كزيادة الراتب، التسجيل في الضمان بعد 3 أشهر فضلاً عن التأمين من مخاطر العمل والأمراض المهنية»!

أسباب «الفرار» كثيرة، بحسب «الفارين»، منها الدوام الطويل ( 9 ساعات تمتد أحياناً إلى 11 ساعة)، والرواتب التي لا تتناسب مع الارتفاع المتصاعد لكلفة المعيشة، إضافة إلى النظرة المجتمعية التي تُعيب العمل في مجال النظافة. مع العلم أن «الشركة تأخذ في الاعتبار المكان الذي يرغب العامل العمل به»، بحسب حجار، موضحاً أن «من لديه حساسية من العمل في منطقة قريبة من سكنه نؤمن العمل له في منطقة أخرى مع إمكانية المبيت»، فيما يشير بو سعد إلى أن من يتقدم إلى هذا العمل «يفترض أن يكون قد رمى موضوع الحرج خلف ظهره».

أحد العمال ممن التحقوا بإحدى الشركتين حديثاً يؤكد أن «كنس الطرقات أهون من العتالة أو من حمل الباطون». لكن، «بسبب نظرة الناس أضطر إلى المبيت في الشركة في بيروت حيث أعمل بعيداً عن ضيعتي في الشمال. هنا لا يعرفني أحد»، يقول. ويؤكد: «الشغل مش عيب. بغير بلدان عمال النظافة هم من أهل البلد أنفسهم. لكن نحنا مش معودين. يمكن بدنا وقت».



المياومون في الوظيفة العامة: عندما يصبح الحزب ربّ العمل

فاتن الحاج

عيد العمال يحل ضيفاً ثقيلاً على المياومين في الوظيفة العامة. اسم بلا مسمّى. إذ يُحسم هذا اليوم من راتب العامل بالساعة أو الفاتورة، وينكأ جراح فئة «عمالية» تعيش على إيقاع القلق الدائم من «تطييرها» وخسارة عملها، والحاجة الدائمة إلى نيل رضى الرئيس المباشر في العمل، أو «ولي النعمة» في التنظيم السياسي.

انقلب المشهد في الوظيفة العامة بعدما تحوّل التعاقد (أجازه نظام الموظفين بالمرسوم الاشتراعي 112 /1969 بضوابط)، من استثناء يلجأ إليه الوزير في حالات محددة (تتطلب معارف أو مهارات أو مؤهلات خاصة)، إلى قاعدة. وتعددت صيغ الالتحاق بالوظيفة العامة من «غب الطلب» إلى «العمل بالفاتورة» إلى «التعاقد بالساعة»، وتُدرج بمجملها تحت مفهوم «المياومة»، وهي عمل مؤقت لا يستوجب عملاً دائماً ويُحرم المياوم من التقديمات الاجتماعية ونهاية الخدمة.

«لا يمكن تحميل المتعاقد، كل الوقت، انعكاسات سياسة التعاقد على أداء الإدارة العامة»، يقول رئيس حراك المتعاقدين في التعليم الثانوي الرسمي حمزة منصور. إذ أن «أركان السلطة السياسية ابتدعوا هذه الصيغة الوظيفية لإعفاء أنفسهم من متوجبات الراتب الشهري والضمان الصحي والتقديمات الاجتماعية، واتفقوا على إلغاء دخول الوظيفة العامة عبر مجلس الخدمة المدنية لإبقاء المتعاقد والمياوم تحت رحمتهم، وأفقدوا المتعاقدين أي حافز لتطوير أنفسهم بسلبهم الأمان النفسي والاستقرار الوظيفي».

في نهاية كل عام، يعيش المتعاقد مع الإدارة العامة «قلق عدم رضى الوزير عليه وإمكان فسخ عقده»، على ما يقول المتعاقد مع وزارة الزراعة منذ عام 2008 أحمد كاملة، مشيراً إلى أن المتعاقد، بخلاف موظف الملاك، «يعاني الأمرّين في الحصول على التقديمات الصحية والاجتماعية من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة».

في التعليم الأساسي الرسمي، مثلاً، المتعاقدون هم الكتلة الأكبر من المعلمين بنسبة تلامس 70 في المئة، ولا يمكن الاستغناء عنهم بسهولة. إلا أن الدولة تخلّت عن مسؤولية توزيع الساعات التعليمية عليهم، و«سلّمت» هذه المهمة للأحزاب السياسية النافذة. «الكلمة الفصل في إعطاء ساعات للمتعاقدين أو سحبها منهم تعود إلى المسؤول التربوي في الحزب السياسي لا للمدير»، كما تؤكّد رئيسة اللجنة الفاعلة للمتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي نسرين شاهين، «ويكون المتعاقد محظوظاً حين يكون منتمياً إلى المرجعية السياسية نفسها التي ينتمي إليها مدير المدرسة ورئيس المنطقة التربوية».


تُحسم عطلة عيد العمال من راتب العاملين بالساعة أو الفاتورة!

سياسة التعيين عن طريق حشو الأتباع في الإدارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة تحت اسم «مياومين» ترسخت بديلاً للملاك الوظيفي، أو ممراً إلزامياً وحيداً لدخول جنة هذا الملاك عبر المباراة المحصورة بالمتعاقدين كما هي الحال في قطاع التعليم. وهذا ما يفسّر التعاقد مع أكثر من 200 أستاذ في التعليم الثانوي الرسمي عام 2019، بحصّة واحدة أسبوعياً لكل منهم. إذ يراهن هؤلاء على المباراة المحصورة وتشكيل حالة مطلبية تقود إلى التثبيت في الملاك.

«المستعان بهم» بدعة أخرى ابتكرت بصورة مؤقتة عام 2015 لانتظام سير الدراسة. لكن سرعان ما تحول هذا التوصيف الوظيفي إلى أحد أبواب التنفيعات. و«المفارقة العجيبة»، بحسب مسؤول لجنة المستعان بهم حسن سرحان، «أننا مسؤولون تجاه الدولة اللبنانية ونقبض من الجهات المانحة الدولية».

وفيما تلامس نسبة الشغور في ملاك الوظيفة العامة نسبة الـ60 في المئة، أظهرت أرقام لجنة المال والموازنة في أيار 2018، بناءً على التقرير الموحد للتفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، أن عدد من وُظفوا بعد 21 آب 2017، تاريخ صدور قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي نص على وقف التوظيف، بلغ 5473 متعاقداً. من هؤلاء 460 فقط جرى توظيفُهم وفقاً للأصول بتسميات وظيفيّة تنطبق على التوصيف الوظيفيّ، و5013 وُظّفوا خلافاً للأصولِ بتسمياتٍ مُختلفة: «شراء خدمات»، «مُياوم»، «متعاقد على مُهمّة»، «عامل بالفاتورة»، و«مُستعانٍ بِه». كما تبين للجنة أن عدد من توظفوا قبل 21 آب 2017، من دون مراعاة القوانين والأنظمة، بلغ نحو 32 ألفاً.

«فُرمل» التعاقد، عملياً، في المادة 51 من موازنة عام 2019 التي منعت التوظيف والتعاقد بكل أشكاله ومسمياته في القطاع العام بما فيه السلكان التعليمي والعسكري لمدة ثلاث سنوات باستثناء الفئة الأولى ورؤساء وأعضاء المجالس والهيئات. وبحسب مصادر في ديوان المحاسبة، تضطلع النيابة العامة والغرفة المختصة في الديوان حالياً بمهماتهما الرقابية على التوظيف والاستخدام المخالفين للقانون، وتعكفان على دراسة كل حالة من حالات التوظيف في القطاع العام على حدة وتصدر القرارات بشأنها أولاً بأول، في محاولة للمساهمة في الحد من إهدار المال العام.



العاملات الأجنبيّات: عاصفة الانهيار تهبّ مرتين

يارا سعد

منذ بداية 2021، استقدم لبنان 600 عاملة منزلية مهاجرة بعدما كان الرقم يناهز الـ 17 ألفاً شهرياً. هذا الانخفاض «الطبيعي» نسبةً إلى الأزمة التي فتكت بالبلاد التي تملك تاريخاً طويلاً من «استعباد» العاملات المنزليات، يترافق مع انتهاكات «إضافية» لحقوقهن، ما يحمّلهن عبئاً مضاعفاً

لم توفّر الأزمة أحداً من المقيمين في لبنان، لكنّ وطأتها على العاملات الأجنبيّات كانت أكبر، كونهن «فئة هشّة ومستضعفة، وأيّ أزمة تعرّضهن تحديداً لمزيد من الانتهاكات» كما تقول الاختصاصيّة الاجتماعيّة في وحدة مناهضة الاتجار في جمعيّة «كفى» غنى العنداري. «وهذا ما شاهدناه عندما تُركت العاملات في الشّوارع وقرب سفارات بلادهن من دون مأوى بعد إغلاق مطارات العالم بسبب انتشار كورونا، وتوقّف أصحاب العمل عن دفع رواتبهن».

غادرت صفيّة لبنان بعد ارتفاع سعر صرف الدّولار وتوقّف صاحب العمل عن دفع راتبها. بعد ثلاث سنوات قضتها في العمل لديه، عادت إلى وطنها بمبلغ صغير، وبأمل أن «الكفيل» سيرسل إليها، تباعاً، أجرها الشّهري الذي كانت «تصمّده» معه منذ بدأت عملها. من بلدها، حاولت الاتّصال به مراراً، لكنّها لم تلق إلّا «البهدلة» قبل أن يحظر رقمها على تطبيق «واتساب».

صفيّة واحدة من كثيرات «أُكِل حقّهنّ» لأنّهنّ لا يعرفن إلى أيّ جهة يجب أن يتقدّمن لتحصيل حقوقهنّ، «فمن دون جمعيّة أو سفارة لن تقدّم العاملة دعوى ضد صاحب عملها»، تقول العنداري. «وحتّى العاملات اللّواتي لجأن إلى الجمعيّات لمساعدتهنّ على رفع دعاوى، لم يصلن إلى أيّ حلّ بسبب الوضع الاقتصاديّ. إنّه مسار طويل».

حاولت وزارة العمل التّدخّل بين أصحاب العمل والعاملات الأجنبيّات، «ووجّهنا العاملات إلى تقديم دعاوى على أصحاب العمل المتخلّفين عن الدّفع»، تقول المديرة العامة لوزارة العمل بالإنابة مارلين عطالله، «لكن، كنّا أحياناً نصل إلى حائط مسدود»، لأنّ امتناع البعض عن تسديد متوجّبات العاملات لم يكن بدافع «الاستغلال»، بل بسبب الوضع الرّاهن وتهاوي قيمة الليرة. بحسب عطالله، صاحب العمل الّذي لا يدفع للعاملة يوضع اسمه على «لائحة سوداء»، فلا يحقّ له استقدام عاملة جديدة ما لم يدفع كلّ استحقاقات العاملة القديمة.


استقدم لبنان 600 عاملة أجنبية منذ مطلع السنة مقابل 17 ألفاً شهرياً قبل الأزمة

التساهل مع انتهاك حقوق العاملات المُغلّف بـ «تفهّم» ظروف صاحب العمل ليس غريباً على الوزارة التي تقول إنها تنسّق منذ بداية الأزمة مع السفارات وهيئات المجتمع المدنيّ والدّوليّ والأمن العام لتأمين رحلات طوعيّة للعاملات وتسهيل الرّسوم أو تمديد المهل، إضافة إلى تطوير الخطّ السّاخن 1741 لتلقّي الشّكاوى، والتّدخّل الفوري في بعض الحالات، كتأمين ملجأ للعاملة. وفق عطالله، هذه الإجراءات أدّت إلى «حلّ عدد كبير من المشاكل»، لأنّ الّذين أبقوا على العاملة المنزليّة هم فقط من يمكنهم أن يدفعوا لها، أمّا الّذين فقدوا قدرتهم على الدّفع فخيّروا العاملة بين العودة إلى بلدها، أو الانتقال إلى صاحب عمل جديد. وقد انخفض استقدام العاملات الأجنبيّات إلى «600 عاملة شهرياً مع بداية السّنة الحاليّة، بعد أن بلغ ذروته سنة 2017 الّتي سجّلت استقدام 17 ألف عاملة شهرياً» بحسب نقيب أصحاب مكاتب استقدام عاملات المنازل علي الأمين.

وإلى أولئك اللواتي غادرن من دون الحصول على كامل حقوقهنّ المادّيّة، هناك عاملات اضطررن إلى العودة إلى بلادهنّ مرغمات. حنان (اسم مستعار)، كانت مرتاحة في عملها، لكن مع ارتفاع سعر صرف الدّولار، صار راتب أصحاب العمل يساوي راتبها، فخيّروها بين أن تبقى في لبنان وتصبر عليهم إلى حين تحسّن الظّروف أو المغادرة. اختارت المغادرة بعد إصرار زوجها عليها للذهاب إلى دولة عربيّة أخرى تُدفع فيها الأجور بالدّولار. وهي اليوم تنتظر «على أحرّ من الجمر»، تحسّن الوضع الاقتصادي لترجع «فوراً» إلى لبنان.

ومع أنّ الأزمة الاقتصاديّة وانتشار فيروس كورونا، كانا عاملين أساسيَّيْن في تفاقم مشاكل العاملات، إلّا أنّ «مصدر» الغبن الثابت اللاحق بهن يبقى نظام الكفالة الّذي يسمح بـ«استعبادهن» واستثنائهن من قانون العمل. لذلك، يبقى الحلّ الأساسي، بمعزل من أي ظروف طارئة، هو «تغيير نظام الكفالة»، وفق العنداري مُشيرةً إلى أن «نموذج العقد الموحّد للعاملات الأجنبيّات الّذي وضعته وزارة العمل، لم يكن كما نريد تماماً، غير أنّه خطوة للأمام». إلا أن العمل بهذا العقد متوقّف في انتظار بتّ مجلس شورى الدّولة، بعدما قدّمت نقابة أصحاب مكاتب استقدام عاملات المنازل طعناً فيه. ويقول الأمين: «نحن مع وجود عقد موحّد يحفظ حقوق العاملة، لأنّها ليست جماداً نستورده، لكنّنا طعنّا في العقد بسبب إشكاليّة الصّياغات وتحديد المسؤوليّات. السّفارات والدّول الّتي نستقدم منها العاملات لديها عقود مختلفة عن عقد وزارة العمل، فما أهمّيّة عقد موحّد في لبنان، فيما العقد مع الدّول مختلف؟». تختم العنداري بأنه «حتّى تغيير النّظام غير الأخلاقيّ الّذي يعرّض العاملات للانتهاكات، يجب التّوقف عن استقدام مزيد من العاملات. ما نحتاج إليه هو التّعامل مع العمل المنزليّ على أنّه عمل له قيمته وتؤدّيه العاملة مقابل أجر، وليس حسنة من صاحب العمل».



العمال السوريون: قدمٌ في البلد الأم وأخرى في المجهول

محمد علي دياب

في كتابه «تطوّر الطبقة العاملة اللبنانية في الرأسمالية اللبنانية المعاصرة»، يشير الباحث اللبناني علي الشامي إلى العلاقة التاريخية التي تربط العمالة السورية بسوق الإنتاج في لبنان على اختلاف تفرعاته. مرفأ بيروت كان واحداً من تجليات هذه العلاقة؛ إذ كان السوريون، بحسب الشامي، يشكلون ثلث القوة العاملة فيه. والأمر نفسه ينسحب على بقية القطاعات الإنتاجية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، مع انطلاق النهضة الاقتصادية في لبنان، والتي شكل العمال السوريون والفلسطينيون إحدى أهم ركائزها. واحد من جملة أمثلة حملها تاريخ كان بمثابة حبل سري تشاركه اللبنانيون والسوريون في السراء والضراء.

نتيجة يعرفها نور نصار جيداً. بعد غياب لسنوات، عاد الشاب العشريني الى بلدته في السويداء. 5 سنوات أمضاها في لبنان بحثاً عن «حياة جديدة». سنوات أشبعت ذاكرة طالب هندسة الاتصالات بالذكريات والتجارب.

مطلع عام 2016، قرّر نور تجميد دراسته الجامعية. حزم حقائبه ومضى الى وجهته الجديدة. في شارع الحمرا كانت البداية في مدينة غريبة. «كان الوضع صعباً للغاية». انتابته حالة نفسية سيئة انتفت معها لديه أي رغبة في العمل أو الإندماج في المجتمع المضيف. استمر على هذه الحال شهرين كاملين، إلى أن قرر «التحرك». فالظروف المعيشية في لبنان لا تحتمل التلكؤ أو الكسل.

كل شيء سار بشكل طبيعي. عمله في أحد مطاعم الجميزة، شرق بيروت، أمّن له نوعاً من الاستقرار المادي، وأفسح له المجال لاكتساب «خبرات جديدة»، يقول إنها كانت وسيلته الوحيدة للاستمرار. فالعيش في بيروت مختلف عن دمشق التي يعرفها. «بيروت مدينة ضبابية... بتضيع فيها إذا ما كنت قد حالك».

مساء الرابع من آب 2020 كان توقيتاً فارقاً في حياة سكان بيروت ومن بينهم نور. انفجار ضخم هزّ مرفأ العاصمة والمدينة كلها، مخلّفاً كارثة غير مسبوقة. أمتارٌ قليلة تفصل مكان عمل نور عن موقع الانفجار، ووحدها العناية الإلهية أنقذته... إلا من بتر في أصابع اليد اليمنى وعطل دائم في القدم.

نجح العلاج الفيزيائي في تخفيف الأضرار بدرجة كبيرة، إلا أن ما حصل دفع نور الى التفكير جدياً في تغيير مسار حياته. خسارة العمل والوضع المعيشي الصعب الناجم عن انهيار الاقتصاد اللبناني تركاه أمام خيارين لا ثالث لهما: البقاء - وهو أمر شبه مستحيل في ظروفه - أو العودة إلى سوريا. جمع «تحويشة العمر»، وزاد عليها بعضاً من مدّخرات العائلة لدفع بدل خدمة العلم (7000 دولار)، وعاد إلى السويداء حيث أسّس عملاً جديداً يأمل أن يعوضه عن سنين الغربة.

مبلغٌ يعجز أحمد عن تأمينه رغم أنه سبيله الوحيد للعودة إلى الرقة (شمال شرق سوريا). فحسابات رب العائلة تختلف عن حسابات الأعزب. أربعة أطفال وزوجة هم عائلة أحمد التي قرر إبقاءها في لبنان أمام ناظريه أياً كانت الظروف. 10 سنوات مضت على وجوده في بيروت، عمل خلالها أميناً لمستودع مؤسسة تجارية، قبل أن يضطر إلى البحث عن مصدر رزق جديد بعد إقفال المؤسسة أبوابها.

«منشتغل يوم ومنقعد عشرة»، يقول أحمد الذي انتقل للعمل في «الفعالة» التي بالكاد تكفي لسد رمق عائلته. ارتفاع الأسعار وتدني قيمة الدخل جعلا من مهمة النهوض بأعباء العائلة أمراً صعباً، خصوصاً أن «اليومية» لا تتجاوز في أغلب الأحيان 50 ألف ليرة، أي أربعة دولارات، وهو رقم لا يساوي ثلث ما كان يتقاضاه العمال السوريون سابقاً، ولا يكفي لشراء عبوة زيت.

الواقع الذي قرر أحمد التأقلم معه لم يكن مناسباً لحمزة السيد. الثلاثيني، والأب لطفل واحد، استأجر لعائلته الصغيرة منزلاً متواضعاً في مسقط رأسه في درعا جنوب البلاد، لتكون قرب من أهله الذين سبقوه في العودة قبل 4 سنوات.

إجازة الاقتصاد التي يحملها لم تمنحه فرصة عمل ملائمة، ما اضطره إلى العمل في مهنة الحجر الصخري. مهنةٌ تحتاج إلى كثير من الجهد العضلي، ضمنت حياة كريمة لعائلته، وكان يعمل خمسة أشهر ويرتاح بقية العام في انتظار الموسم الجديد.

هذه الرفاهية لم تعد متاحة اليوم، الـ3000 دولار التي كان يتقاضاها صارت حلماً. انهيار العملة اللبنانية جعلها تعادل نحو 300 دولار، تذهب مئتان منها لإعالة عائلته وأهله في سوريا، فيما يكتفي هو بالمئة الباقية لتأمين مأكله ومشربه... في انتظار أول دولة أوروبية تفتح له أبوابها، فلبنان لم يعد صالحاً للعيش، «بيروح عمرك وإنت بمكانك».

نور، أحمد وحمزة، نماذج عن واقع العمال السوريين في لبنان، خصوصاً في ظل الأزمة الآخذة في التفاقم. هؤلاء عالقون اليوم في دوامة الخيارات، «قدمٌ في سوريا وأخرى... في المجهول».

المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات (مروان بو حيدر)
المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات (مروان بو حيدر)


عمّال النظافة اللبنانيون: «بدنا وقت لنتعوّد»!
عمّال النظافة اللبنانيون: «بدنا وقت لنتعوّد»!


المياومون في الوظيفة العامة: عندما يصبح الحزب ربّ العمل
المياومون في الوظيفة العامة: عندما يصبح الحزب ربّ العمل


العاملات الأجنبيّات: عاصفة الانهيار تهبّ مرتين
العاملات الأجنبيّات: عاصفة الانهيار تهبّ مرتين


العمال السوريون: قدمٌ في البلد الأم وأخرى في المجهول
العمال السوريون: قدمٌ في البلد الأم وأخرى في المجهول


تعليقات: